الموجة الأولى متوارية تُسمع ولا ترى. لهاث وشتائم هامسة، عطش، وضوء ولاعة خافت يستقبل الهابطين "المحشوين" من سيارات دفع رباعي، ويشير للتوجه صوب بناء مهجور قرب شاطئ رملي. رائحة غائط، سعال، وجمر سجائر تشع نيرانًا فوق الوجوه السمراء والسوداء المبتلّة بالعرق. "يا ابن ... قعمز لوطى" صياح بمن أراد التبول، هذا المتواري خلف ضوء ولاعة، صوته الصارم ظلّ يطلّ، لكن صوت الموجة الأولى التي ستحمل كلّ "أسرى" الشواطئ كان أهم من الضوء في الظلام، ومن التململ من "أسير" أراد التبول حيث رُصّ الكل، في ليل لا يُرى فيه لكن يسمع.
بعدما أشار الواقف خلف الضوء الخافت بالمسير، صار صوت الموج أعلى وأوضح. "من غير حس"، يعلن صوت آخر. يلتف المتعارفون إلى بعضهم؛ أفارقة، سوريون، مشارقة، مغاربة، بنغال، أهل دارفور.
على الشاطئ كان الضوء حرًا، مجرات ونجوم تسمح برؤية أين يذهب الناس للتغوط والتبول، وتنعكس ظلال الصبار وأشجار الصحراء، وتجمعات "البضائع الآدمية" بانتظار مراكب قد تأتي وقد لا.
صوت الموجة الأولى، لن يعود مسموعًا حين يطلب الصوت الصارم، المتواري وقت ضوء النهار ببندقية كلاشينكوف وقنبلة، من طوابير الحالمين الهاربين، أن تصطف عطشى في طوابير تفصل "العبيديات" (الأفارقة) عن "السمر" والبيض (العرب مشارقة ومغاربة).
الموجة الثانية مالحة على جرح، في الركبة أو الساق أو الكف، أو في القلب. ينزلق الكل في الماء البارد بنشاط لم يبذلوه مسبقًا، يصارعون تلك الموجة بحقائب وستر نجاة حاملين أبناءهم. قارب مطاطي يزجر ويخرّ في الماء، ويطفو زبد يحرق الجراح ولا يكويها. "صراط" البحر ذاك "الزودياك" المطاطي، سيجمع عددًا محدودًا ممن ينجحون في مسابقة تحدي الموجة، وركوبها نحو القارب الخشبي باتجاه "البرزخ" المحمي من الطليان.
زبد "الزودياك" سيرفع الماء إلى حدود الكتفين وربما أكثر وربما أقل. تمتلئ الرئتان والأذنان والأنف بكل ذاك الزبد. فقاقيعه المالحة ستفور حين تلامس النزف المالح، ذاك الذي في القلب، حين ينفجر من كبته عن فرح بركوب الموجة، وترك شاطئ الرمل الفائض بالجفاف والعطش ورائحة الغائط. ينفجر إن منع عن الفرح، أو في حالة طلب إبداء مشاعر ومظاهر الحزن في لحظة التلفت الأخير ربما، إلى المكان الذي يلفظ أولاده كما يلفظ البحر سمكه النافق في موجات دوّارة. لن يميز أي من قاصدي "البرزخ" ملح دمعه عن ملح هذه الموجة المكتومة. لا صوت في ركوبها، إلا لتراتيل قرآنية، وللمبحرين يتفقدون بعضهم، وصوت محرك "الزودياك" الذي يترك وراءه خطًا طوليًا من الزبد الحارق.
الموجة الثالثة باردة، صاخبة بعض الشيء، قفزة من المطاط إلى الخشب، قد تكون الخطوة الأولى لأحدهم على القارب الخشبي فوق بطن امرأة أو كفّ طفلة أو طفل. تتسلّق وتتعربش الأجساد، ويرمى عنها أوّل ما تصل السطح كلّ الحقائب وما شابه، يلمها طاقم الزودياك بكل ما تحمل من جوازات سفر ووثائق ومصاغ وأموال. وحده جسد الإنسان/ البضاعة، هو المسموح له بصعود المركب المبحر نحو "يوتوبيا" المهاجرين الأوروبي. جسد بثياب مبللة، يلقى في علبة السردين الطافية، مئات من المهاجرين الأفارقة في أسفلها، تكدس مثلهم في السطح، وعلى سطحها/ المظلة الذي يعلو قمرة الربان، عشرات آخرون.
