مواجهة جديدة بين الغرب وروسيا

26 مايو 2018
قتل 298 شخصاً في إسقاط الطائرة (ألكسندر أرموشينكو/الأناضول)
+ الخط -


لم تكد عاصفة اتهام روسيا بتسميم الجاسوس الروسي المزدوج، سيرغي سكريبال، وعملية الطرد المتبادل لدبلوماسيين، تهدأ قليلاً، حتى هبت عاصفة جديدة، زادت من حدة التوتر بين موسكو من جهة وأوروبا وأميركا من جهة ثانية، مع اتهام محققين دوليين لروسيا بالوقوف خلف مقتل 298 شخصاً، كانوا على متن الطائرة الماليزية التي أسقطت في جنوب شرق أوكرانيا العام 2014، مشيرين إلى أنها سقطت بواسطة صاروخ أطلق من منظومة "بوك" آتية من روسيا.

وفي ما يشبه السيناريو الذي حصل بعد تسميم سكريبال، بدأت دول العالم، خصوصاً الأوروبية، تصطف خلف بعضها البعض في مطالبة موسكو بالاعتراف بذنبها. وفي الوقت الذي أعلنت فيه هولندا أن الخطوة التالية ستكون إحالة القضية إلى محكمة  أو منظمة دولية، واصلت روسيا نفيها لنقل منظومة "بوك" الصاروخية من أراضيها إلى الأراضي الأوكرانية، بل إنها كررت اتهامها لأوكرانيا بأنها تقف خلف سقوط الطائرة، مشددة على أنها حصلت، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، على 20 كتيبة من منظومة "بوك".

يذكر أن كارثة الطائرة الماليزية المتجهة من أمستردام إلى كوالالمبور، والتي راح ضحيتها 298 شخصاً بين ركاب وأفراد الطاقم، وقعت في 17 يوليو/ تموز 2014، وذلك في ظروف عسكرية صعبة، حيث كانت المنطقة تشهد مواجهات عنيفة بين الجيش الأوكراني والمسلحين الموالين لروسيا. وبعد وقوع الحادثة، نفى المسلحون امتلاكهم لمنظومات قادرة على إصابة أهداف على ارتفاع تحليق الطائرات المدنية (10 آلاف متر)، بينما وجهت كييف والغرب اتهامات إلى موسكو بتزويدهم بمنظومة "بوك"، ما مهد الطريق لتشديد خناق العقوبات الاقتصادية على روسيا. ومعظم الضحايا هولنديون، لكن الركاب كانوا يحملون 17 جنسية مختلفة ومنهم أستراليون. وكانت "مجموعة التحقيق الدولية"، التي تعمل في هولندا بموجب اتفاق بين خمس دول لقي رعاياها حتفهم في الحادثة، قد أعلنت رسمياً، أول من أمس، أن الطائرة أسقطت بواسطة منظومة "بوك" قادمة من روسيا. واستندت في ذلك إلى صور قالت إنها تظهر لوحات أرقام سيارات نقلت منظومة الصواريخ إلى أوكرانيا، لكن دون الكشف عن أسماء أي شخصيات لها ضلوع مباشر في إطلاق الصاروخ الذي أسقط الطائرة.

وحملت هولندا وأستراليا، أمس الجمعة، روسيا المسؤولية القانونية عن إسقاط الطائرة الماليزية. وقال رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، إن روسيا مسؤولة جزئياً عن إسقاط الطائرة، مطالباً موسكو بالاعتراف بدورها في الواقعة. وناشد روسيا التعاون مع تحقيق جنائي والتفاوض بشأن التعويضات. وقال وزير الخارجية الهولندي، ستيف بلوك، إنه في أعقاب هذا الاستنتاج، "فإن الحكومة ستتخذ الآن الخطوة التالية من خلال تحميل روسيا المسؤولية رسمياً". وأضاف أن "هولندا وأستراليا طلبتا من روسيا الدخول في محادثات تهدف إلى إيجاد حل منصف للمعاناة والأضرار الهائلة الناجمة عن إسقاط الطائرة إم إتش 17. الخطوة التالية المحتملة هي رفع القضية إلى محكمة أو منظمة دولية للبت فيها". وطالبت وزيرة الخارجية الأسترالية، جولي بيشوب، بدعم المجتمع الدولي لهذه الخطوة. وقالت "هذا يمثل تهديداً للأمن الدولي. إذا كان من الممكن نشر أسلحة عسكرية ثم استخدامها في إسقاط الطائرات المدنية في منطقة حرب، فإن الأمن الدولي في خطر، ونحن ندعو جميع الدول إلى إبلاغ الاتحاد الروسي بأن سلوكه غير مقبول".



وفي سيناريو مشابه للاصطفاف العالمي خلف بريطانيا بعد تسميم سكريبال، والذي أدى إلى عمليات طرد متبادل لدبلوماسيين، طالبت الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي موسكو بالاعتراف بدورها في إسقاط الطائرة. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، هيذر ناورت، في بيان: "حان الوقت لكي تعترف روسيا بدورها في إسقاط الرحلة إم إتش17 والكف عن حملتها الشرسة للتضليل". وألقى البيان أيضاً باللوم على العدوان الروسي في مقتل أكثر من 10300 شخص في أوكرانيا. وأعلن وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، أنه ينبغي محاسبة روسيا على أفعالها. وقال، في بيان: "يعتقد الكرملين أن بوسعه التصرف بلا رادع. على الحكومة الآن أن تُحاسب على أفعالها في ما يتعلق بإسقاط الطائرة". وأضاف "هذا مثال فاضح على استخفاف الكرملين بأرواح الأبرياء". ودعا الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي روسيا إلى تحمل المسؤولية عن إسقاط الطائرة. وقالت وزيرة الخارجية الأوروبية، فيديريكا موغيريني، في بيان، إن "الاتحاد الأوروبي يدعو روسيا إلى قبول مسؤوليتها والتعاون التام مع كافة الجهود لتحديد المسؤوليات"، فيما قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، في بيان منفصل: "أدعو روسيا إلى قبول مسؤوليتها".

