مهاجرون في غربتهم!

27 اغسطس 2020
+ الخط -

لاشكّ أنّ الكثيرين منا، ممن يُتاح لهم السفر والتنقل بين البلاد العربية، أو بين غيرها من بلاد العالم الواسع، قد لاحظوا كثرة عدد المثقفين والنابهين منهم بالذات، وذوي التخصصات المختلفة من سياسية واقتصادية وأدبية وعلمية، الذين ليسوا في بلادهم، ولا في أماكنهم الطبيعية.

ولست أشير بذلك إلى موضوع "هجرة العقول" بمعناها الشائع المعروف، وإن كان لما أريد أن أتحدث عنه علاقة بهذا الموضوع، إلّا لأنني أريد أن أتحدث عنه من زاوية معينة، تخرج بنا قليلاً أو كثيراً عن مشكلة "هجرة العقول" بمعناها الشائع.

فمشكلة "هجرة العقول" بمعناها الشائع، مشكلة عالمية، لا يختلف فيها عربي عن غير عربي. وحتى البلاد المتقدمة تواجهها وتعاني منها، إزاء بلاد أكثر تقدماً.

فإذا أخذنا أبرز بلاد المهجر، مثل الولايات المتحدة الأميركية أو كندا فسنجد فيها عقولاً مهاجرة من البلاد العربية، ومن دول البحر الأبيض، ومن إنكلترا، وفرنسا، ومن الهند وأفريقيا.

المشكلة تنحصر ببساطة في أن بعض المثقفين خصوصاً في مجالات يشتد عليها الطلب أحياناً كالطبّ والهندسة وبعض العلوم، يفضلون الهجرة إلى بلاد يجدون فيها شروطاً أفضل أو مستوى من المعيشة أعلى، أو فرصة أكبر للتقدم العلمي، وتحقيق الذات، ربما لا تكون متوفرة في بلادهم.

وهي مشكلة ضخمة وعويصة، وليس لها حل سهل. ومن المؤسف أنها تشكل جانباً من أكبر جوانب أزمة العالم الثالث وعقبة من عقبات تقدمه. فالخسارة هنا مادية وبشرية، لأن البلد حين يفقد واحداً من هذه النوعية من أبنائه، يخسر مرتين.

يخسر مرة بالمعنى المالي البحت، لأن البلد يكون أنفق على هذا الابن مبالغ كبيرة من المال من أجل تعليمه وتكوينه في الداخل ثم في الخارج. ويخسر مرة أخرى، بمعنى أكبر من المعنى المالي، وهو أن خيرة شبابه لا يعودون ليساعدوا في المهمة الصعبة؛ مهمة التنوير ورفع مستوى سائر الشعب، كالحديقة التي كلّما أينعت فيها زهرة جاء من يقطفها!

ومكسب البلاد الأكثر تقدماً في هذا المجال هائل. فهي تأخذ الخبراء جاهزين، بعد أن أتمّوا ثقافتهم ونضجهم وتلقيهم، وبدأوا في مرحلة العطاء. والغريب، أن كثيراً من الدول العربية لا تدرك قيمة هذا المهاجر المؤقت إذا جاز التعبير، حتى ولو كان عربياً، وحتى لو كانت في أشد الحاجة إلى خبرته.

فالخبير العربي يطلب أجراً أعلى من الخبير المحلي، ولماذا إذا كان المهندس مثلاً إيطالياً أو فرنسياً أغدقنا عليه .. وإذا كان نظيره عربياً قتّرنا عليه .. مادام الاثنان متكافئين؟

إنَّ التشريعات الحديثة وضعت لفائدة العمال الأجانب ومنحت لهم المساعدات العديدة في مجالات مثل السكن والعمل والصحة، ولكن هذه التدابير الحميدة ظلّت عاجزة عن تأمين الحياة الكريمة لكافة المغتربين

فكندا لا تفتح أبوابها، طبعاً، لكل وافد، ولكن إذا كان هذا الوافد خبيراً في مجال يهمها، فإنها تعتبره إضافة إلى رأسمالها، وإلى إنتاجيتها إزاء ضخامة مواردها واتساع رقعتها وندرة سكانها. إنّها تجري وراءه، وتقدم له الإغراءات، وتتولاه منذ وصوله بالمعونات المالية والاجتماعية حتى يستقر به المقام في عمل إنتاجي مناسب له.

