مهزلة الوحدة الرباعية!

07 اغسطس 2018
+ الخط -
يوماً ما، حين يكتب كتاب مفصل عن مهازل التجارب الوحدوية العربية التي تمت بقرارات فوقية وفرمانات عسكرية في النصف الثاني من القرن العشرين، سيكون فيه فصل ممتع في هزليته مؤلم في عبثيته وصغير في حجمه ربما، عن تجربة الوحدة الرباعية بين مصر وسورية وليبيا والسودان التي بدأ الإعلان عنها في مطلع عام 1971، وكان من المفروض أن يتم تعميدها رسمياً بعد مباحثات في طرابلس، لكن الرئيس السوداني جعفر النميري انسحب من المباحثات فجأة لأسباب لم تعلن في الصحف وقتها، وقد كانت كل الصحف رسمية وقتها كما هي الآن، لكن انسحاب النميري لم يؤثر في عزيمة بقية القادة الذين قرروا جعل الوحدة ثلاثية، مع الاحتفاظ لها بنفس الاسم الذي سبق الإعلان عنه، على أمل أن يتم تغيير رأي النميري فيما بعد، وإقناع قادة آخرين بالانضمام إلى التجربة.







بعد أيام من انسحاب النميري، توجه أنور السادات وحافظ الأسد ومعمر القذافي إلى مدينة بنغازي الليبية، ل يقوموا بالتوقيع على ميثاق بنغازي لإقامة اتحاد الجمهوريات العربية المتحدة في 17 ابريل عام 1971، و"نَتَع" كل رئيس من الثلاثة خطبة حماسية نارية استقبلتها الجماهير بالترحاب والهتاف والتهليل، وربما كان ما يميز خطبة السادات أنه خصص فيها قسماً كبيراً للثناء على سلفه جمال عبد الناصر، الذي لم يكن قد مشى على خطه "بأستيكة"، كما حدث في مرحلة ما بعد "ثورة التصحيح المجيدة"، وبعد التوقيع على الميثاق ولاستكمال المسرحية الهزلية تم الإعلان عن إحالة الميثاق إلى برلمانات الدول الثلاثة، ثم إلى استفتاء شعبي، وبالطبع لم تتأخر البرلمانات المعينة في التصديق على الميثاق، ولم تخذل الاستفتاءات المزورة رغبة القادة فكانت نتيجة الاستفتاء في مصر موافقة بنسبة 99.9% كالعادة، بينما بلغت نسبة الموافقة في ليبيا 98.6% وفي سورية 96.4% على أساس أن هامش الديمقراطية في ليبيا وسورية كان يسمح بوجود نسبة معارضة كما لا يخفى على فطنتك.






ربما كان ما يميز هذه التجربة الوحدوية الهزلية عن سابقاتها أنها ماتت في صمت غريب، دون أن يتم استخراج شهادة وفاة رسمية لها، وقبل حتى أن يتحول شركاءها إلى أعداء، وتنشر نفس الصحف التي هللت للقذافي والأسد وتغنت بوحدويتهما وعروبتهما وثوريتهما، مواد صحفية تلعن سنسفيلهما وتسخر منهما، لدرجة جعلت رسام الكاريكاتير مصطفى حسين يرسم القذافي وهو يجلس على القصرية وينال على ذلك استحسان السادات وتشجيعه، وربما كانت الحسنة الوحيدة التي ميّزت الوحدة التي غلبها الغلاب كسابقاتها، أنها بسبب عمرها القصير، لم تترك خلفها أي أعمال فنية "ملحمية"، فلم يعش لها أوبريتات ولا أغاني ولا أفلام ولا كتب تذكارية، ولم يبق منها سوى المدائح النفاقية التي نشرتها الصحف بكثافة معهودة النظير، وبعض ما ستراه من المساهمات الإعلانية النفاقية المثيرة للضحك المبكي.











الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ساحر نساء الشرق!

في منتصف الخمسينات شنت مجلة (الجيل) الصادرة عن دار أخبار اليوم حملة على المقرئ الكبير الشيخ عبد الباسط عبد الصمد -أكثر مقرئي مصر جماهيرية في ذلك الوقت- والذي وصفته المجلة بالشيخ عبد الباسط براندو، معتبرة أنه يستحق ذلك اللقب لجاذبيته عند النساء، بل اعتبرت أنه "فاق في جاذبيته النجم الأمريكي العالمي مارلون براندو، لأنه تسبب في طلاق الزوجات من أزواجهن جرياً وراءه"، وهو ما أثار استياء البعض، الذين اتهموا المجلة بأنها تسعى لتشويه صورة أحد حفظة كتاب الله.

