15 نوفمبر 2024
من يُهين القضاء في مصر؟
في مشهدٍ مُهم، أظن أنه من المشاهد النادرة لفتاةٍ صلبةٍ للابنة سناء سيف، حينما يصدر عنها موقف متسق من القضاء في مصر، ليعبر عن احتجاجٍ أساسي على سيرته ومسيرته الحالية، ذلك أن القضاء ليس من المؤسسات العادية في الدولة والمجتمع، وحينما تكون عينه على الدولة، فإنه يحافظ على أمرين: الانتظام والالتزام. الانتظام بما يعني استقرار الحياة العامة والمجال العام، بما يحقق البيئة اللازمة لاستقرار منظومة الحياة واستمرارها، أما الالتزام فهو يراقب مسؤولية الأفراد والجماعات عن الامتثال للقانون، حتى يعم الانتصاف والعدل بين عموم الناس، فإذا انهارت هاتان الوظيفتان فقد القضاء قيمته، وتخلى عن مسؤوليته، وانتقص من هيبته.
وظيفة القاضي، في هذا المقام، أن يطبق القانون، وأن يتعرّف على روح القانون، وأن يحمي المواطن من سلطةٍ، تحاول التغول عليه، وهو الفرد الضعيف، فتحميه وتنظم عمل المؤسسات والتكوينات، حتى تكون ملتزمة بقواعد النظام العام. ولكن، على طريق الفاعلية والتأثير في عملها وأنشطتها، والقاضي، في هذا، حينما يمارس وظيفته، فإنه يعني حقيقتين أساسيتين: الأولى: أن تنظيم الحق ركن فيه، لا ينقضه ولا ينفيه، فلم يكن أبداً تنظيم الحق مدخلاً للانقضاض على الحق في ذاته، أو تبديده، أو محاصرته، أو التفريط فيه. الثانية: القاضي هو ميزان العدالة لرد الحقوق والانتصاف في الحياة العامة والخاصة. إذا اختل هذا الميزان لم يبق من بعده ملجأ لأي شخص، كان من الضعفاء أو من الفقراء، ويجعل من السلطة مقاماً تتلاعب فيه بالقانون والقضاء والتقاضي.
عودةً إلى المشهد الذي يتعلق بالفتاة سناء سيف، حينما اتهمت بالتحريض على التظاهر وتوزيع منشورات، وهي تعرف أن هذه التهمة الملفقة ليست إلا اكتمال دائرة التضييق والحصار على عائلة سيف الإسلام رحمة الله عليه، لأن هؤلاء إنما يمثلون حالة احتجاج ومقاومة للسلطة الطاغية المستبدة. وفي هذا المقام، وجهت حديثها إلى وكيل النيابة الذي يقوم بالتحقيق معها، فبادرته بأنها لا تثق في هذا التحقيق، في مساره أو في نتيجته، وأنه لا يستطيع أن يتخذ القرار القضائي في حقها، إلا بعد أن يعود إلى مصدرٍ ما، هو الذي يحرّك الأمور ويصدر القرارات بحسٍّ مسيس، لا بعمل القاضي النزيه. هذه كانت بداية المشهد.
ثم وجّه القاضي تهمة إلى الفتاة بأنها أهانت القضاء من جرّاء تعبيرها عن هذا الموقف المتسق ورأيها في عملية التحقيق، عملية خطيرة أثبتت رؤية الفتاة حول القضاء والتقاضي. أصدر قاضي الأمور المستعجلة حكماً بالحبس ستة أشهر، وهو أمر يعبر عن الحقيقة المرّة. في هذه المرة، أكدت الفتاة على اتساقٍ غير عادي واستثنائي في موقفها وفعلها، لتؤكد صورة القضاء والتقاضي في ذهن أي مواطنٍ عادي، من أنه في ظل هذا الجو القاتم والقاتل من الاستبداد لن يكون هناك موضع لعدل أو انتصار، بل ستكون هناك قرارات وأحكام مسيسة، وراءها السلطة والنظام، خصوصاً حينما يرتبط الأمر بمجال السياسة والاحتجاج على السلطة، وذلك من جملة تكميم الأفواه وترويع الناس ضمن منظومة الاستبداد والطغيان.