ذلك أنها تعلم أنَّ هذا النوع في أي مجال يضيف إلى ثروة البلاد القومية أضعاف ما يأخذ من مرتب. وما دمنا قد تعرضنا لقضية العقول المهاجرة، فلا بد من القول إنه إذا كان اللوم أحياناً يقع على البلد الأم لسوء التصرف مع النخبة من أبنائه، فإن اللوم في أحيان أخرى يقع على عاتق المهاجر نفسه، حين يتصرف في أنانية شديدة، ودون مبرر لمجرد الهرب من مهمة صعبة تنتظره في بلاده الساعية إلى التقدم، لائذاً بالفرار إلى بلد قد تقدم فعلاً، ولم يعد عليه هناك إلا المشاركة في جني الثمرات.

وأنَّ ثورة المواصلات العالمية شحذت لدى كل إنسان حبّ السفر إلى الخارج بقصد السياحة والاطلاع على ما تيسّر من بلاد الله الشاسعة، والوقوف على أبرز ما يميّز المجتمعات المجاورة والبعيدة من تراث ثقافي ومعالم حضارية متباينة.

ولكن مهما بلغ أثر الترحال في النفوس ومهما استولى علينا سحر ما نكتشفه لدى غيرنا من كنوز طبيعية فاتنة، أو أنماط حياتية مغرية، فإن جاذبية الوطن تظلّ في النهاية أقوى من سواها، وحبّه أعمق من كل حبّ بعد حبّ الله.

فكلّما ابتعدنا عن أهلنا وديارنا عدنا بمزيد الشوق إلى هوائنا المألوف وإلى بيئتنا الأثيرة. عدنا إلى بلادنا ولساننا يردّد: بلادي وإن جارت عليَّ.. وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرام!.

هذا إن كان سفرنا لفترة محدودة بقصد السياحة أو إتمام مهمة من المهمات، فما بالك بالمهاجر الذي يشدّ رحاله قصد الاغتراب بعيداً عن أهله وبيئته الثقافية الاجتماعية، وهو يعلم أن هجرته قد تطول أعواماً وقد لا تكتب له العودة إلى أحب الناس إليه وأعزّ رقاع الأرض لديه.

إنّها المأساة الإنسانية التي يعيشها كل مضطهد حرمه التعسف من العيش مع بني جنسه فوق أرضه، وكل مثقف لم تتوافر له ظروف العمل المواتية في بلاده فانضم إلى تيار العقول والكفاءات المغتربة، وهي أيضاً مأساة عُمالنا المهاجرين إلى بلاد الغرب بحثاً عن العمل، وتوفيراً لما يَسدُّ رمق أهلهم وتوقاً إلى ما أمكن من الارتقاء الاجتماعي، والخلاص من كمّاشة الفقر المدقع والحرمان الذي يعيشونه ومنذ أمد بعيد!

هناك في أوروبا تتواجد الآن جاليات عربية تُعد بالملايين، وتعيش في عزلة ثقافية واجتماعية لا ملاذ منها إلّا الذوبان في شخصية الغير ولغته وعاداته، بل وحتى هذا الذوبان الأليم لن يُحقق لك مطلق الأمان والمساواة لأنك تظل دوماً عربياً في سُمرتك وسواد شعرك وقسمات وجهك، وهي من السمات المميزة التي تعرّض أحياناً إخواننا في أوربا إلى بعض المضايقات والممارسات العنصرية المتفاوتة في حدّتها، والمتباينة في وتيرتها من بلد لآخر وعلى نحو قد لا يدركه السائح العابر بخلاف المقيم المستقر.