في الموجة الثالثة يرتعش المركب والأجساد التي تبلل كل ما يكسوها. سينفخ ويفرك المهاجرون بعضهم بعضًا طلبًا للدفء، وسيصفع بعضهم بعضًا، ويلتقي بعضهم بعضًا لأول مرة منذ سنوات، ويصارع كل منهم على حيزه الفيزيائي. في علبة السردين. تعلو الموجة، فيعلو التكبير والتسبيح والدعاء. تضرب الموجة وتحذف، يخاف الناس. وتملأ النسوة سكونًا ممتدًا بالصراخ والبكاء والصياح والدعاء.
غير معروف البتة إن كان سقف المركب/ المظلة، فوق غرفة الربان، انكسر وبدأ بالتفكك، في الموجة الثالثة أم في الموجة الرابعة. لأن ذلك قد حدث فجأة ربما، أو لأنها كانت بِشِدّة الثالثة، إلا أن الناس صارت تتقيأ في الأعلى، وتموت اختناقًا في الأسفل، حيث المحرك. يتداعى السقف، الذي يمسك بنية القارب كلما اشتدت الشمس، كأنها تقنص من فوق، ينهار هذا، ويقع ذاك، تضرب كما يحلو لها. أي ماء حلو في هذا الملح، ما شكل السراب؟ أهو تراب الشاطئ الخلفي، أم كأس ليموناضة بارد في هذا العطش. ينتهي هذا الهذيان حين تتذوق ماء الموجة ذاك، الساخن، قنينة الماء التي تغرف من تلك الموجة، قد تصلح وسادة لاحقًا. الموجة الرابعة تائهة، تظهر أعلام شطآن اللفظ التي تركها المركب المتداعي على حفارات النفط وقوارب الصيد التي تجوب العمق الكحلي.
الخامسة، نورس بعد التيه. وقارب صيد يخبر حراس البرزخ الأوروبي عن مركب يتداعى، وقد ينهار قبل وصول البوارج بقليل. وقد تكون وجبة القروش والسمك المتنوع دسمة، لا فرق بين أبيض وأسود، إفريقي أم عربي، شيوعي أم "اخواني"، سني أم شيعي. السمك الكبير والصغير له خمس ما تلفظه الخريطة.
السادسة باهتة، لا تكاد تدرك أوّل الأمر على ظهر البارجة. يجلس الناجون في طوابير أيضًا، لا فضل فيها لعربي على أعجمي، سيشرب الكل أولى رشفات المياه الملونة بالمعادن والمقويات، وسيجلس الواقفون لأول مرة، وربما سيشمون رائحتهم تعبق بالبحر والملح والسمك والعرق والإقياء والموت. في الموجة السادسة يرتدي المنقذون قفازات وكمامات، لئلا يصابوا بعدوى، أو يشموا راحة الضفة المقابلة. رويدًا رويدًا، يميل الكل مع الفولاذ المبحر؛ البحارة، الناجون، الضباط، الأطباء، المرضى، الدجالون، طائرة الهيلوكبتر، المترجم المتطوع والمتقمص لدور العميل، المتجمعون المغاربة تحت ظل الطائرة، يدخنون ويغمزون لبعضهم خلسة لرشفة من "السبسي"، الزاحفون جلوسًا باتجاه المرحاض في أسفل سطح التجميع، المتبولون ووجههم للبحر في مباول طارئة، خط الزبد العملاق يشرط الأزرق، قطرات الدم الوحيدة في محاولة التبول، كله يميل مع موجة البارجة السادسة.
السابعة الموعودة، مطواعة، تطول فيها الرقاب وهي تتلفت صوب الجزيرة، تدور البارجة فيها كأنها تكتب شيئًا ما لأحد في الأفق يقرأ. في الأفق البعيد شجر زيتون كثيف قد يختلط المكان حينها على المشارقة والمغاربة. يخف الزبد عندما تقطر مراكب أصغر مركب الإنقاذ الضخم إلى ما خلف كاسر الموج، وتظهر أسنان الناجين ونظرات لن تظهر إلا في تلك الموجة، كأن الجميع ولد من جديد، الهبوط على تلك اليابسة غالبًا ما يترافق مع أعراض الموجة السادسة، ميلان، وقفازات وكمامات. الموجة السابعة هي كمال البحر، وخلاصه، وآخر بحار الله، ومنتهاها حاجز كسر الموج الذي يطوق أرصفة السفن.
