مواسم تكاثر الهستيريا

16 فبراير 2015
+ الخط -
ما الذي جعل تلك السيدة تجري متحفزة، كأنها ذاهبة لدرء خطر داهم، قبل أن تنهال "بعزم ما فيها"، على قفا ذلك المواطن الأعزل الذي وقف في ميدان عبد المنعم رياض، رافعاً يديه بإشارة رابعة؟ ولماذا كانت حريصة على أن تخفض يديه، كلما حاول رفعهما مجدداً؟ ولماذا هب العديد من المواطنين "الشرفاء" لمعاونتها في تحقيق ذلك الانتصار المتوهم؟ ولماذا يتكرر ذلك الفعل الهستيري، بأشكال مختلفة، مع كل من يعبر عن رأيه المعارض، حتى لو كان شخصاً يقف بمفرده في ميدان مزدحم بالمهللين والمصفقين؟
لماذا يخشى المنتصر ممن يخالفه الرأي، مع أنه يراه مهزوماً، إلا إذا كان يدرك بداخله هشاشة النصر الذي يحتفل به ليل نهار، ألا يشبه المواطن "السيساوي" هنا دولته الشائخة، والتي قتلت المئات، وسجنت الآلاف، من أجل أن تستعيد هيبتها المزعومة. ومع ذلك، هي تخشى من افتتاح محطة المترو المفضية إلى ميدان التحرير الذي يمثل بعبعها الدائم، وتتصرف بانفلات عصبي تجاه كل مظاهرة، أو وقفة احتجاجية، مهما كانت ضآلة أعداد المشتركين فيها، لتثبت أن (مشهد يناير) ما زال حاضراً في أذهان ممثليها، من أضخم رأس إلى أحقر إصبع في أذرعها الإعلامية والقضائية والأمنية، على الرغم من كل ما فعلته من أجل محو يناير من الذاكرة الشعبية.
ببساطة، تتصرف سلطة السيسي بكل هذا الانفلات الأرعن، لأنها تظن أنها لو تركت عشرين شخصاً يقفون للتظاهر والاحتجاج، فإن العدد سرعان ما سيتضاعف، وسيظهر، من حيث لا تدري ولا تحتسب، ممثلون لضحايا ظلمها المستفحل، ليحولوا المظاهرة إلى اعتصام تجري متابعته، ويتوجّب فضُّه، ولن تكون المشكلة، وقتها، أن ضباطها سيضطرون للقتل من أجل الفض، فقد كفلت السلطة، بتشريعاتها وأحكامها القضائية، المناخ الآمن الذي يجعل من قنص المتظاهرين تمريناً شرطياً محبباً إلى النفس، وإنما ستكون مشكلتها الأهم أن ذلك التجمهر، إن تكرر وتعاظم، سينبه الأذهان إلى الفشل الأكبر الذي سيطارد عبد الفتاح السيسي دائماً: فشل القضاء التام على "الآخرين" المختلفين معه، والرافضين لأن يلغوا عقولهم من أجل طاعته، كأنهم جنود في ثكنة عسكرية، وليسوا مواطنين يملكون حق الاختلاف والاعتراض، وهو الفشل الذي جعله يلجأ، مراراً، إلى استعداء جموع الشعب على كل من يعارضه، فدفع ذلك مواطنيه الشرفاء، بدورهم، إلى اقتناص كل فرصة تسنح، لمساعدة زعيمهم المفدّى، على إسكات الذين يسببون الصداع و"الوشّ" للوطن، إن لم يكن بالإبلاغ عنهم للشرطة، فبالتدخل لقمعهم بأيديهم وألسنتهم، وإن تطلب الأمر بأسلحتهم، كما حدث، مثلاً، في مذبحة المنصة التي حُجِبت وقائعها عن كثيرين حتى الآن.
على مدى التاريخ، كان للبطش الجماعي نشوة مسكرة، تتضاعف، حين تمنح السلطة لجموع الباطشين من مؤيديها، هدفاً مقنعاً وشعاراً برّاقاً، مثل الدفاع عن الوطن، أو حماية الدين. عندها يمكن للناس، مهما كانوا طيبين أو مسالمين، أن يصلوا إلى أبعد مدى في العنف، بعد أن تسكرهم نشوة "البطش الهادف". دعني أذكّرك، من الأمس القريب، بمشاهد الكشف على الهوية في شوارع وسط القاهرة، ليلة مذبحة ماسبيرو، حين نادى التلفزيون الرسمي على المصريين لحماية جيشهم من المسيحيين، أو بإنكار الملايين مشاهد سحل "ست البنات" وتعريتها وضربها بالبيادات، أو بمشاهد سلخانة التعذيب التي افتتحها "الإخوان" جوار قصر الاتحادية، لحماية سيئ الذكر محمد مرسي، أو بتدافع الجموع لسحل الداعية الشيعي، حسن شحاتة، أو بحشود الراقصين في ميدان رابعة، بعد أن تم إخلاء مسرح الجريمة التي ارتكبت فيه، من دون أدنى تحقيق، وها أنت ترى كيف تتم بانتظام إضافة مزيد من تلك المشاهد إلى ما سماها عالم النفس إيريك فروم "دراما التدمير" التي يعتقد السيسي أن في وسعها تثبيت دعائم حكمه، والتدليل على وقوف الشعب إلى جواره.
ما لا يدركه السيسي، ونظامه، أن الهستيريا ليست شعوراً نبيلاً، يمكن التحكم به، أو توظيفه بشكل إيجابي، لأنها تصنع مواطناً مشوّهاً يشبه النار التي تأكل نفسها، إن لم تجد ما تأكله، كما أنها تعطي مبررات قوية لضحاياها، ليتصرفوا بدورهم بهستيريا، بعد أن لم يعد لديهم ما يخسرونه، ليدخل المجتمع في دائرة دموية، لن يكون مجدياً في ظلها الاستماع إلى صوت العقل، والتحدث بلغة المنطق، حتى عندما يتأكد، مع مرور الوقت، استحالة حسم الخلافات السياسية بالدم والعنف، فيكتشف المجتمع أنه أضاع الكثير من الوقت والدماء والأرواح، وهو يطارد وهما سوّقه له الحاكم، بخطبه العاطفية المليئة بالأكاذيب، وأنه مطالب بأن يدفع غالياً ثمن انحيازه لمنطق القتل والعنف. وحينها، سيحتاج إلى كل شيء، يساعده على الخروج من وحلته، إلا المزيد من الهستيريا.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.