في عددها 193 الصادر بتاريخ 5 سبتمبر 1955 تحدثت المجلة عمّن وصفتها بأنها "ضحية جديدة للشيخ عبد الباسط"، وهي سيدة سورية اسمها هدية، كانت تقيم في حلب مع زوجها وأطفالها الثلاثة، ثم انتقلت إلى القاهرة لتقيم فيها ضيفة لدى الشيخ عبد الباسط في منزله مع زوجته وأطفاله الخمسة ووالدته وشقيقه الأستاذ عبد الحميد، وبعد أن أصبحت "ولهانة في حب الشيخ عبد الباسط" انتقلت إلى عمارة رقم 2 بميدان التحرير، وبعدها إلى عوامة الحاج أمين سلامة وعنوانها رقم 4 شارع أبو الفدا بالزمالك.

قامت (الجيل) بمواجهة الشيخ عبد الباسط الذي وصفته بأنه (ساحر نساء الشرق) بالواقعة، فقال إنه لم يكن يعرف أن المسألة ستتطور إلى هذا الحد، وأنها كانت معجبة بصوته في الأول لكن الأمر تطور إلى حدود أخرى، وأنها زارته مع زوجها وأولادها في منزله بالقاهرة، ورد لهم الزيارة في سورية، ولاحظ أنها تبالغ في الاعتناء به، وأحس بعدم وجود تفاهم كامل بينها وبين زوجها، وعندما عاد فوجئ بها ترسل برقية تخبره بأنها ستحضر إلى القاهرة بمفردها، فأرسل إليها برقية يقول لها: لا تحضري، وسافر بعدها ليعود للقاهرة ليجدها أمامه، وأقسم بالله العظيم ثلاثة أنه لم يتفق معها على أن يتقابلا في القاهرة، وأضاف "صاحب العينين الناعستين" كما وصفته المجلة أنه علم أنها طلقت من زوجها لأسباب خاصة بينهما، وحضرت هدية للإقامة لديه في منزله، "ولم يكن بخلدي لحظة أنها تحمل في قلبها شعوراً غير طبيعي".



وحين سأله محرر الجيل كيف تطور الأمر إذن؟: "أطرق الشيخ عبد الباسط برأسه قليلاً، وعلت حمرة الخجل وجهه الأسمر، وتلعثمت شفتاه الورديتان وقال: أرجوك يا سيدي، أنا لا أريد أن تحشروني في هذه المواضيع، أنا رجل أقوم بعملي في هدوء وأسعى وراء رزقي، وهذه القصص تخلق حولي جواً لا أطيقه"، مضيفاً أنه أرسل شكوى إلى المسئولين يطلب إبعاد هذه السيدة إلى بلدها، وهنا نشرت المجلة الحوار التالي الذي دار بينه وبين محررها:

ـ هل خشيت على نفسك من الفتنة؟
يا راجل بلاش الأسئلة دي.
ـ لماذا تركت منزلك؟
لأنني طلبت منها أن تغادره
ـ ولماذا؟
قلنا بلاش الأسئلة دي.
ـ الشيخ عبد الباسط ماذا فيك يغري النساء؟
ارتسمت ابتسامة عذراء على وجهه الأسمر المضيئ وقال: ها أنذا أمامك افحصني كما تشاء.
ـ هل ترى أن السحر في عينيك؟
يا راجل عيب.
ـ هل ترى سر جاذبيتك في شفتيك؟
وبعدين بقى
ـ ألا تشعر أنت بمدى تأثيرك في النساء؟
أنا لا أرى لي تأثيراً خاصاً في النساء، وكل ما في الأمر هو إعجاب بصوتي أشكر الله عليه.
ـ ولكن الإعجاب يا شيخ براندو يتطور؟
لا تقل إنني براندو، لا تلصق اسمي بممثل زنديق.
ـ لقد سلبت منه لقب معبود النساء؟
الله يقطعهم يا شيخ جابوا لنا الدوشة والشوشرة.
ـ إن كثيرين يحسدونك على ملاحقة النساء لك.
حيحسدونا على الهم ده، مش كفاية كتابة أخبار اليوم والجيل".



لم تنشر المجلة اسم المحرر الذي نشر الواقعة وأجرى الحوار، وإن كان السطر الأخير فيها يشير إلى أن الهجوم عليه كان ضمن حملة شنتها صحف مؤسسة أخبار اليوم التي كانت تصدر مجلة (الجيل)، لم أجد فيما توفر لي من أعداد المجلة في ذلك الوقت، مقالات ساخرة مماثلة نسبها البعض إلى أنيس منصور وأحمد رجب، لكن هذا الموضوع كان على ما يبدو الأشد وطأة في الهجوم على الشيخ عبد الباسط، حتى أنه قام بنشر صور مقربة لشفتيه وعينيه، فضلاً عن رسم كاريكاتيري له وهو يرتدي قفطاناً مرصعاً بالقلوب، وعباءة تشدها عدة نساء وهو يحاول الهروب منهن.



