سرّع تفشي فيروس كورونا (كوفيد-19) حول العالم من وتيرة "موت الصحافة" بشقّها الورقي، وضاعف من أزمتها المالية - المهنيّة، بمختلف فئاتها. ليس هناك كثير ممّا يمكن أن يقوم به الصحافيون والعاملون في المجال الإعلامي في وجه الأزمة المالية، تلك التي تفتك بهم أولاً، وهو ما ظهر بكثافة خلال شهر مارس/ آذار 2020 عبر اقتطاع من رواتبهم وصرف تعسفي جماعي، عربياً وعالمياً. لكنّ المشكلة المهنيّة القائمة تشمل جميع المشاركين في الإنتاج الإعلامي، مهما كان شكله، وهي قضيّة لها حلّ، إن توحّدت الجهود للدفاع عن مهنة الصحافة المأزومة، في وجه قذارةٍ تنشر وتبثّ باسم الإعلام، وهي عنه بعيدة.
فبينما وحّد كورونا العالم في وجه مصيبة صحيّة، انصرف كلّ قطاعٍ إلى مواجهة مشاكله المستجدّة، وحيداً. في الإعلام، انعكست الأزمة عبر خسائر مالية كبيرة للمؤسسات التي كانت تعتمد على الإعلانات، وعبر الانحدار في الحريات الذي فرضته أنظمة عدة بحجة الصحة وتحت عناوين فضفاضة كمحاربة التضليل والأخبار الكاذبة، وعبر سقوط أخلاقي وتطبيل للسلطات بادرت إليه مؤسسات وإعلاميون، وبلغت أقصى حدود التحريض وبثّ التفرقة خلال شهر مارس/ آذار أيضاً.
في الشكل، توحّدت المؤسسات الإعلامية في بثّ "التوعية والإرشاد"، وهو الدور الذي يحتاج إليه العالم فعلاً حالياً، إلى جانب أدوار أخرى على الإعلام أن يلعبها. لكنّ نظرةً عن كثب للمضمون، تؤكّد أنّ عنوان "التوعية" و"تشكيل الرأي العام" لم يكونا سوى تعبيرين واسعين استغلّتهما، وتستمرّ، مؤسسات وأفراد، لبثّ ما يحثّ على العنصرية والوشاية والمؤامرات والخرافات، بالإضافة إلى التطبيل للأنظمة والعسكرة وإسكات المدافعين عن الحقوق والحريّات بحجّة "الأولوية". ببساطة، دفع كورونا بالإعلام المحابي للأنظمة إلى توسيع رقعة تحريضه، بدلاً من التمسك بالأداء المهنيّ عبر الرصد والكشف والفضح إلى جانب التوعية.
والصورة القاتمة تلك لدور إعلاميّ يؤدي حتماً إلى انتهاكاتٍ وممارسات قد تكون أكثر فتكاً بالإنسانيّة من وطأة جائحة كورونا، لم تقتصر على بلدٍ أو آخر. فحتى الأنظمة التي تعتبر نفسها ديمقراطيّةً كرّست وجوهاً إعلاميّة كي تبيّض صورتها، وتقرّع المواطنين الذين يبحثون عن إجراءات حكوميّة تحميهم من المرض والجوع، من دون أن يدفعوا حريّتهم ثمناً. ولعلّ لبنان، البلد الذي ينوء تحت أزمة اقتصاديّة غير مسبوقة هي نتيجةٌ حتميّة لعقود من الممارسات الفاسدة، كان مثالاً لناحية تطويع الإعلام لخدمة السلطة ضدّ المواطن، والذي وصل إلى حدّ اتهام المواطنين بالتسبب في الأزمة. هكذا، بات "طبيعياً" هذه الأيام أن يخرج إعلامي على الشاشة ليقول للشعب إنّه "بلا مخّ"، أو أن تشي إعلاميّة "بعدد من المواطنين لم يلتزموا بالحجر"، أو أن يروّج إعلامي آخر لخرافاتٍ تحت عنوان المقدسات، وصولاً إلى مقارنة المواطنين بالحمير، ورمي الاتهامات على اللاجئين، بل والدعوة إلى استلام العسكر السلطة وإلى استخدام الممارسات الديكتاتورية وحتى الترويج للمؤامرات، والعديد من ممارسات الكراهية التي تنتشر عبر صفحات هؤلاء على مواقع التواصل.
