بقدر ما كان لقائد "فيلق القدس" قاسم سليماني دور مهم وأساسي في الساحة العراقية، بحكم وصفه المهندس الرئيسي للتدخلات الإيرانية في الخارج، والمشرف على العمليات العسكرية والاستخباراتية لطهران في العديد من دول المنطقة، فإن اسمه ارتبط أيضاً إلى حد كبير بدور المليشيات الإيرانية وتلك المدعومة من طهران في الحرب الدائرة في سورية منذ بداية الثورة في 2011، بما في ذلك العديد من المجازر التي ارتكبتها هذه المليشيات في مختلف المدن السورية، فضلاً عن دورها في دعم وتثبيت نظام بشار الأسد، بعد أن مرت عليه مراحل كان فيها على وشك الانهيار، نتيجة تقدّم قوات المعارضة اعتباراً من منتصف عام 2014، وقبل التدخل العسكري الروسي.
وفيما وصف مصدر في وزارة خارجية النظام السوري، اغتيال سليماني بـ"العدوان الإجرامي الأميركي الغادر"، معتبراً أن عملية الاغتيال "تشكّل تصعيداً خطيراً للأوضاع في المنطقة"، رحب الائتلاف الوطني المعارض بمقتل سليماني، وقال، في بيان، إنه مسؤول عن "ارتكاب المجازر وتهجير ملايين السوريين". واعتبر أن مقتل سليماني "يمثل نهاية لواحد من أبرز مجرمي الحرب، المسؤولين عن ملف الجرائم في سورية، وفي المنطقة بشكل عام"، مشيراً إلى دوره المحوري في ما وصلت إليه الأوضاع في سورية.
وعمل سليماني خلال أعوام الحرب على تأسيس مناطق نفوذ متقدمة لمجموعات مسلحة متعددة الجنسيات في سورية، بهدف دعم نظام الأسد، وبناء حضور مستدام لإيران هناك للتحكم بمستقبل سورية، تحت حجة مواجهة إسرائيل كما تقول الدعاية الإيرانية. ومنذ انطلاق الثورة في العام 2011، بدأ سليماني يسافر دوريا إلى دمشق، وكان يدير معركة بقاء الأسد بنفسه بحسب تقارير استخباراتية أميركية، محاطاً بقادة متعددي الجنسيات، بينهم قادة مليشيات النظام، و"حزب الله" اللبناني، وممثلون عن مليشيات عراقية لديهم مقاتلون في سورية، واستطاعوا مع الدعم الروسي، السيطرة على معظم المدن والمحافظات السورية التي كانت بيد المعارضة لسنوات. واستخدم سليماني نفوذه في العراق للسماح باستخدام الأجواء العراقية في نقل ما يحتاج إليه نظام الأسد من مقاتلين وعتاد إلى سورية من إيران طوال 8 سنوات من الحرب. وكان سقوط نظام الأسد يعني القضاء على مشروع التوسع الذي قاده سليماني لخمس عشرة سنة في قيادة "فيلق القدس". وفي كلمة له، أمام مجلس الخبراء الإيراني في عام 2013، اعتبر سليماني أن سورية هي "خط الدفاع الأول للمقاومة".
ويعود التدخل العسكري الإيراني في سورية إلى مطلع 2012، عندما بدأت مليشيات، مدعومة من طهران، بدعم قوات النظام في مواجهاتها مع الفصائل والمجموعات التي تشكلت في المدن والبلدات السورية، ومن خلال تقديم ضباط من "الحرس الثوري الإيراني" الدعم والمشورة للنظام، وصولاً إلى انتشار القوات والمليشيات الإيرانية في معظم الأراضي السورية، واحتكار السيطرة على إدارة بعض الأحياء والبلدات من الناحية الأمنية. كما تجذّر هذا الحضور ضمن أجهزة النظام الأمنية والعسكرية. في 2014، مع اقتراب نظام الأسد من الانهيار ومع تقدّم المعارضة المسلحة، تدفق الآلاف من عناصر المليشيات إلى سورية بدعم من إيران، وإشراف مباشر من "فيلق القدس" وقائده سليماني، من إيران وأفغانستان وباكستان والعراق ولبنان، مدفوعين إما من منطلق عقائدي أو بإغراءات مالية.