اكتمل المشهد بصورة درامية، قرّرت الفتاة أن تسلم نفسها، تنفيذاً للحكم، وخاطبت محاميها بأنها لم تعد ترغب في أن تواصل التقاضي في هذه القضية، أو في هذا الأمر إشارةً إلى عدم ثقتها في مرفق القضاء، إن تحقيقاً أو حكماً، وهي بذلك تحاول أن تعفي المحامين الذين يتطوعون للدفاع عنها، من أن يواصلوا الدفاع عنها، أو يقوموا بالاستئناف ضد الحكم الذي صدر عليها، في عبارة مفعمةٍ بالوجدان، تعبّر فيها عن شعور المواطنة تجاه مرفق القضاء، كانت كلماتها، على الرغم من عاطفيتها، كالسيف في وصف حال المؤسسة ومآلها.
تبدو لنا الحلقة المهمة في هذا المشهد المركّب، وفي هذا الموقف المتسق المسؤول، أننا أمام
خللٍ كبيرٍ في منظومة القضاء، وامتهان لاستراتيجية العدالة، سواء في العملية الأولى التي تقرّر الاتهام وتحديد الجرم، والتي تتخذ، في الغالب، مسار التلفيق، فالتلفيق صار متواتراً في الاتهام والتجريم، خصوصاً في المجال العام والمجال السياسي ومجال التعبير عن الآراء، وكذلك في مجال الاحتجاج السياسي. التلفيق مبتدأ مسيرة الظلم في ما يسمى تحريات مفبركة، ومن جهاتٍ عينها على السلطة، ولم يكن الوطن، يوماً، مجال اهتمامها أو مجال همتها. ويأتي الأمر الثاني في عملية التقاضي، وهو يتعلق بعمليات التحقيق، وهي، في حقيقة الأمر، عمليات شكلية تبرّر فحسب أن التقاضي يسير في مساراته الاعتيادية، وهو أمر يتعلق بجهاز النيابة، والذي يقوم بكل عملٍ، للأسف الشديد، يؤدي إلى إثبات التهمة، لا نفيها. على الرغم من وضوح تلفيقها، تحولت منظومة النيابة إلى إضفاء شكل قانوني على باطل واقعي، وإعطاء الشكل القانوني لعملٍ لا يحقق روح القانون أو وظيفته، ويقدم مشروعية لعمل غير شرعي، فصارت النيابة من أدوات الظلم البيًن والمشاركة في منظومة الاستبداد والطغيان.
الحلقة الأخيرة في التقاضي هي في المحاكمة وإصدار الأحكام، وهي عملية أخطر من سابقتها، لأنها تعتبر نهاية المطاف لأحكامٍ متوالية التلفيق الظاهر والتحقيق الزائف، فإن لم يكن القاضي مسؤولاً عن محتوى حكمه، متسائلاً عن الوقائع التي يحكم فيها، حتى يقوم بالتحقيق بنفسه، إن لم يطمئن لمسوغات الاتهام وعمليات التحقيق، فإذا به يكمل منظومة الظلم، ويحكم دائرتها، فلا تجري المحاكمة على الأصول والقواعد المرعية، وإنما تجري بصورةٍ شكليةٍ، وصولاً، في النهاية، إلى حكمٍ ربما لا يكون من قرار القاضي، وهو أمر شاع بين عموم المصريين أن حكم القاضي صار ليس حكماً بعد المداولة، وإنما بعد المكالمة.
هذه هي منظومة القضاء والتقاضي في مصر، صارت في صميم عملية الظلم والاستبداد، تبدو هذه المؤسسة في القول والفعل غير مستقلة، وتشير إلى تحكم السلطة في مرفق القضاء من كل طريق، فهي تارة تهدّد القاضي، وتقوم بمذابح قضاء، إذا ما عبّر القاضي عن موقفٍ أو رأيٍ، يخالف رأي السلطة، أو يتخذ موقفاً يراه عدلاً. صارت مذابح القضاء تعمل بالتجزئة، لمعاقبة قضاة شرفاء، عبروا عن موقفهم، وهم في هذا إنما يحاولون أن يجعلوا من هؤلاء عبرةً للآخرين، تحت مبدأ "اضرب المربوط يخاف السائب". أما المسلك الثاني فإنما يتعلق بالرشوة غير المباشرة للقضاء، فصارت زيادة رواتبهم وبدلاتهم من الطقوس الشهرية التي يعلن عنها، وهو أمر شديد الخطورة في عملية إغراء القاضي، إن تأمين القاضي في حكمه غير إفساده برشوته مباشرة أو بشكل غير مباشر. أما المسلك الثالث فيتعلق بحقيقة الأحكام التي تملى عليهم من سلطةٍ غير متعينة، لكنها تتدخل في أعمال القضاء. الكلمات التي استمعنا إليها في محاكمات الرئيس المنتخب المختطف، والكلمات التي قالها عصام سلطان ومحمد البلتاجي، تضعان النقاط على الحروف في مسألة تآكل الثقة في منظومة القضاء والتقاضي واستراتيجية العدالة في مصر.