اقــرأ أيضاً
هذا النهج ليس حكراً على لبنان. ففي مصر، طُردت مراسلة "ذا غارديان" بعد نشرها دراسةً حول العدد الحقيقي المتوقع للإصابات، فيما روّج إعلاميون للخرافات، وبينها دعاء عبد الفتاح السيسي "الذي سيقهر الفيروس". وفي الأردن، قارنت إعلاميّة بين إجراءات السلطات من "حجر في الفنادق" مع إجراءات العزل في قطاع غزة المحاصر منذ 14 عاماً، لتقول للأردنيين إنّ عليهم أن يحمدوا النظام لأنه "عاملهم بإنسانية". في موريتانيا، فرضت السلطات على الصحافيين منع التجول. في الجزائر، شدّدت السلطات الرقابة على الصحافيين في ما يخصّ الأخبار عن كورونا، وحصرت النشر بها. في إيران، الصحافيون مهددون بالسجن لنشرهم أخباراً لا تتوافق مع رواية السلطة لتفشي الفيروس. في الصين، اختفى مواطنون وصحافيون أبلغوا عن الفيروس ووتيرة تفشّيه. وفي الولايات المتحدة الأميركية، يصوّب الرئيس دونالد ترامب غضبه نحو الصحافيين ويتّهمهم بنشر الأخبار الكاذبة، فيما الحقيقة أنّه لم يخرج بخطابٍ واحد لم يكن مفخخاً بأكاذيب وبتضليل، ما وصل إلى حدّ انتشار مزاعم عن إيجاد دواء لمكافحة الوباء، أدّت إلى إيذاء مَن صدّقوا فتناولوا جرعات من الكلوروكين على أنّه يقيهم الإصابة بالفيروس.
يعيدنا كورونا إلى نقطة الصفر في المعارك ضدّ تعطّش الأنظمة نحو تهميش الحقوق؛ خصوصاً تلك التي وجدت في الوباء فرصةً لممارسة قمعٍ أكبر، وأسهل، في ظلّ حالة الهلع العالمية هذه. فوتيرة العنف المنزلي، وتحديداً العنف ضدّ النساء، ارتفعت في البلدان التي اتّخذت قراراتٍ بالحجر المنزلي، من دون أن تتكثف التقارير حول ذلك. زادت نسبة البطالة، إذ سارعت الشركات إلى طرد الموظفين أو الاقتطاع من رواتبهم، فسلبت منهم الأمان الوحيد خلال محاربة الفيروس، من دون أن يجد العمال إعلاماً يُدافع عنهم. كذلك ذهبت بلدانٍ عدّة نحو فرض الرقابة: أطلقت الصين وكوريا الجنوبية وإيران وتايوان وروسيا، وغيرها، تطبيقاتٍ تُراقب المصابين بالفيروس بحجة "الخطر الذي يشكّلونه"، فيما سجن مواطنون في دول عدة بتهمة نشر الأخبار الكاذبة، وهي لم تكن كاذبة دائماً. تتفشى العنصرية ضدّ اللاجئين والوافدين والمصابين بالفيروس، فيما ينخفض صوتهم وتغيب صورتهم في الإعلام. وفيما يعاني العالم نقصاً في الدواء والغذاء والمستلزمات الأساسيّة للعيش، يقول إعلام السلطة للمواطنين إنّهم السبب في كلّ ذلك.
