من كاتبة شابة إلى الغيطاني

19 أكتوبر 2015
الغيطاني في القاهرة 1999 (تصوير/ رافاييل غييارد)
+ الخط -

منذ خمسة عشر عاماً أو أكثر، حين لم يكن هناك وسائل تواصل اجتماعي بعد، كان الهاتف المحمول هو أحدث ما وصل إلينا في مصر، كانت صحيفة "أخبار الأدب" تحت رئاسة تحرير جمال الغيطاني من أهم المطبوعات الأدبية آنذاك.

وكنا طلاباً نتفاخر بقراءتنا لها، ومنها نستقي أغلب معلوماتنا عن الثقافة والأدب، وكل منا يحاول أن يحملها بشكل ظاهر، ليدلل على اهتمامه بالثقافة.

في هذا الوقت كنت أنظر لاسم الغيطاني بتقدير كبير، كرئيس تحرير لمطبوعتي المفضلة. لم أكن قد قرأت له أي رواية بعد، وأنا أتجول في سور الأزبكية أبحث عن أسماء الكتب والكتّاب الذين تعرفت عليهم من خلال أخبار الأدب ودونتهم في نوتة صغيرة، عندما وجدت أمامي كتاباً صغيراً وقديماً اصفرّت أوراقه؛ "أوراق شاب عاش منذ ألف عام " كان عنوان الكتاب المذيل باسم مؤلفه "جمال الغيطاني"، تناولته وقلبت صفحاته كأنه كنز صغير. اكتشفت إهداءً في أول صفحة من الغيطاني لشخص يبدو أنه كان يتمنى أن يروق له كتابه، وما لفت نظري بشدة وقتها هو تاريخ الإهداء الذي كان عام 1970.

كل ما دار في ذهني وقتها هو كيف يتخلّى أحد عن كتاب أهداه له شخص باسمه وتوقيعه، وفكرت أنه حتى الكاتب الكبير كان صغيراً في وقت ما حتى إن أحدهم تخلّى عن كتاب عليه إهداءً له ببساطة، بينما كنت أنا أتمنى مقابلته وعرض أشعاري وقصصي البائسة عليه.

كان هناك عنوان لمراسلة الجريدة بلا شك، لكني كنت أتمنى دائماً أن أجد طريقة لمقابلة الغيطاني نفسه من دون تعقيدات المراسلات. تواصلت مع صديق أعطاني رقم الهاتف المحمول الخاص به واحتفظت به كأنه سر حربي لا يجوز التفريط فيه، وقررت أن أحادثه لأطلب منه موعداً متوقعة بالطبع أن يرفض مقابلتي؛ هو لا يعرفني من قبل ولا سبب لموافقته.

الأمور جاءت على عكس ما توقعت، كان ودوداً جداً في المكالمة الهاتفية عندما أخبرته أني طالبة في كلية "الفنون الجميلة" وأرغب في عرض كتاباتي عليه. كنت أتحدث إليه وأنا أحمل كتابه وكأني أقول له "معي كتاب لك عليه توقيعك منذ سنوات طويلة، كتابك الذي تخلى عنه من أُهدي إليه" .

في مكتبه في "أخبار الأدب" وجدته أمامي مبتسماً في انتظار تلك الطالبة التي لا يعرفها، تصفح ما كنت أحمله من أوراق ونوتات وطلب أن أتركها ليقرأها على مهل مع وعد بلقاء جديد ليتناقش معي في ما قرأ.

طلبت منه في النهاية أن يكتب لي إهداءً على كتابه المهدى لشخص ما من قبل، ابتسم وقال لي "بتحصل مفيهاش حاجة" وكان يقصد أن يقول لي إنه في أوقات كثيرة يحدث أن يتخلى الناس عن كتب مهداة لهم. ابتسمت أيضاً وقلت له "مش هتحصل مع الكتاب ده تاني". وكتب إهداء شخصياً على الكتاب ووصفني بالزميلة، كم كان هذا لطفاً بالغاً منه.

بعد أيام اتصلت به لأسأله عن رأيه في ما قرأ من كتابتي وطلب مني أن أحضر من جديد، كان أكثر جدية هذه المرة وكأنها بالفعل مقابلة عمل. أخبرني أنني أكتب بكثافة وأن هناك بعض السطور المتفردة التي قرأها لي، لكنه يتمنى أن أقرأ بإصغاء أكثر وعقل أكثر تفتحاً، وأن أختار ما أقرأ بعناية.

وقال لي من يرغب في كتابة الشعر عليه أن يقرأ لشعراء بحق "ابحثي في المكان الذي وجدتِ فيه كتابي عن أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وكفافيس ولوركا وبورخيس، وهناك ستجدين الشعر الحقيقي".

ما زال صوته الهادئ وهو ينطق تلك الأسماء التي كانت تشبه الطلاسم بالنسبة لي يرن في أذني كلما ذهبت لسور الأزبكية لأبحث عن كتب جديدة. في الحقيقة لم أشعر أني سأفتقد وجوده مطلقاً معي كتبه، وإهداء بخط يده وصوته الملتصق بذاكرتي.

اقرأ أيضاً: أوارق شاب عاش سبعين عاماً

المساهمون