هل يمكننا أن نسأل، في النهاية: من الذي يهين القضاء في مصر؟، أهذه الفتاة الصغيرة أهانت القضاء، حينما كشفت وفضحت مسار هذا المرفق الذي يلوذ به كل ضعيف خائف، أم أن من أهان القضاء من داخله ومن إملاء السلطة عليه؟ هذه هي قصة العدالة وقضية القضاء فهل نحن نعي إلى أي طريق وفي أي طريق نسير؟ لا أجد من كلمةٍ تلخص الأمر إلا ما نطق به ابن خلدون بشكل قاطع "الظلمُ مؤذنٌ بخرابِ العمران".
وظيفة القاضي، في هذا المقام، أن يطبق القانون، وأن يتعرّف على روح القانون، وأن يحمي المواطن من سلطةٍ، تحاول التغول عليه، وهو الفرد الضعيف، فتحميه وتنظم عمل المؤسسات والتكوينات، حتى تكون ملتزمة بقواعد النظام العام. ولكن، على طريق الفاعلية والتأثير في عملها وأنشطتها، والقاضي، في هذا، حينما يمارس وظيفته، فإنه يعني حقيقتين أساسيتين: الأولى: أن تنظيم الحق ركن فيه، لا ينقضه ولا ينفيه، فلم يكن أبداً تنظيم الحق مدخلاً للانقضاض على الحق في ذاته، أو تبديده، أو محاصرته، أو التفريط فيه. الثانية: القاضي هو ميزان العدالة لرد الحقوق والانتصاف في الحياة العامة والخاصة. إذا اختل هذا الميزان لم يبق من بعده ملجأ لأي شخص، كان من الضعفاء أو من الفقراء، ويجعل من السلطة مقاماً تتلاعب فيه بالقانون والقضاء والتقاضي.
عودةً إلى المشهد الذي يتعلق بالفتاة سناء سيف، حينما اتهمت بالتحريض على التظاهر وتوزيع منشورات، وهي تعرف أن هذه التهمة الملفقة ليست إلا اكتمال دائرة التضييق والحصار على عائلة سيف الإسلام رحمة الله عليه، لأن هؤلاء إنما يمثلون حالة احتجاج ومقاومة للسلطة الطاغية المستبدة. وفي هذا المقام، وجهت حديثها إلى وكيل النيابة الذي يقوم بالتحقيق معها، فبادرته بأنها لا تثق في هذا التحقيق، في مساره أو في نتيجته، وأنه لا يستطيع أن يتخذ القرار القضائي في حقها، إلا بعد أن يعود إلى مصدرٍ ما، هو الذي يحرّك الأمور ويصدر القرارات بحسٍّ مسيس، لا بعمل القاضي النزيه. هذه كانت بداية المشهد.
ثم وجّه القاضي تهمة إلى الفتاة بأنها أهانت القضاء من جرّاء تعبيرها عن هذا الموقف المتسق ورأيها في عملية التحقيق، عملية خطيرة أثبتت رؤية الفتاة حول القضاء والتقاضي. أصدر قاضي الأمور المستعجلة حكماً بالحبس ستة أشهر، وهو أمر يعبر عن الحقيقة المرّة. في هذه المرة، أكدت الفتاة على اتساقٍ غير عادي واستثنائي في موقفها وفعلها، لتؤكد صورة القضاء والتقاضي في ذهن أي مواطنٍ عادي، من أنه في ظل هذا الجو القاتم والقاتل من الاستبداد لن يكون هناك موضع لعدل أو انتصار، بل ستكون هناك قرارات وأحكام مسيسة، وراءها السلطة والنظام، خصوصاً حينما يرتبط الأمر بمجال السياسة والاحتجاج على السلطة، وذلك من جملة تكميم الأفواه وترويع الناس ضمن منظومة الاستبداد والطغيان.