وتشير تقديرات "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" إلى أن عدد مقاتلي المليشيات العراقية في سورية يتراوح ما بين 15 ألفاً و20 ألف مقاتل، فيما يقدر عدد مقاتلي "حزب الله" اللبناني بنحو 7 آلاف إلى 10 آلاف مقاتل، ونحو 5 آلاف إلى 7 آلاف مقاتل أفغاني وإيراني. لكن تقديرات أخرى تشير إلى أن الرقم وصل إلى 80 ألفا أو 100 ألف مقاتل من هذه المليشيات في ذروة الحرب السورية بين 2014 و2018، قبل أن يبدأ العدد بالانحسار في الفترات الأخيرة بعد تمكن النظام من استعادة السيطرة على معظم الأراضي، وانحسار فصائل المعارضة شمالي غرب سورية. ويأتي "حزب الله" اللبناني في الطليعة لجهة الفاعلية والدور، ويتخذ مقاتلوه من مدينة القصير بريف حمص الغربي مقراً لهم، وينشطون على حدود سورية مع لبنان.
كما لـ"فيلق القدس"، بقيادة سليماني، حضور ملموس في معظم مفاصل العمل العسكري في سورية. وينسب إليه الفضل في الاستيلاء على الكثير من المدن التي كانت تسيطر عليها المعارضة، قبل أن يتمركز نشاطه في الفترة الأخيرة على الحدود العراقية السورية، في محاولة لتأمين الطريق البري بين إيران والبحر المتوسط. يضاف إلى ذلك العديد من التشكيلات، مثل "لواء الباقر" الذي ينتشر في مدينتي حلب ودير الزور، وهو من أبرز المجموعات المسلحة التي دعمتها إيران ودربتها خلال السنوات الماضية في سورية، و"لواء الإمام الحسين" الذي يشترك مع "الفرقة الرابعة" التابعة لقوات النظام في أغلب العمليات العسكرية المتركزة في محيط العاصمة دمشق، كما يتواجد في منطقة مستشفى البيروني في منطقة حرستا وفي الغوطة الشرقية لدمشق، إضافة إلى مهمة حماية مرقد السيدة زينب بريف دمشق، ويتكون من مقاتلين إيرانيين وعراقيين وأفغان وبعض السوريين وجنسيات أخرى. كما توجد في سورية العديد من المليشيات العراقية، والتي تتمركز في محيط دمشق وبلدة العيس جنوب حلب وريف حمص الشرقي، ويشارك حالياً بعض أفرادها في معارك إدلب والشمال السوري، وفي مقدمتها "كتائب حزب الله" العراقي، و"حركة النجباء" و"الإمام الحسين"، و"أسود الله"، و"كتائب الإمام علي"، وغيرها.
أما أهم المليشيات الأفغانية، فهي "لواء فاطميون"، وقوامه عناصر من قومية الهزارة بأفغانستان. وهو يتلقى التمويل والتدريب من قبل "الحرس الثوري" الإيراني. ويُقدر تعداد أفراده في سورية بنحو 3000 مقاتل، وينتشر خصوصاً في ريف دير الزور والبوكمال. وقد قتل مؤسس التنظيم علي الرضا توسلي في اشتباك مع "جبهة النصرة" في درعا، فيما توفي خليفته محمد جعفر الحسيني قبل أيام متأثراً بإصابة ناجمة عن صاروخ تعرّض لها قبل نحو عامين. وهناك "لواء زينبيون"، وهو مليشيا باكستانية، تتلقى المال والتدريب من "فيلق القدس"، ويضم مئات المقاتلين. ويتمركز أفراد اللواء في شمال حلب وجنوبها وجنوب دمشق ودرعا.