ترسم كلّ تلك الممارسات صورةً واضحة عن محاولات تطبيع الاستثناء ليُصبح النهج اليومي المرتقب ما بعد انتهاء الوباء، فيما تمدّ للإعلام جسراً نحو المستقبل: إما أن يتمسّك بمهنيّة الصحافة فيقف إلى جانب الحقيقة والحريّة في القطاع والمجتمع، وإما أن يصبح أداةً للديكتاتوريّة التي ستنقضّ عليه أولاً، متى تكرّست.
أمام كلّ ذلك، تبقى مهنيّة الصحافة سلاحاً وحيداً في وجه السقوط المسمّى إعلاماً، وخطّ دفاعٍ أوّل عن الإنسانيّة والحريّات في وجه عالمٍ يفيض كراهيةً وقمعاً. فحماية القطاع ومهنيّته واستقلاليّته، وجميع العاملين فيه، خلال مواجهة كورونا، تساهم في حماية المجتمع من الإصابة بالفيروس، وهي أيضاً تساهم في حمايته من البطش، ما بعد انتهاء الوباء.
في الشكل، توحّدت المؤسسات الإعلامية في بثّ "التوعية والإرشاد"، وهو الدور الذي يحتاج إليه العالم فعلاً حالياً، إلى جانب أدوار أخرى على الإعلام أن يلعبها. لكنّ نظرةً عن كثب للمضمون، تؤكّد أنّ عنوان "التوعية" و"تشكيل الرأي العام" لم يكونا سوى تعبيرين واسعين استغلّتهما، وتستمرّ، مؤسسات وأفراد، لبثّ ما يحثّ على العنصرية والوشاية والمؤامرات والخرافات، بالإضافة إلى التطبيل للأنظمة والعسكرة وإسكات المدافعين عن الحقوق والحريّات بحجّة "الأولوية". ببساطة، دفع كورونا بالإعلام المحابي للأنظمة إلى توسيع رقعة تحريضه، بدلاً من التمسك بالأداء المهنيّ عبر الرصد والكشف والفضح إلى جانب التوعية.
والصورة القاتمة تلك لدور إعلاميّ يؤدي حتماً إلى انتهاكاتٍ وممارسات قد تكون أكثر فتكاً بالإنسانيّة من وطأة جائحة كورونا، لم تقتصر على بلدٍ أو آخر. فحتى الأنظمة التي تعتبر نفسها ديمقراطيّةً كرّست وجوهاً إعلاميّة كي تبيّض صورتها، وتقرّع المواطنين الذين يبحثون عن إجراءات حكوميّة تحميهم من المرض والجوع، من دون أن يدفعوا حريّتهم ثمناً. ولعلّ لبنان، البلد الذي ينوء تحت أزمة اقتصاديّة غير مسبوقة هي نتيجةٌ حتميّة لعقود من الممارسات الفاسدة، كان مثالاً لناحية تطويع الإعلام لخدمة السلطة ضدّ المواطن، والذي وصل إلى حدّ اتهام المواطنين بالتسبب في الأزمة. هكذا، بات "طبيعياً" هذه الأيام أن يخرج إعلامي على الشاشة ليقول للشعب إنّه "بلا مخّ"، أو أن تشي إعلاميّة "بعدد من المواطنين لم يلتزموا بالحجر"، أو أن يروّج إعلامي آخر لخرافاتٍ تحت عنوان المقدسات، وصولاً إلى مقارنة المواطنين بالحمير، ورمي الاتهامات على اللاجئين، بل والدعوة إلى استلام العسكر السلطة وإلى استخدام الممارسات الديكتاتورية وحتى الترويج للمؤامرات، والعديد من ممارسات الكراهية التي تنتشر عبر صفحات هؤلاء على مواقع التواصل.
