11 سبتمبر 2024
موريتانيا.. تعديل الدستور ومستقبل الرئيس
يتكرّر المشهد في كل الجمهوريات العربية التي لا تملك من مفردة الجمهورية إلا الرسم. يلجأ الرؤساء إلى فرض أمر الواقع، وبتحالف قوى العسكر معهم، يبسطون أيديهم على كل شيء تطاوله، وأولها الريع والمزايا، ويتعدّون على إرادة الشعوب التي تُصادر لتجعل منها السلطات صكّ ابتزاز تستصدره في كل حين مرة. مستفيدة من حالة التشظي العربي، ومُهدِّدَة بعدم الاستقرار الذي تشهده بلدان عربية. لم تشذ جمهورية موريتانيا عن القاعدة. دعا الرئيس محمد بن عبد العزيز في حملةٍ جنَّد لها حكومته، ومنابر إعلامه، لتعديل دستوري يكون موعده يوم أمس، 5 أغسطس/ آب 2017، يُستفتى فيه العامة على دستور سُطِّرت بُنُوده تسطيرا، وزيدت ونقحت أو أنقص منها لتكون على ولاية الرئيس بردا وسلاما.
حين تطالع مذكّرات مؤسس الدولة الموريتانية "موريتانيا على درب التحديات"، ( 669 صفحة)، ينتابك شعور بأن مختار ولد داده نهض من قبره ليسرد عليك قصة مسيرة طويلة من المعاناة. ولادة عسيرة لدولة وجدت من العدم. هذا الرجل القادم من صحراء بوتيليميت وسط غربي البلاد، وانتخب في أغسطس/ آب 1961. كان أول رئيس لجمهورية موريتانيا الإسلامية، وأُطيح في انقلاب عسكري في يوليو/ تموز 1978 . لم ينضج له مشروع موريتانيا على نار هادئة، فزمهرير الصحراء وقرّها، لم يوفرا لنار موقده سكينة ولا استقرارا. عبثت زوابع شحّ الموارد الاقتصادية أو كادت بطلائع مشروع الدولة. حرث، هو ورجاله، البحر، لينتزعوا استقلالهم من فرنسا. بنوا عاصمتهم نواكشوط من ذرات الرمال التي تذروها الرياح. تحدّوا رفض دول الإقليم جمهوريتهم الوليدة، وجابهوا عدم الاعتراف بها بالإصرار.
عصفت، بعد 1978 رياح الانقلاب بمؤسسي الجمهورية، ودخلت البلاد في انقلابات متتالية،
آخرها صعود محمد ولد عبد العزيز إلى الحكم في 6 أغسطس/ آب 2008. استطاع الرجل سريعا، وهو ثامن رئيس لموريتانيا منذ الاستقلال، وسادس رئيس عسكري، أن يتحكّم في مفاصل السلطة. دعا، في 2016، إلى انتخابات من أجل تعديل الدستور، يكون موعدها أغسطس/ آب 2017، وتشمل التعديلات إلغاء غرفة مجلس الشيوخ في البرلمان وإنشاء مجالس جهوية، وإضافة خطين أحمرين على العلم الوطني. كما تشمل دمج مؤسسات دستورية، منها المجلس الإسلامي الأعلى ومؤسسة وسيط الجمهورية في المجلس الأعلى للفتوى والمظالم. تحضيرا لذلك، نظمت جلسات حوار وطنية دُعيت إليها الموالاة والمعارضة، وهي المعارضة التي اعتبرت الدعوة مجرد ذرٍّ للرماد في عيون الناس، من أجل التمويه عمّا يتم إعداده في الخفاء من تعديلاتٍ دستورية، تخدم السلطة وتوافق هواها.
ازداد المشهد السياسي الموريتاني سخونة، حين عارض تعديلات الدستور أعضاء مجلس الشيوخ، وهم من صف موالاة الرئيس. ذلك أن التعديل يُلغي مجلسهم، ويلغي بالتالي مناصبهم وامتيازاتهم. وهو ما دعاهم إلى عدم الاعتراف بما سيترتب على هذا المسار غير الدستوري، وفق قولهم. كان رأي بعض من الموالاة للدفاع عن مصالح ذاتية، تماهت مع مصالح السلطة زمنا طويلا، كان فيه مجلس الشيوخ مجرد مجلس "موافقة" لمشاريع قوانين تعدّها السلطة، وحارس معبدها التشريعي. ساءت علاقة مجلس الشيوخ بالرئيس محمد ولد عبد العزيز، بعد أن رفض المجلس تعديلاته الدستورية. حينها ألَّب الرئيس إعلامه وترسانته القانونية، لإطاحة الشيوخ الذين قال إنه يرفض اختطافهم البلد.