بالطبع ينتمي الموضوع المنشور إلى "قطعية" الصحافة الصفراء التي تخوض في الحياة الشخصية دون مناسبة، وتدين شخصية عامة في قضية لم يكن فيها اتهامات موثقة، والمضحك أن رئيس تحرير المجلة موسى صبري، قام فيما بعد في منتصف الثمانينات بشن حملات على صحيفة (الأهالي) التي كان يرأس تحريرها الأستاذ حسين عبد الرازق، وكان يتهمها بمخالفة الأخلاقيات الصحفية وإهانة شرف المهنة، لأنها كانت تنشر حملات صحفية تفضح فيها فساد حكومة الحزب الوطني، وهو ما جعل الأستاذ صلاح عيسى يرد عليه في بابه الشهير (الأهبارية) بسلسلة مقالات ساخرة أطلق عليه فيها لقب (موسى شرف المهنة)، قام بتذكيره بعدد من اشهر الموضوعات الصحفية التي نشرها في مجلة (الجيل)، ومن بينها حملة صحفية طالب فيها موسى صبري بإعادة ترخيص البغاء، ومع ذلك كله لا تملك نفسك حين تقرأ ما نشرته مجلة (الجيل) عن الشيخ عبد الباسط عن التساؤل عما كان سيحدث لصحف ومجلات ومباني وسيارات وصحفيي وصحفيات مؤسسة أخبار اليوم والمؤسسات المجاورة لها، لو كان مثل هذا الموضوع قد وجد طريقه إلى النشر في الثلاثين سنة الأخيرة.

الفقرة الإعلانية

جائزة الثبات الانفعالي والقدرة على التكيف مع تقلبات الواقع الوغد من أجل الحفاظ على لقمة العيش وإبقاء البيوت مفتوحة وعمرانة، تذهب بجدارة إلى رمضان شحاتة أحمد، الذي لا أدري ما الذي فعله الزمان بمصانعه، وأتمنى على من يعرف عن مصيره ومصيرها شيئاً أن يفيدنا بذلك، وله الأجر والثواب.



(رمضان قبل الثورة)



(رمضان بعد الثورة)

من بريد القراء

إلى هواة البكاء على زمن الفن الجميل وأيام الشارع المصري المنضبط وأخلاق القرية وثقافة العلم والإيمان، أهدي هذه الشكوى التي نشرها بريد القراء في مجلة المصور بتاريخ 2 فبراير 1979 موقعة باسم القارئ حسني الأمين والتي يقول فيها بالنص:

"هللنا عندما سمعنا حملات الانضباط وتوقعنا محاولات جادة وهادفة من أجل إعادة تيار الشارع المصري إلى مجراه، بعد أن انحرف وراح يغرق الأرصفة والمنازل والحوانيت بالعطن والروائح الكريهة، أعني بذلك التسيب والانحلال والخروج على التقاليد والاستهانة بالذوق العام. فجأة فجعنا في آمالنا، فملاعب الكرة الشراب كما هي تسد الطرقات وتعوق المارة وتنبعث منهأ أقبح الألفاظ وأقذع الشتائم. ودور الملاهي عامرة بما لذ وطاب، وميكروفون الإذاعة ما زال يرسل التفاهات من خلال الأغنيات (البمبي)، والشاشة الصغيرة ما زالت تصب فوق رؤوس المشاهدين المصائب الكبيرة بما تعرضه من فنون الهز وماجن اللهو وبذئ المسلسلات كأوراق الشوك لا الورد، التي عرضت في ذروة موجة الانضباط، وحفلت بمشاهد الكيد والوقيعة والخيانة والتزوير، فضلاً عن حصيلة وافرة من الألفاظ النابية التي لم يتورع الأزواج عن تبادلها أمام الأبناء مما حدا بالأبناء احتقار الآباء ومخاطبتهم بلا تحفظ أو حياء".

لهذا لزم التذكير، لعل الذكرى تنفع المواطنين من مدمني البكاء على الزمن الجميل.

وختاماً مع الكاريكاتير

حين انتقل رسام الكاريكاتير الرائع والساخر العظيم أستاذنا بهجت عثمان من مجلة (صباح الخير) إلى مجلة (المصور) في مطلع الستينات، بعد أن تولى صديقه الأستاذ أحمد بهاء الدين رئاسة تحريرها، قام بعمل تجارب مدهشة فيما يمكن أن يطلق عليه جداريات الكاريكاتير التي تختار في كل مرة فكرة وتقدم عدداً من التنويعات الكاريكاتيرية حولها، وللأسف لم يجمع أغلب ما قدمه من أعمال مدهشة في هذا الباب، ولم يصلنا من تجاربه الرائعة إلا أقل القليل، هنا نموذج منها، لن تندم إذا قمت بتكبيره وتأمل تفاصيله الممتعة.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.