هذا النهج ليس حكراً على لبنان. ففي مصر، طُردت مراسلة "ذا غارديان" بعد نشرها دراسةً حول العدد الحقيقي المتوقع للإصابات، فيما روّج إعلاميون للخرافات، وبينها دعاء عبد الفتاح السيسي "الذي سيقهر الفيروس". وفي الأردن، قارنت إعلاميّة بين إجراءات السلطات من "حجر في الفنادق" مع إجراءات العزل في قطاع غزة المحاصر منذ 14 عاماً، لتقول للأردنيين إنّ عليهم أن يحمدوا النظام لأنه "عاملهم بإنسانية". في موريتانيا، فرضت السلطات على الصحافيين منع التجول. في الجزائر، شدّدت السلطات الرقابة على الصحافيين في ما يخصّ الأخبار عن كورونا، وحصرت النشر بها. في إيران، الصحافيون مهددون بالسجن لنشرهم أخباراً لا تتوافق مع رواية السلطة لتفشي الفيروس. في الصين، اختفى مواطنون وصحافيون أبلغوا عن الفيروس ووتيرة تفشّيه. وفي الولايات المتحدة الأميركية، يصوّب الرئيس دونالد ترامب غضبه نحو الصحافيين ويتّهمهم بنشر الأخبار الكاذبة، فيما الحقيقة أنّه لم يخرج بخطابٍ واحد لم يكن مفخخاً بأكاذيب وبتضليل، ما وصل إلى حدّ انتشار مزاعم عن إيجاد دواء لمكافحة الوباء، أدّت إلى إيذاء مَن صدّقوا فتناولوا جرعات من الكلوروكين على أنّه يقيهم الإصابة بالفيروس.
يعيدنا كورونا إلى نقطة الصفر في المعارك ضدّ تعطّش الأنظمة نحو تهميش الحقوق؛ خصوصاً تلك التي وجدت في الوباء فرصةً لممارسة قمعٍ أكبر، وأسهل، في ظلّ حالة الهلع العالمية هذه. فوتيرة العنف المنزلي، وتحديداً العنف ضدّ النساء، ارتفعت في البلدان التي اتّخذت قراراتٍ بالحجر المنزلي، من دون أن تتكثف التقارير حول ذلك. زادت نسبة البطالة، إذ سارعت الشركات إلى طرد الموظفين أو الاقتطاع من رواتبهم، فسلبت منهم الأمان الوحيد خلال محاربة الفيروس، من دون أن يجد العمال إعلاماً يُدافع عنهم. كذلك ذهبت بلدانٍ عدّة نحو فرض الرقابة: أطلقت الصين وكوريا الجنوبية وإيران وتايوان وروسيا، وغيرها، تطبيقاتٍ تُراقب المصابين بالفيروس بحجة "الخطر الذي يشكّلونه"، فيما سجن مواطنون في دول عدة بتهمة نشر الأخبار الكاذبة، وهي لم تكن كاذبة دائماً. تتفشى العنصرية ضدّ اللاجئين والوافدين والمصابين بالفيروس، فيما ينخفض صوتهم وتغيب صورتهم في الإعلام. وفيما يعاني العالم نقصاً في الدواء والغذاء والمستلزمات الأساسيّة للعيش، يقول إعلام السلطة للمواطنين إنّهم السبب في كلّ ذلك.
ترسم كلّ تلك الممارسات صورةً واضحة عن محاولات تطبيع الاستثناء ليُصبح النهج اليومي المرتقب ما بعد انتهاء الوباء، فيما تمدّ للإعلام جسراً نحو المستقبل: إما أن يتمسّك بمهنيّة الصحافة فيقف إلى جانب الحقيقة والحريّة في القطاع والمجتمع، وإما أن يصبح أداةً للديكتاتوريّة التي ستنقضّ عليه أولاً، متى تكرّست.
أمام كلّ ذلك، تبقى مهنيّة الصحافة سلاحاً وحيداً في وجه السقوط المسمّى إعلاماً، وخطّ دفاعٍ أوّل عن الإنسانيّة والحريّات في وجه عالمٍ يفيض كراهيةً وقمعاً. فحماية القطاع ومهنيّته واستقلاليّته، وجميع العاملين فيه، خلال مواجهة كورونا، تساهم في حماية المجتمع من الإصابة بالفيروس، وهي أيضاً تساهم في حمايته من البطش، ما بعد انتهاء الوباء.