موزاييك جوليا بطرس

07 اغسطس 2018
+ الخط -
توجد في مدينة صور الجنوبية حلبة سباق العربات الرومانية التاريخية في موقع آثار البص الذي يعود إلى القرن الثاني- ميلادي. وهي تعدّ أكبر حلبة من نوعها ما زالت محفوظةً حول العالم، وقد تم تصنيفها منذ 1984 ضمن قائمة مواقع التراث الثقافي العالمي لمنظمة يونيسكو، وهي تخضع بالتالي لاتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي (1972).
في هذا المكان بالذات، أقيم مسرحٌ لكي تحيي المغنّية الثورية الوطنية والملقّبة سيّدة المقاومة اللبنانية، جوليا بطرس، حفلتها الغنائية ضمن مهرجانات صور الدولية، حيث وقفت أمام حضور هائل، أجبر المسؤولين على إغلاق مداخل المدينة، وعدم فتحها إلا لمن قدموا إلى الحفل، وقد تجاوز عددهم ثلاثة عشر ألف شخص، وكان في مقدمتهم رئيس مجلس النواب، نبيه بري، وعقيلته رئيسة المهرجانات رندة عاصي. قيل إن الجمهور الجنوبي استقبل "سيدة المقاومة" بحفاوةٍ لم يسبق لها مثيل، بعد غيابها عنه منذ التسعينيات، هي التي غنّت، ساعتين، أغانيَ قديمة وجديدة بمرافقة الأوركسترا الفيلهارمونية الأرمينية، وكورس بلغ عدده نحو 170 شخصا.
بعد انتهاء الحفل الذي أقيم يوم السبت 21 يوليو/ تموز، غادرت المغنّية لإحياء حفل مماثل في عمّان، في حين رفعت الستارة عمّا جرى في الكواليس، وعمّا أنزله حفلها "الناجح" جدا، في الموقع الأثريّ. وهو ما تناقله الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، مع توثيق بالصور والمعلومات، وفي مقدمتهم هشام يونس على صفحته في "فيسبوك"، حيث لاحظ عددا من الانتهاكات التي ألحقت بالموقع، منها إدخال آلياتٍ ثقيلةٍ إلى حرمه، لتفكيك المنشآت الثقيلة والشاشات العملاقة التي أقيمت فوق الموزاييك الهشّ والمدرجات، وبالقرب من كنيسة الشهداء الأثرية العائدة إلى القرن الثالث ميلادي، والحاوية آثار الحجّاج إلى صور والأراضي المقدسة مئات السنين، ونقل أحجار أثرية من موقعها لتسهيل إقامة المدرّجات.
بالطبع، وزارة الثقافة – المديرية العامة للآثار هي التي أذنت للجنة مهرجانات صور الدولية بإقامة الحفل في الملعب الروماني. وعند انتشار خبر الأضرار، اكتفت بإصدار بيانٍ قالت فيه إن "وزارة الثقافة تشكر جميع المواطنين لحرصهم واهتمامهم، وتعمل جاهدةً للحفاظ على الإرث الوطني وحمايته، وسوف تقوم بإلزام الشركة المتعهّدة تصليح الأضرار، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه"، مضيفة أنها بالفعل رصدت بعض المخالفات في أثناء تفكيك الإنشاءات، على مساحة محدودة وضيقة، وقد فتحت تحقيقا بالموضوع، ليُبنى على الشيء مقتضاه.
وفي لبنان، كما نعلم، لطالما بُني على الشيء مقتضاه، ولسنا ندري كيف يمكن لمن آذى موقعاً ذا قيمةٍ تاريخيةٍ ومعنويةٍ كبيرة أن يُصلح ما أوقعه فيه من أضرار؟ فهل سيعمل عمّال التفكيك مثلا على إعادة رصف حجارة الموزاييك الصغيرة المتكسّرة في عدة مواضع، في مكانها؟ وليس النّيل من المواقع الأثرية الكثيرة في لبنان حكرا على لجنة مهرجانات دون أخرى، مع الإشارة إلى وجود تفاوتٍ يظهر في مستوى ثقافة التنظيم وإبداء الحرص وأقدمية الممارسة. ومع ذلك، هناك شعور معمّم في لبنان بأن زعماء المنطقة وأهاليها، حيث يقوم الموقع الأثري، يملكون حرّية التصرّف فيه، فيما هم لا يستوعبون أنه ليس من التراث الوطني فحسب، بل من التراث العالمي، الثقافي والإنساني على السواء. أجل، ليست قلعة بعلبك ملكا لزعماء بعلبك، ولا قلعة صور لقيادات صور، ولا غابة الأرز لزعامات بشرّي، كما هي حال مبنى البانتيون في أثينا، أو كنيسة سيستين في الفاتيكان، أو الجامع الأزرق في إسطنبول...
والحاصل، لقد غنّت جوليا بطرس في صور وألهبت المشاعر الوطنية والحماسية، فنرجو أن يُلهب، بالقدر نفسه، مشاعرَها خبرُ الأضرار التي ألحقها حفلُها بحلبة سباق العربات الرومانية.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"