وإذا كان إخواننا المغتربون في أوروبا ينتمون إلى العديد من أقطارنا العربية، فإن الجانب الأوفر منهم قادم من شمال أفريقيا، وبصورة خاصة من الجزائر والمغرب وتونس، وقد اجتهدت بعض الأوساط العنصرية الحاقدة خاصة على العنصر العربي في إذكاء مشاعر النقمة على العمال المغتربين من خلال الادعاء بأن الأجانب سبب في بطالة العمال الفرنسيين فضلاً عن أن العرب هم المتسببون، حسب دعواهم، في ركود الاقتصاد الفرنسي والغربي عموماً عن طريق ارتفاع أسعار البترول والإخلال بالنظام النقدي العالمي.

وإذا كان الادعاء الأخير مردوداً بحجة أن أسباب الأزمة الاقتصادية والنقدية العالمية تتجاوز مسألة أسعار البترول وتعود زمنياً وموضوعياً إلى تاريخ سابق لحركة أسعار البترول وإلى عيوب النظام الاقتصادي العالمي الذي صاغته الدول الغربية في ظل ظروف تجاوزتها الأحداث ولم تعد تتماشى مع الواقع الحالي وطموحات الشعوب النامية في التقدم والبناء الذاتي والإفلات من الهيمنة والاستغلال الأجنبي، فإنّ الادعاء الأول هو الآخر مرده بحجة أنّ العامل المغترب يشغل أعمالاً كثيراً ما ينفر منها ابن البلد كالتنظيف وأعمال البناء وصهر المعادن وحفر المناجم والأعمال التي تتطلب جهداً عضلياً إلى غير ذلك من أوجه النشاط التي ساهم بها العمّال المغتربون في تطوير الاقتصاد الغربي بما لا يدع مجالاً للشك أو التشكيك.

ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن في فرنسا وحدها إلى 40% في قطاع البناء، و25% في صنع السيارات.. والحال كذلك في بلدان غيرها، بيد أن هذه المساهمة الفعالة في دفع عجلة الاقتصاد الغربي طوال سنوات عديدة لم تقابلها في كل الأحوال معاملة مشرّفة، ولم توفّر لعديد العمال المغتربين ظروفاً حياتية آدمية تنعدم فيها النظرة المتعالية وتتحقق بها كرامة الإنسان في بلاد تدّعي ريادة  الإنسانية.

إنَّ التشريعات الحديثة وضعت لفائدة العمال الأجانب ومنحت لهم المساعدات العديدة في مجالات مثل السكن والعمل والصحة، ولكن هذه التدابير الحميدة ظلّت عاجزة عن تأمين الحياة الكريمة لكافة المغتربين، فضلاً عن أن هذه السياسات الرسمية لم تفلح في إزالة النظرة المتعالية والممارسات العنصرية التي كثيراً ما يتعرّض لها أخواننا على المستوى الشعبي.

أما عن الأقطار المصدرة للقوى العاملة فإنها تبذل جهوداً لا يستهان بها بقصد تخفيف وطأة الغربة مثل: تنظيم بعض الأنشطة الاجتماعية والثقافية، والسهر على دوام العلاقة بين المغترب ووطنه الذي مآله العودة إليه خاصة إن سار على درب التطور والتصنيع وأصبح في حاجة متزايدة إلى سواعد أبنائه.

فالهجرة مهما طالت، ومهما اتسع مداها هي حل مؤقت لمشكل البطالة وهو ما يعفي الوطن الأم من مسؤولية البحث عن حل دائم يحفظ للعامل حقه في الكرامة  والاستقرار والارتقاء فوق أرضه ولبلده حقه في الانتفاع مباشرة من عمل أبنائه وخبراتهم التي اكتسبوها.

