مهرجان "الدوخلة" في جزيرة "تاروت " السعودية

02 أكتوبر 2014
رسوم لأطفال من جزيرة تاروت في المهرجان السنوي(العربي الجديد)
+ الخط -
منذ أن سرد الأجداد الفينيقيون والبابليون حكاياتهم على ضفاف الأبحر والأنهار في بلاد الشام والرافدين، كان لـ"الدوخلة" وجود يضرب في أعماق إنسان الجزيرة العربية، فقد كانت طقساً أهلياً ذا صبغة عائلية، يستعيد من خلاله إنسان هذه المنطقة، علاقته مع الطبيعة الأمّ، حينما كان يرسل عبر البحر أمنيات وينشد أدعية تدرأ عن المسافرين مخاطر السفر، وترجو عودتهم سالمين إلى ذويهم. 

تقاس أيام الانتظار والشوق والأمل من خلال زرع بذور القمح أو الشعير في أوعية صغيرة تخصص لهذه الغاية، ثم يقوم الفتى أو الفتاة برعايتها وسقايتها حتى تنمو. من خلال حساب فترة نموها يُحصى عدد الأيام التي قضاها المسافر بعيداً عن أهله، والأيام المتبقية على عودته. بعد ذلك، وعلى وقع كلمات مغنّاة، يرمي الفتاة أو الفتاة "دوخلته" إلى مياه البحر، ردّاً على جميله.

شتلات القمح والشعير

على سواحل الخليج العربي، كان سكان المناطق الساحلية الشرقية يقدمون السلال مملوءة بشتلات القمح والشعير ويقذفونها في البحر رادّين إلى البحر جميله، وما يعطيه ويقدمه لسكان الشواطئ. هذه السلّة المصنوعة من سعف النخيل التي يرتجى منها رضا البحر على راكبيه من الحجاج، تُسمّى "الدوخلة".
في لسان العرب الدَّوْخَلَّة، مشدّدة اللام: سَفِيفة من خوص يوضع فيها التمر والرُّطَب. أما في الصحاح في اللغة، فالدَوْخَلَةُ هذا المنسوج من الخُوص يُجْعَلُ فيه الرُّطَبُ، يشدَّد ويخفَّف. وهذا ما يعني أن كلمة دوخلة فصيحة عربية، وليست عامية تقتصر على لغة أهل المنطقة المحلية.
تُسمّى الدوخلة في بعض دول الخليج بـ"الحيّة بيّة"، واستخدمت في الماضي لتسلية الأطفال الذين سافر آباؤهم لأداء فريضة الحج، فيضعون السماد والتراب فيها وينثرون بعض بذور القمح أو الشعير، ثم يبدأ الأطفال بريّها والاعتناء بها حتى ينبت الزرع. وكان الأطفال يتباهون في ما بينهم بجمال نباتاتهم ونضارتها بينما تنمو، وهو ما يدللّ على أن نتائج الرحلة خيّرة. ونمّو القمح أو الشعير يعد مقياسا لمرور الوقت الذي يغيبه الحاج المسافر.

صباح عيد الأضحى

ما أن يعلن عن بزوغ صباح عيد الأضحى حتى يتسابق الأطفال، كلٌ بدوخلته، يرميها في البحر ويبدأ بالأنشودة الشعبية المحلية: "دوخلتي حيّي بي أو حجّي بي وديني إلـ حبيبي ..".
قديماً كان الحجاج المسافرون عبر البحر أو البرّ يغيبون لشهور عديدة، إذ يضطر حجاج المنطقة الشرقية إلى الانتقال بواسطة السفن من الخليج إلى البحر الأحمر نحو جدة، ومنها سيراً نحو مكة المكرمة، وبنفس الطريقة تكون طريق العودة. تشكّل الدوخلة تقليداً عريقاً عرفته منطقة الخليج العربي منذ القدم، وكان أبناء الحواضر البحرية يجتمعون عند الشاطئ في يوم العيد، ويدعون أطفالهم ليرموا بسلال الدوخلة في البحر.
ولم يكن تقليد الدوخلة حصراً على أبناء السواحل، فأبناء الريف كانوا يمارسون التقليد أيضاً، ولكنهم كانوا يرمون بدوخلاتهم في العيون الجوفية والآبار.