من يختطف موريتانيا؟ رئيس وصل إلى كرسي السلطة بانقلاب، وثبت نفسه عليه بانتخاباتٍ مطعون في نزاهتها، وارتهن سيادة الدولة لأنظمة خارجية، تبدّت أكثر في الأزمة الخليجية أخيرا بقطع موريتانيا علاقتها بقطر. أم مجلس شيوخ تنبه أخيرا لكرامته المهدورة من رئيسٍ يريد كعكعة السلطة كلها، لا نصفها أو ربعها. ويتفاجأ الرأي العام المحلي من موقف مجلس الشيوخ، فهو لم يكن يرى في المجلس سوى امتداد لسلطةٍ لم تستطع تحقيق التنمية، ولا إنقاذ الناس من العوز والظلم.
تطل الانتخابات الرئاسية من بعيد (مقررة في 2019). لم تُحدّد معالمها بعد، وهي التي يُفترض أن تسفر عن انتخاب رئيس آخر، غير محمد ولد عبد العزيز. تقول المعارضة إنها لا تفهم الغرض من التعديلات المقترحة في الدستور الجديد، ولا سببها، وتتخوف من إدخال البلاد في حالةٍ من عدم الاستقرار في العامين المقبلين. يقول عارفون إن من غير المستبعد أن تكون صرعة التغييرات التي يصرّ الرئيس على تمريرها إما منفذا له، للاستمرار في الحكم، بإزاحة العراقيل التي تعترض بقاءه في السلطة بعد 2019. أو تمهيدا لتسليمها لغيره، ممن يرضى عنهم، ليكون هذا مجرد واجهة، ويكون الحكم بيد عبد العزيز.
لا تعترض الكتل السياسية الموريتانية التي تضم أبرز أحزاب المعارضة، وبعض هيئات
المجتمع المدني، على تعديل الدستور فقط، بل أيضا على المسار السياسي برمته، فعلى الرغم من مشاركة جزء منها في حوار سياسي جرى في سبتمبر/ أيلول 2016، وصدر عنه مقترح تعديل الدستور، إلا أن غياب أبرز الكتل المعارضة، المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة، الذي يضم مجموعة أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات وطنية، جعلت ما سمي حينها "الحوار الوطني الشامل" يُفسّر على أنه حوار أحادي، تم فيه تزكية مقترحاتٍ قدمتها الحكومة، وأُفرغت مقترحات التعديل الحقيقية من محتواها.
دخل الموريتانيون في جدلٍ بشأن تفاصيل قانونية، زادتها تعقيدا الخلافات السياسية. وأسّس محامون وخبراء في القانون الدستوري هيئة للدفاع عن الدستور الحالي، وحمايته من تعسّف السلطة، مُعتبرين ما يحدث مغامرةً الغرض منها نزع القدسية عن الدستور والعبث به.
غاب عن هؤلاء، أو ربما أرادوا النسيان بإرادتهم، أن لا حرمة لدستور، لم تكتبه سلطة ديمقراطية منتخبة، تحمي حقوق المواطنة وتدافع عن الإنسان. حلم القانونيون بتراجع الرئيس ولد عبد العزيز عن الاستفتاء وعن التعديلات، لكنه حلم يبقى بعيد المنال، حينما يتعلق الأمر برسم معالم حياة السلطة نفسها، وكتابة خطط بقائها في الحكم أمدا طويلا. وهو ما أفصح عنه أخيرا ومن دون مواربة، رئيس الوزراء يحي ولد حدمين، حين قال "الرئيس محمد ولد عبد العزيز باق في السلطة، والنظام الحالي غير متخل عنه بعد انتخابات 2019".
حين تطالع مذكّرات مؤسس الدولة الموريتانية "موريتانيا على درب التحديات"، ( 669 صفحة)، ينتابك شعور بأن مختار ولد داده نهض من قبره ليسرد عليك قصة مسيرة طويلة من المعاناة. ولادة عسيرة لدولة وجدت من العدم. هذا الرجل القادم من صحراء بوتيليميت وسط غربي البلاد، وانتخب في أغسطس/ آب 1961. كان أول رئيس لجمهورية موريتانيا الإسلامية، وأُطيح في انقلاب عسكري في يوليو/ تموز 1978 . لم ينضج له مشروع موريتانيا على نار هادئة، فزمهرير الصحراء وقرّها، لم يوفرا لنار موقده سكينة ولا استقرارا. عبثت زوابع شحّ الموارد الاقتصادية أو كادت بطلائع مشروع الدولة. حرث، هو ورجاله، البحر، لينتزعوا استقلالهم من فرنسا. بنوا عاصمتهم نواكشوط من ذرات الرمال التي تذروها الرياح. تحدّوا رفض دول الإقليم جمهوريتهم الوليدة، وجابهوا عدم الاعتراف بها بالإصرار.