وقد أثبتت الأيام صحة هذه النظرة منذ أن أصيب الاقتصاد الغربي بداء الركود واستفحال البطالة التي اتسعت رقعتها على نحو جعل مسألة مصير العمال المغتربين تحتل مكانة بارزة في صدارة الأحداث في أكثر من بلد أوروبي. ونتيجة لهذه الأزمة المستمرة برزت سياسات رسمية معاكسة تجاوزت مرحلة إيقاف تيار الهجرة الوافدة لتنشط من أجل ترحيل العمال الأجانب ودفعهم إلى العودة إلى أوطانهم بوسائل تتراوح بين الإغراء والتعسّف.

إنَّ الغالبية العظمى من إخواننا في أوروبا من العمال المنتمين إلى فئات اجتماعية متواضعة يحول مستواها الثقافي والاجتماعي المحدود دون ارتقائها السريع والظهور في شكل مقنع يشرف أصلها في كل حين، ويجلب إليها الاحترام والتكريم في مجتمع لم يتخلّص بعد من عقد التفوق الحضاري ومن رواسب العهود الاستعمارية التي خلّفت رصيداً هائلاً من الأحقاد وسوء الفهم والأفكار المسبقة.

وفي الجانب الآخر، هناك مشكلة هجرة الكفاءات والعقول العربية من أطباء وأساتذة وعلماء وخبراء في شتى الاختصاصات العلمية، وهي خسارة لأوطاننا تقدّر بعشرات الآلاف من العلماء والخبراء الذين ذهبوا هدية ولقمة سائغة لغيرنا بعد عناء تكوينهم من عرق شعوبهم.

إنّنا كمجتمعات نامية في حاجة إلى المزيد من العاملين بالساعد والفكر، فحرام أن نبدّد جزءاً من طاقتنا، في حين أننا نلجأ يومياً إلى الخبراء والعلماء الأجانب الذين نجلبهم بالأموال الطائلة، ونغدق عليهم المزايا بسخاء عربي في غير محله.

فكم  يجدر بنا أن نوظّف جزءاً من مواردنا في التعاون العربي الثنائي أو الجماعي من أجل بعث المزيد من المشاريع الموفّرة لفرص العمل والمستجيبة لطموح أجيالنا والمستفيدة من هذا الخزّان الهائل المتمثل في الخبرات والعقول والسواعد المهاجرة.

ولست أعتقد أن الحل النهائي لمشاكل عُمالنا وعلمائنا المغتربين في متناول كل قطر عربي على حدة، إذ إن هذا الحل لن يتيسّر بصورة شاملة إلّا بتكافل الجهود العربية في المشرق والمغرب وقفاً لهذا النزيف وحفظاً لكرامتنا وضماناً لحظوظ تقدمنا الجماعي المتوازن.

إنَّ مجالات التعاون العربي في هذا الشأن فسيحة جداَ.. من أمثلتها مساعدة المغتربين على العودة والاستقرار من جديد في أوطانهم، وإنشاء مشاريع جديدة توظف فيها اختصاصاتهم، وتوجيه البعض منهم إلى الأقطار العربية التي تشكو عجزاً في القوى العاملة على أن يتم ذلك في ظروف ينعدم معها الشعور بالغربة والخوف من الغد في أي قطر عربي.

ومن صور التعاون العربي الملحّة أيضاً في هذا المجال التخطيط الدراسي على المدى البعيد للملاءمة بين محتوى التعليم والتدريب المهني وبين حاجات مجتمعاتنا إلى الكوادر العلمية والتقنية التي ينبغي أن تتوافر لها شروط العمل المناسب حتى لا تضطر إلى الهجرة خارج الوطن العربي.

إنَّ فكرة الملاءَمة بين محتوى التعليم وحاجيات مجتمعنا النامي أخذت تحتل مكانتها في السياسة التعليمية للأقطار العربية إلّا أن العمل على التنسيق بين مختلف السياسات العربية من شأنه أن يُحقق المزيد من الملاءَمة على مستوى الوطن العربي عموماً بما يوسّع آفاق الاختصاص الفردي والتشغيل وفقاً لتباين الحاجيات من قطر إلى آخر.

دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.