كثيراً ما تجري مقارنة الروائيين الأميركيين إرنست هيمنغواي (1899-1961) وإف سكوت فيتزجيرالد (1896-1940)، على صعيد الأدب ورغم اختلاف الخيار السياسي والانتماء الأيديولوجي لكل منهما، فهما كاتبان من جيل واحد، يتنافسان ويتصادقان ويتراسلان، هناك الكثير مما يقال حول طبيعة العلاقة التي كانت بينهما، وكيف أنها تجسد روح ذلك العصر بما تحمل من تناقضات.
وفي الوقت الذي قدم فيه هيمنغواي نفسه جندياً عائداً من الحرب، صحافياً، ملاكماً، رجل تعشقه النساء، وكانت كل كتاباته عن الحرب والعزلة والمغامرة، يمكن أن نرى فيتزجيرالد النظير المقابل لهذا النموذج؛ كاتب عانى على الصعيد الاجتماعي، فخور بتعليمه الذي لم يكمله في برينستون، صاحب مظهر مهندم وشعر مصفف بطريقة أنثوية، لم يكتب عن الحروب ولا المغامرات، بل عن المجتمع ومشكلاته ومعضلاته، وكان اهتمامه الأساسي بالجانب السوسيواقتصادي للمجتمع الأميركي.
رغم ذلك فإن صداقة قوية جمعت الاثنين، وتراسلا حول عدة أمور شخصية وإبداعية، هنا رسالة كتبها هيمنغواي إلى فيتزجيرالد، موضوعها الأساسي هو كيف نحوّل الألم إلى أدب. ننشر ترجمة لها استعادة لصاحب "لمن تقرع الأجراس" الذي كانت ذكرى مولده أمس.
الرسالة مكتوبة بتاريخ 10 أيار/ مايو 1934، كان فيتزجيرالد منقطعاً عن النشر لمدة تسعة أعوام هي كما توصف "أحلك سنوات حياته"، فبعد نجاح روايته الأشهر "غاتسبي العظيم" التي صدرت في 1925، انقطع فيتزجيرالد بسبب مرض زوجته زيلدا بالفصام وانعزاله في مزرعة بعد أن وضعها في مصحة نفسية وأصبح كحولياً وخسر كل أمواله، وفي عام 1934 أصدر عمله "رقيق هو الليل" (العنوان مقتبس من قصيدة لـ كيتس)، الذي يتناول قصة محلّل نفسي زوجته هي واحدة من مريضاته، ونتيجة لعجزه عن علاجها وهي تسير من سيء إلى أسوأ يصبح المحلل النفسي مدمناً على الكحول.
كان فيتزجيرالد يريد أن يسمع رأي صديقه هيمنغواي، فكانت الرسالة تتكلّم بشكل أساسي عن الرواية، وكما يبدو من رد هيمنغواي الذي هاجم الرواية واعتبر أن صديقه كان يُقبِل ثم يُحجم عن الحكاية بصدق، من هنا كانت في رأي صاحب "وداعاً للسلاح" و"الشيخ والبحر" رواية فيها خلل كبير، لا سيما وأنها في نهاية الأمر تستند إلى معاناة فيتزجيرالد مع مرض زيلدا، كما نلاحظ أن هيمنغواي يلوم صديقه على الاكتراث لـ "الأولاد" كما يصف أي آخرين يأبه لرأيهم الكاتب من قراء وكتّاب ونقاد:
عزيزي سكوت،
أحببتها ولم أحبّها. بدأتَ بذلك الوصف المذهل لسارا وجيرالد. ثم بدأت تتلاعب بهما، تجعلهما يأتيان من أشياء لم يأتيا منها، تغيّرهم إلى أشخاص آخرين. سكوت، لا يمكنك أن تفعل ذلك. إذا أخذت أشخاصاً حقيقيين وكتبت عنهم فأنت لا تستطيع أن تعطيهم آباء آخرين (هم مصنوعون من آبائهم ومما حدث لهم)، لا يمكنك أن تجعلهم يقومون بأمور لم يكونوا ليقوموا بها.. الاختراع هو أفضل ما يمكن فعله لكن لا يمكنك اختراع أي شيء إن لم يكن قابلاً للحدوث.
هذا ما يفترض بنا أن نفعل حين نكون في أفضل حالاتنا، أن نختلق كل شيء، لكن اختلاق شيء لا بد أن يكون حقيقياً حتى أنه لاحقاً يمكن أن يحدث على هذا النحو.
اللعنة، إن أنت أخذت كامل حريتك في العمل على ماضي ومستقبل الناس، فهذا لن ينتج بشراً بل حالة مزيفة من التاريخ. أنت، من تستطيع أن تكتب أفضل من أي أحد، ومن هو فاشل جداً في التعامل مع الموهبة التي لديك، لا مبال بها. سكوت، حباً في الله، اكتب واكتب بشكل حقيقي بغض النظر عمّن تؤلم هذه الكتابة وماذا، ولكن لا تقم بهذه التسويات السخيفة. يمكنك أن تكتب كتاباً عن جيرالد وسارا مثلاً إن كنت تعرف عنهما ما يكفي، وهما لن يكون لديهما أي مشاعر، سوى القبول، إن كان الكتاب حقيقياً.
هناك أماكن رائعة ولا يمكن لأحد، ولا أحد من الأولاد كتابتها بشكل ولا حتى بنصف الجودة والجمال الذي يمكن أن تفعله أنت، لكنك، اللعنة، غششت كثيراً في هذه الرواية. ولست بحاجة لفعل ذلك... منذ مدة طويلة توقفت عن الإصغاء إلا إلى إجابات أسئلتك الخاصة. وقد وضعت أموراً جيدةً في الرواية لكنها لم تكن تحتاجها، وما يفسد الكاتب (كلنا نفسد، وهذا ليس لإهانتك شخصياً) هو ألا يصغي.. فمن هنا يأتي كل شيء، المشاهدة والإصغاء. أنت ترى بشكل كاف جداً، لكنك توقفت عن الإصغاء.
الرواية أفضل بكثير مما أقول، لكنها ليست أفضل ما يمكنك فعله.
بحق الرب اكتب ولا تهتم لما سوف يقوله الأولاد ولا إن كانت الرواية ستكون تحفة أم لا. أنا أكتب صفحة تحفة وتسعين من النفايات. أنا أحاول أن أرمي النفايات في سلتها، أنت تشعر أن عليك نشر حماقات من أجل المال ولكي تعيش ويكون بإمكانك العيش.
سكوت، الكتاب الجيّدون يعودون، دائماً. أنت الآن أفضل مرتين عن الوقت الذي كنت تظن فيه أنك مدهش. أنت تعرف أنني لم أعجب كثيراً بـ "غاتسبي" عند صدورها. تستطيع أن تكتب أفضل مرتين مما كنت تكتب سابقاً. كل ما تحتاجه هو أن تفعل ذلك بصدق وأن لا تأبه لمصير ما تكتب.
هيا أكتب.
صديقك دائماً
إرنست
* إعداد وترجمة: نوال العلي