عصفت، بعد 1978 رياح الانقلاب بمؤسسي الجمهورية، ودخلت البلاد في انقلابات متتالية،
ازداد المشهد السياسي الموريتاني سخونة، حين عارض تعديلات الدستور أعضاء مجلس الشيوخ، وهم من صف موالاة الرئيس. ذلك أن التعديل يُلغي مجلسهم، ويلغي بالتالي مناصبهم وامتيازاتهم. وهو ما دعاهم إلى عدم الاعتراف بما سيترتب على هذا المسار غير الدستوري، وفق قولهم. كان رأي بعض من الموالاة للدفاع عن مصالح ذاتية، تماهت مع مصالح السلطة زمنا طويلا، كان فيه مجلس الشيوخ مجرد مجلس "موافقة" لمشاريع قوانين تعدّها السلطة، وحارس معبدها التشريعي. ساءت علاقة مجلس الشيوخ بالرئيس محمد ولد عبد العزيز، بعد أن رفض المجلس تعديلاته الدستورية. حينها ألَّب الرئيس إعلامه وترسانته القانونية، لإطاحة الشيوخ الذين قال إنه يرفض اختطافهم البلد.
من يختطف موريتانيا؟ رئيس وصل إلى كرسي السلطة بانقلاب، وثبت نفسه عليه بانتخاباتٍ مطعون في نزاهتها، وارتهن سيادة الدولة لأنظمة خارجية، تبدّت أكثر في الأزمة الخليجية أخيرا بقطع موريتانيا علاقتها بقطر. أم مجلس شيوخ تنبه أخيرا لكرامته المهدورة من رئيسٍ يريد كعكعة السلطة كلها، لا نصفها أو ربعها. ويتفاجأ الرأي العام المحلي من موقف مجلس الشيوخ، فهو لم يكن يرى في المجلس سوى امتداد لسلطةٍ لم تستطع تحقيق التنمية، ولا إنقاذ الناس من العوز والظلم.
تطل الانتخابات الرئاسية من بعيد (مقررة في 2019). لم تُحدّد معالمها بعد، وهي التي يُفترض أن تسفر عن انتخاب رئيس آخر، غير محمد ولد عبد العزيز. تقول المعارضة إنها لا تفهم الغرض من التعديلات المقترحة في الدستور الجديد، ولا سببها، وتتخوف من إدخال البلاد في حالةٍ من عدم الاستقرار في العامين المقبلين. يقول عارفون إن من غير المستبعد أن تكون صرعة التغييرات التي يصرّ الرئيس على تمريرها إما منفذا له، للاستمرار في الحكم، بإزاحة العراقيل التي تعترض بقاءه في السلطة بعد 2019. أو تمهيدا لتسليمها لغيره، ممن يرضى عنهم، ليكون هذا مجرد واجهة، ويكون الحكم بيد عبد العزيز.
لا تعترض الكتل السياسية الموريتانية التي تضم أبرز أحزاب المعارضة، وبعض هيئات
دخل الموريتانيون في جدلٍ بشأن تفاصيل قانونية، زادتها تعقيدا الخلافات السياسية. وأسّس محامون وخبراء في القانون الدستوري هيئة للدفاع عن الدستور الحالي، وحمايته من تعسّف السلطة، مُعتبرين ما يحدث مغامرةً الغرض منها نزع القدسية عن الدستور والعبث به.
غاب عن هؤلاء، أو ربما أرادوا النسيان بإرادتهم، أن لا حرمة لدستور، لم تكتبه سلطة ديمقراطية منتخبة، تحمي حقوق المواطنة وتدافع عن الإنسان. حلم القانونيون بتراجع الرئيس ولد عبد العزيز عن الاستفتاء وعن التعديلات، لكنه حلم يبقى بعيد المنال، حينما يتعلق الأمر برسم معالم حياة السلطة نفسها، وكتابة خطط بقائها في الحكم أمدا طويلا. وهو ما أفصح عنه أخيرا ومن دون مواربة، رئيس الوزراء يحي ولد حدمين، حين قال "الرئيس محمد ولد عبد العزيز باق في السلطة، والنظام الحالي غير متخل عنه بعد انتخابات 2019".