بعدما أشار الواقف خلف الضوء الخافت بالمسير، صار صوت الموج أعلى وأوضح. "من غير حس"، يعلن صوت آخر. يلتف المتعارفون إلى بعضهم؛ أفارقة، سوريون، مشارقة، مغاربة، بنغال، أهل دارفور.
على الشاطئ كان الضوء حرًا، مجرات ونجوم تسمح برؤية أين يذهب الناس للتغوط والتبول، وتنعكس ظلال الصبار وأشجار الصحراء، وتجمعات "البضائع الآدمية" بانتظار مراكب قد تأتي وقد لا.
صوت الموجة الأولى، لن يعود مسموعًا حين يطلب الصوت الصارم، المتواري وقت ضوء النهار ببندقية كلاشينكوف وقنبلة، من طوابير الحالمين الهاربين، أن تصطف عطشى في طوابير تفصل "العبيديات" (الأفارقة) عن "السمر" والبيض (العرب مشارقة ومغاربة).
الموجة الثانية مالحة على جرح، في الركبة أو الساق أو الكف، أو في القلب. ينزلق الكل في الماء البارد بنشاط لم يبذلوه مسبقًا، يصارعون تلك الموجة بحقائب وستر نجاة حاملين أبناءهم. قارب مطاطي يزجر ويخرّ في الماء، ويطفو زبد يحرق الجراح ولا يكويها. "صراط" البحر ذاك "الزودياك" المطاطي، سيجمع عددًا محدودًا ممن ينجحون في مسابقة تحدي الموجة، وركوبها نحو القارب الخشبي باتجاه "البرزخ" المحمي من الطليان.
زبد "الزودياك" سيرفع الماء إلى حدود الكتفين وربما أكثر وربما أقل. تمتلئ الرئتان والأذنان والأنف بكل ذاك الزبد. فقاقيعه المالحة ستفور حين تلامس النزف المالح، ذاك الذي في القلب، حين ينفجر من كبته عن فرح بركوب الموجة، وترك شاطئ الرمل الفائض بالجفاف والعطش ورائحة الغائط. ينفجر إن منع عن الفرح، أو في حالة طلب إبداء مشاعر ومظاهر الحزن في لحظة التلفت الأخير ربما، إلى المكان الذي يلفظ أولاده كما يلفظ البحر سمكه النافق في موجات دوّارة. لن يميز أي من قاصدي "البرزخ" ملح دمعه عن ملح هذه الموجة المكتومة. لا صوت في ركوبها، إلا لتراتيل قرآنية، وللمبحرين يتفقدون بعضهم، وصوت محرك "الزودياك" الذي يترك وراءه خطًا طوليًا من الزبد الحارق.
الموجة الثالثة باردة، صاخبة بعض الشيء، قفزة من المطاط إلى الخشب، قد تكون الخطوة الأولى لأحدهم على القارب الخشبي فوق بطن امرأة أو كفّ طفلة أو طفل. تتسلّق وتتعربش الأجساد، ويرمى عنها أوّل ما تصل السطح كلّ الحقائب وما شابه، يلمها طاقم الزودياك بكل ما تحمل من جوازات سفر ووثائق ومصاغ وأموال. وحده جسد الإنسان/ البضاعة، هو المسموح له بصعود المركب المبحر نحو "يوتوبيا" المهاجرين الأوروبي. جسد بثياب مبللة، يلقى في علبة السردين الطافية، مئات من المهاجرين الأفارقة في أسفلها، تكدس مثلهم في السطح، وعلى سطحها/ المظلة الذي يعلو قمرة الربان، عشرات آخرون.
