اشتريتُ، أوّل ما اشتريت، سيارة أولدزموبيل بنّية كالعجوة ومستعملة، بل مستباحة من السائقين الذين ركبوها قبلي. كانت مناسبة لشخص سيحصل على رخصة قيادة بعد أسبوعين. قلت أشتريها وبعد الرخصة أستبيح بها الشوارع من دون أسف. بعد الرخصة مباشرة، سأكون قليل الخبرة، وتكفل لي الأعراف ارتكاب شيء من مخازي السواقة. إذا كان كذلك، فليكن مع هذه السيارة العجوة المرميّة على باب الدار.
قلت لشقيقي، الحاصل على رخصة منذ سنتين: "تعال معي. سأسوق السيارة في شارعنا الذي نعرفه ويعرفنا". أردتُ أن أزيد ثقتي على باب الامتحان، أي أن أسوق وحدي وأمارس فطامي عن تعليمات مدرب السواقة ومكابحه.
الشارع مستقيم، ولا زحمة فيه، لأنني اخترت فترة ما بعد الظهيرة الحارّة والرطبة، إذ يكون فيها أغلب الناس ساهمين، بعدما تناولوا غداءهم. انطلقت السيارة، وكنتُ أخشى النظر إلى شقيقي فأفقد السيطرة على الطريق لكنني سمعته يستنكر: "لماذا تسوق كمن يحلب نعجة؟ الشارع مستقيم. حرّك المقود فقط حين تقرر الذهاب يميناً أو يساراً". كنت أحرك المقود طالعا نازلا بدون وعي.
يبدو لي أن تحريك المقود وتحريك الأكتاف مثل بندول الساعة قادم من ذاكرتي السينمائية، ويبدو أنني كنت مسكونا بصورة بطل السينما في الأفلام المصرية القديمة، الذي يسوق ويغنّي وبجانبه شابة حسناء وباقي الشلة في الكرسي الخلفي، والجميع يتمايلون، مع أنه يقال إن السيارة واقفة، وإن بضعة عمّال لا نراهم تحت السيارة يهزّونها.
أرجع شقيقي السيارة إلى باب الدار وحذّرني: "لا تفكر أن تلمسها مجرد لمس قبل أن تحصل على الرخصة". أخذتُ الرخصة أخيرا وهجمتُ على السيارة أنظفها من التراب وذرق الطيور، وذهبتُ إلى الجريدة مطلع النهار. ومع أنه لم تكن هناك زحمة، إلا أنني خشيتُ أن أدخلها بين سيارات الزملاء فأصدم واحدة منها، لذلك أوقفتها بعيدا.
لا أعتبر السواقة، حسب خبرتي، فنّ السير وإنما فنّ الوقوف. السائق الجيد هو الذي يعرف كيف وأين يقف. ينطبق هذا على الشاعر مثلًا كما ينطبق على الشوفير. رآني رهط من الزملاء فضحكوا وظننت أن ذلك بسبب تركي السيارة في مكان قصيّ، لكن كان ذلك لأن لون سيارتي بنّي كالعجوة. دخلتُ إلى مكتبي بكامل أناقتي التي يستطيعها موظف يقول إنه مطحون: بنطلون جينز غامق جديد وحذاء بني كجناح دبّور. جرابان بنّيان منقطان بأزرق مُطفأ وقميص أبيض مونّس برمادي. مكثتُ في العمل ثماني ساعات حسب الشروط المتفق عليها، كي أستحق آخر الشهر أجري.
كانت سيارتي تلوح من بعيد على حدود ساعة المغرب، رابضة وحدها وكان الغسق يترك عليها مسحة نبيذية. لم يكن اللون بنّي عجوة خالصاً. ما هي إلا خطوات قليلة حتى تذكرتُ أنني نسيت مفتاح السيارة في المكتب. لكن للأسف، لم يكن المفتاح في المكتب بل في السيارة التي هبطتُ منها إلى الجريدة قبل ثماني ساعات، واثقًا مثل ديك وتركتُها تعمل كل هذا الزمن بلا طائل.
من قال إن السيارة لا تقول شيئًا؟ كانت الأضوية جاحظة ومؤشر الحرارة يرتعش عند الحافة القصوى. ساءت علاقتنا أكثر، فقد كانت تختار لإحراجي أسوأ الأوقات والأمكنة فتقف بدون مقدمات. حين أحضر لها الميكانيكيين والكهربائيين تعود للعمل بعد تدخل بسيط، وما إن يغادروا حتى تعود لإحراجي عند الإشارات الضوئية. فاض بي الكيل وركلتُها ورميتُها أسبوعاً في موقف متنزه يؤمّه كل أهل المنطقة.
حتى وهي مرميّة لم تكفّ عن إحراجي. صرتُ معروفًا في الأنحاء نسبة إليها. كانوا يقولون: ذلك الرجل الذي لا نعرف اسمه صاحب السيارة العجوة المرميّة عند المتنزه.