تسميات عديدة لدعاء شعبي

في الساحل الشرقي؛ تعدّدت مسميات هذا التقليد الشعبي. ففي الوقت الذي يسمّيه سكان جزيرة تاروت دَوخلَهْ يسمّيه سكان آخرون في القطيف بـ "اسْعنّهْ" . أما سكان الجبيل فكانوا يسمّونه "الحـَيـَّهْ" ، ويقصدون بذلك الحَجّـهْ، فقد كان سكان الجبيل ينطقون حرف الجيم ياءً. ويحفظ كبار السن، في منطقة الخليج أهزوجة شعبية لـ الدوخلة تقول كلماتُها:

دَوْخـَلتيْ حـِجّي بيْ
لا مِن يجي حبيبي
حبيبي راح مكـةْ
ومكة المعمورةْ
أم السلاسل والذهب والنّوْرَةْ.
ومعنى الأهزوجة هو يا دوخلتي سافري بي، حتى يأتي حبيبي الذي ذهب حاجاً إلى مكة المعمورة المُنيرة .

بدايات المهرجان

بدأ مهرجان الدوخلة قبل سنوات بفكرة طرحها القاص والكاتب حسن دعبل وبمشاركة الشاعر فاضل الجابر وبعض أصحابهم من جزيرة تاروت القريبة من مدينة القطيف، شرقي المملكة، وقرروا إحياء هذا الاحتفال الشعبي، وتعليم الأطفال وتوريثهم تراثهم الجميل البسيط. أحد عناصر المهرجان المهمة تتمثّل بالنشاط التطوّعي للشباب العاملين فيه، الذين بلغ عددهم في بعض الأحيان ما يقارب الألف متطوّع ومتطّوعة. ولم يعد مهرجان الدوخلة خاصاً بأبناء سكان جزيرة تاروت فحسب، فقد تحوّل إلى تظاهرة سنوية تنقل عادات وتقاليد سكان الجزيرة الذي عاشوا مع البحر لأزمنة بعيدة.
بعد انطلاقته وتحقيقه النجاح، تمكّن المهرجان من جذب الاهتمام الرسمي به فحصل منظموه على قطعة من الأرض يُقام عليها كمنحة من الحكومة لدعمه ودفعه إلى تطوّر أكبر. مع اتساع حلقة الزوار، أخذت حلّة المهرجان تتضخم وتتسع أكثر فأكثر حتى وصل هذه السنة إلى دورته العاشرة.
أصبح المهرجان يضم الفعاليات التي تهدف إلى إحياء الموروث على المستوى التراثي والسياحي، وكذلك على المستوى الثقافي من خلال تنظيم الفعاليات المسرحية والأمسيات الأدبية والألعاب الترفيهية والمعارض الفنية والتاريخية.

تاروت ابنة عشتاروت 
يرجّح عدد من الباحثين وعلماء الآثار، بينهم الباحث الأثري ب. بينتي، الذين قاموا بعمليات التنقيب والكشف في جزيرة تاروت، منذ سبعينيات القرن الماضي، أنّ اسمها قد استمد من "عشتاروت" آلهة الخصب الفينيقية، وذلك بعدما عثر على الكثير من الآثار الفينيقية والساسانية والإسلامية، من نقوش وكتابات على قطع فخارية، مما يشير إلى قدم الاستيطان البشري لهذه البقعة في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية. 
وبناء على ما نشر عن مركز الآثار السعودية، فقد أمكن معرفة الكثير من تاريخ الاستيطان البشري في المنطقة الشرقية التي تعتبر تاروت جزءاً منها. أما قلعة تاروت، التي تم بناؤها ما بين عامي 1515 و1521 في وسط الجزيرة، فيرجح الباحثون أنها بنيت من قبل سكانها لتحميهم من هجمات البرتغاليين، إلا أن بعضهم يرى أن الغزاة البرتغاليين هم الذين بنوها لتحميهم من هجمات الأتراك ضدهم، إلا أنهم اضطروا لتسليم القلعة عام 1559، وخرجوا من تاروت إلى جزيرة أوال (البحرين). وتتكون القلعة من أربعة أبراج متقابلة، يقوم كل واحد منها في ركن من أركانها، فناؤها مستطيل في وسطه توجد بئر عميقة، يعتقد أنها لتخزين المؤونة في فترات الحصار. 
يزخر متحف الرياض الوطني بكثير من المقتنيات الأثرية ذات الدلالة التاريخية الهامة، التي تم اكتشافها في منطقة قصر تاروت الأثري، وكان آخر ما اكتشف مدفع حربي قديم. 
المساهمون