في الموجة الثالثة يرتعش المركب والأجساد التي تبلل كل ما يكسوها. سينفخ ويفرك المهاجرون بعضهم بعضًا طلبًا للدفء، وسيصفع بعضهم بعضًا، ويلتقي بعضهم بعضًا لأول مرة منذ سنوات، ويصارع كل منهم على حيزه الفيزيائي. في علبة السردين. تعلو الموجة، فيعلو التكبير والتسبيح والدعاء. تضرب الموجة وتحذف، يخاف الناس. وتملأ النسوة سكونًا ممتدًا بالصراخ والبكاء والصياح والدعاء.
غير معروف البتة إن كان سقف المركب/ المظلة، فوق غرفة الربان، انكسر وبدأ بالتفكك، في الموجة الثالثة أم في الموجة الرابعة. لأن ذلك قد حدث فجأة ربما، أو لأنها كانت بِشِدّة الثالثة، إلا أن الناس صارت تتقيأ في الأعلى، وتموت اختناقًا في الأسفل، حيث المحرك. يتداعى السقف، الذي يمسك بنية القارب كلما اشتدت الشمس، كأنها تقنص من فوق، ينهار هذا، ويقع ذاك، تضرب كما يحلو لها. أي ماء حلو في هذا الملح، ما شكل السراب؟ أهو تراب الشاطئ الخلفي، أم كأس ليموناضة بارد في هذا العطش. ينتهي هذا الهذيان حين تتذوق ماء الموجة ذاك، الساخن، قنينة الماء التي تغرف من تلك الموجة، قد تصلح وسادة لاحقًا. الموجة الرابعة تائهة، تظهر أعلام شطآن اللفظ التي تركها المركب المتداعي على حفارات النفط وقوارب الصيد التي تجوب العمق الكحلي.
الخامسة، نورس بعد التيه. وقارب صيد يخبر حراس البرزخ الأوروبي عن مركب يتداعى، وقد ينهار قبل وصول البوارج بقليل. وقد تكون وجبة القروش والسمك المتنوع دسمة، لا فرق بين أبيض وأسود، إفريقي أم عربي، شيوعي أم "اخواني"، سني أم شيعي. السمك الكبير والصغير له خمس ما تلفظه الخريطة.
السادسة باهتة، لا تكاد تدرك أوّل الأمر على ظهر البارجة. يجلس الناجون في طوابير أيضًا، لا فضل فيها لعربي على أعجمي، سيشرب الكل أولى رشفات المياه الملونة بالمعادن والمقويات، وسيجلس الواقفون لأول مرة، وربما سيشمون رائحتهم تعبق بالبحر والملح والسمك والعرق والإقياء والموت. في الموجة السادسة يرتدي المنقذون قفازات وكمامات، لئلا يصابوا بعدوى، أو يشموا راحة الضفة المقابلة. رويدًا رويدًا، يميل الكل مع الفولاذ المبحر؛ البحارة، الناجون، الضباط، الأطباء، المرضى، الدجالون، طائرة الهيلوكبتر، المترجم المتطوع والمتقمص لدور العميل، المتجمعون المغاربة تحت ظل الطائرة، يدخنون ويغمزون لبعضهم خلسة لرشفة من "السبسي"، الزاحفون جلوسًا باتجاه المرحاض في أسفل سطح التجميع، المتبولون ووجههم للبحر في مباول طارئة، خط الزبد العملاق يشرط الأزرق، قطرات الدم الوحيدة في محاولة التبول، كله يميل مع موجة البارجة السادسة.
السابعة الموعودة، مطواعة، تطول فيها الرقاب وهي تتلفت صوب الجزيرة، تدور البارجة فيها كأنها تكتب شيئًا ما لأحد في الأفق يقرأ. في الأفق البعيد شجر زيتون كثيف قد يختلط المكان حينها على المشارقة والمغاربة. يخف الزبد عندما تقطر مراكب أصغر مركب الإنقاذ الضخم إلى ما خلف كاسر الموج، وتظهر أسنان الناجين ونظرات لن تظهر إلا في تلك الموجة، كأن الجميع ولد من جديد، الهبوط على تلك اليابسة غالبًا ما يترافق مع أعراض الموجة السادسة، ميلان، وقفازات وكمامات. الموجة السابعة هي كمال البحر، وخلاصه، وآخر بحار الله، ومنتهاها حاجز كسر الموج الذي يطوق أرصفة السفن.