وتوقعت صحيفة "فيدوموستي" الروسية، أمس الجمعة، تراجع فرص روسيا في إقناع الغرب ببراءتها من الحادثة، ما سيؤدي إلى "موجة جديدة من التصعيد بين موسكو وباقي بلدان العالم، وفرض عقوبات جديدة وزيادة عزلة روسيا". وفي مقال بعنوان "إلى أين يؤدي الأثر الروسي في تحطم بوينغ الماليزية؟"، أشارت الصحيفة إلى أن "النزاع في أوكرانيا، الذي تنفي موسكو ضلوعها فيه، زاد من مشكلة فقدان الثقة بين روسيا والغرب في غياب مؤسسات قضائية متعارف عليها وذات سمعة تحكيم مستقل"، مضيفة أن رفض روسيا المشاركة في تشكيل محكمة دولية "يزيد من الشبهات تجاه الكرملين" وقوة الترجيحات بضلوع روسيا في مقتل المدنيين، وقد يؤدي إلى حملة جديدة ضد موسكو، على غرار طرد الدبلوماسيين على خلفية تسميم سكريبال في بريطانيا. أما السلطات الروسية، فقد تستغل قضية "بوينغ" لخدمة الأهداف السياسية الداخلية والحديث عن تحيز التحقيق، وتقديم "حقائق بديلة"، وإثارة "الهستيريا المعادية للغرب"، وفق تعبير كاتب المقال.

وتمسكت موسكو برفض الاعتراف بالمسؤولية، لأنها لم تشارك في التحقيقات. وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، إن "روسيا لم تكن مشاركة بشكل كامل في التحقيق الهولندي في الحادث، ومن ثم فإنها لا تستطيع أن تثق بنتائجه". وعندما سئل عما إذا كان الكرملين ينفي مزاعم ضلوع روسيا، أجاب: "بالتأكيد". وأكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن هولندا لم تقدم أدلة تدعم قولها إن موسكو تقف وراء إسقاط الطائرة، وأن الهولنديين يعملون على خدمة أهدافهم السياسية من وراء ذلك. وقال "اتصل بي نظيري الهولندي. ليس لديهم عملياً أي شك بأن (صاروخ) بوك جاء من روسيا. سألته عن الوقائع التي تدعم هذه المزاعم، فلم يقدم لي أية وقائع"، متهماً الهولنديين باستغلال المأساة "خدمة لأهدافهم السياسية الخاصة". وشبّه لافروف اتهام روسيا بالضلوع في تحطم الطائرة بقضية سكريبال، لافتاً إلى سرعة توجيهه وعدم تقديم أي أدلة تثبته. وقال، رداً على مطالبة بلوك لروسيا بالتعاون مع التحقيق، إن موسكو تعاونت أكثر من أي طرف آخر مع المحققين وقدمت لهم كماً كبيراً من المعلومات، واستجابت لجميع الطلبات بشأن المساعدة القانونية. وأكد "استعداد موسكو لمواصلة التعاون مع التحقيق الدولي، شرط أن يكون نزيهاً وشفافاً".

في هذا الوقت، واصلت وزارة الدفاع الروسية الدفاع عن نفسها، مشددة على أن الصاروخ الذي زعم المحققون الهولنديون أنه أسقط الطائرة من طراز قديم لا يستخدمه الجيش الروسي. وقالت الوزارة، في بيان: "أحد البراهين على ضلوع القوات المسلحة الروسية المزعوم في الكارثة، هو غلاف محرك الصاروخ التابع لمنظومة بوك، والذي عرض في المؤتمر الصحافي لفريق التحقيق الدولي". وأشارت إلى أن "رقم المحرك يبين أنه صنع في العام 1986 في الاتحاد السوفييتي، لكن المدة الأقصى المسموح بها لاستخدام الصاروخ المزود بالمحرك الذي عرضه الطرف الهولندي، انتهت في العام 2011، ليتم بعد ذلك سحب كافة الصواريخ من هذا النوع من القوات المسلحة وتفكيكها والتخلص منها". وشددت الوزارة على أن "هذا الأمر ينطبق على وحدات الدفاع الجوي الروسية فقط، التي تتلقى ما تحتاج إليه من الصواريخ الصالحة من المنتج الوحيد لها، والموجود في الأراضي الروسية أيضاً". وأضافت وزارة الدفاع الروسية أنه "بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991 وتقاسم الترسانة العسكرية السوفييتية حصلت أوكرانيا على 20 كتيبة من منظومة بوك، ولم تتلق بعد ذلك أي صاروخ جديد من هذا النوع". وتابعت "السبب الوحيد وراء تكتم المحققين الهولنديين على مصدر المحرك الصاروخي الذي صنع في العام 1986 والذي عرضوه، هو احتمال تبعيته للقوات المسلحة الأوكرانية". وأضافت "لجنة التحقيق تخفي مكان وتاريخ العثور على المحرك (لصاروخ بوك)، وأيضاً الأشخاص الذين سلموه للجنة".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)