اكتمل المشهد بصورة درامية، قرّرت الفتاة أن تسلم نفسها، تنفيذاً للحكم، وخاطبت محاميها بأنها لم تعد ترغب في أن تواصل التقاضي في هذه القضية، أو في هذا الأمر إشارةً إلى عدم ثقتها في مرفق القضاء، إن تحقيقاً أو حكماً، وهي بذلك تحاول أن تعفي المحامين الذين يتطوعون للدفاع عنها، من أن يواصلوا الدفاع عنها، أو يقوموا بالاستئناف ضد الحكم الذي صدر عليها، في عبارة مفعمةٍ بالوجدان، تعبّر فيها عن شعور المواطنة تجاه مرفق القضاء، كانت كلماتها، على الرغم من عاطفيتها، كالسيف في وصف حال المؤسسة ومآلها.
تبدو لنا الحلقة المهمة في هذا المشهد المركّب، وفي هذا الموقف المتسق المسؤول، أننا أمام
الحلقة الأخيرة في التقاضي هي في المحاكمة وإصدار الأحكام، وهي عملية أخطر من سابقتها، لأنها تعتبر نهاية المطاف لأحكامٍ متوالية التلفيق الظاهر والتحقيق الزائف، فإن لم يكن القاضي مسؤولاً عن محتوى حكمه، متسائلاً عن الوقائع التي يحكم فيها، حتى يقوم بالتحقيق بنفسه، إن لم يطمئن لمسوغات الاتهام وعمليات التحقيق، فإذا به يكمل منظومة الظلم، ويحكم دائرتها، فلا تجري المحاكمة على الأصول والقواعد المرعية، وإنما تجري بصورةٍ شكليةٍ، وصولاً، في النهاية، إلى حكمٍ ربما لا يكون من قرار القاضي، وهو أمر شاع بين عموم المصريين أن حكم القاضي صار ليس حكماً بعد المداولة، وإنما بعد المكالمة.
هذه هي منظومة القضاء والتقاضي في مصر، صارت في صميم عملية الظلم والاستبداد، تبدو هذه المؤسسة في القول والفعل غير مستقلة، وتشير إلى تحكم السلطة في مرفق القضاء من كل طريق، فهي تارة تهدّد القاضي، وتقوم بمذابح قضاء، إذا ما عبّر القاضي عن موقفٍ أو رأيٍ، يخالف رأي السلطة، أو يتخذ موقفاً يراه عدلاً. صارت مذابح القضاء تعمل بالتجزئة، لمعاقبة قضاة شرفاء، عبروا عن موقفهم، وهم في هذا إنما يحاولون أن يجعلوا من هؤلاء عبرةً للآخرين، تحت مبدأ "اضرب المربوط يخاف السائب". أما المسلك الثاني فإنما يتعلق بالرشوة غير المباشرة للقضاء، فصارت زيادة رواتبهم وبدلاتهم من الطقوس الشهرية التي يعلن عنها، وهو أمر شديد الخطورة في عملية إغراء القاضي، إن تأمين القاضي في حكمه غير إفساده برشوته مباشرة أو بشكل غير مباشر. أما المسلك الثالث فيتعلق بحقيقة الأحكام التي تملى عليهم من سلطةٍ غير متعينة، لكنها تتدخل في أعمال القضاء. الكلمات التي استمعنا إليها في محاكمات الرئيس المنتخب المختطف، والكلمات التي قالها عصام سلطان ومحمد البلتاجي، تضعان النقاط على الحروف في مسألة تآكل الثقة في منظومة القضاء والتقاضي واستراتيجية العدالة في مصر.
هل يمكننا أن نسأل، في النهاية: من الذي يهين القضاء في مصر؟، أهذه الفتاة الصغيرة أهانت القضاء، حينما كشفت وفضحت مسار هذا المرفق الذي يلوذ به كل ضعيف خائف، أم أن من أهان القضاء من داخله ومن إملاء السلطة عليه؟ هذه هي قصة العدالة وقضية القضاء فهل نحن نعي إلى أي طريق وفي أي طريق نسير؟ لا أجد من كلمةٍ تلخص الأمر إلا ما نطق به ابن خلدون بشكل قاطع "الظلمُ مؤذنٌ بخرابِ العمران".