والواقع أن النفوذ العسكري الإيراني في سورية يتخذ أشكالاً ومستويات مختلفة، تتمثل في السيطرة المباشرة على قواعد عسكرية في البلاد، أو بالمشاركة بشكل مباشر في المعارك، وغالباً ما يكون ذلك عبر قوات تابعة إلى "الحرس الثوري"، وتحديداً "فيلق القدس"، إذ تسيطر إيران اليوم على عدد من القواعد العسكرية، أهمها مطار دمشق الدولي، الذي يدير "الحرس الثوري" جزءاً منه لاستقبال المقاتلين وتنسيق الدعم اللوجستي للمليشيات الإيرانية في سورية، إضافة إلى نقل الأسلحة المتطورة، مثل الصواريخ دقيقة التوجيه من إيران إلى "حزب الله" عبر سورية. وتعرّض المطار نتيجة ذلك إلى عدة ضربات إسرائيلية، فيما ذكرت تقارير أن الروس وصلوا إلى اتفاق مع الإيرانيين لوقف استخدام المطار لإرسال الأسلحة، والانتقال تدريجياً إلى استخدام مواقع أخرى متفرقة لتخزين هذه الأسلحة وتنظيم عملية نقلها.
كما يسيطر الإيرانيون على مطار "T4" (التيفور)، ويقع وسط سورية شمال مدينة تدمر، ويضم وحدات من "الحرس الثوري" تدير عمليات الطائرات من دون طيار الإيرانية في سورية. وتعرّض هذا المطار لضربات إسرائيلية عدة مرات. كما أن لدى "الحرس" حضوراً بارزاً في أغلب القواعد العسكرية الكبرى للنظام، مثل مطار حماة العسكري ومطار النيرب في حلب وجبل عزّان بريف حلب الجنوبي، وقواعد في منطقة الكسوة جنوب دمشق، التي تضم مستودعات أسلحة تستخدم في عمليات نقل الأسلحة إلى "حزب الله" في لبنان، والتي تحوي أيضاً مقرات قيادة وتحكم تدير العمليات وانتشار المليشيات في جنوب سورية.
يضاف إلى ما سبق، المليشيات المحلية السورية التي تم تشكيلها بدعم وتمويل إيراني، التي وإن تراجعت أعدادها خلال السنة الأخيرة، إلا أنها لا تزال تمتلك حضوراً هاماً في بعض المناطق، مثل بلدتي نبّل والزهراء شمال حلب. وبشكل عام، كانت التقديرات منتصف العام 2015 تشير إلى وجود ما بين 100 ألف إلى 150 ألف مقاتل مدعوم من إيران في سورية، غير أنه مع انحسار العمليات القتالية، عاد الكثير من المقاتلين العراقيين واللبنانيين، ليتبقى حالياً ما بين 20 ألفا إلى 30 ألفاً، بحسب أرقام تقديرية. وعلى الرغم من أن المرشد الإيراني علي خامنئي، سارع إلى تعيين قائد جديد لـ"فيلق القدس"، خلفاً لقاسم سليماني، وهو العميد إسماعيل قاآني، مؤكداً أن مهام "الفيلق" لن تتغير مع مقتل قائده، فإنه من المتوقع أن يكون لغياب سليماني تأثير على المدى البعيد على مجمل الحضور الإيراني في سورية، خصوصاً المليشيات التي كان وجوده يشكل ضمانة لتنسيقها وتعاونها وضبط نزاعاتها، إضافة لما يملكه سليماني من علاقات ونفوذ مع القيادة الإيرانية، وخامنئي.
ويرى متابعون أن المليشيات الإيرانية في سورية قد لا تكون في وضع يسمح لها بالقيام بأي ردود ضد القوات الأميركية الموجودة في سورية، نظراً للرد القاسي المتوقع أن تواجهه في حال أقدمت على التحرش بتلك القوات، إذ ينشط الطيران الأميركي في المنطقة، وتراقب القوات الأميركية، التي يبلغ عديدها حالياً نحو 2000 جندي، في مراقبة تحركات تلك المليشيات، التي ليست على تماس مباشر مع القوات الأميركية، سواء الموجودة في قاعدة التنف أو في قواعد متفرقة في مناطق شرق الفرات، خصوصاً في حقول النفط. وبالنسبة لمنطقة التنف، تفرض القوات الأميركية "مسافة أمان" تبلغ 55 كيلومتراً، يُمنع على قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية الاقتراب منها، فيما تراقب طائرات الاستطلاع الأميركية المليشيات الإيرانية الموجودة مع قوات النظام غربي نهر الفرات، وفي منطقة البوكمال على الحدود العراقية بشكل خاص. وقد وجهت لها في الفترات الأخيرة العديد من الضربات، كلما حاولت الاقتراب من مناطق سيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة.