في ضوء مقالٍ علميٍّ نُشِر في 19 حزيران/ يونيو 2015، في مجلة "Science Advances"، لباحثِين أميركيين من جامعات ستانفورد وبركلي وبرينستون: دخلت البشرية عصر "الانطفاء السادس".
لنتذَكَّرْ: عرف كوكبنا، منذ نشوئه قبل حوالى 4.5 مليارات عام، خمسة انطفاءاتٍ طاماتٍ كبرى، كان آخرها الانطفاء الشهير الذي حصل قبل 65 مليون عام، جرّاء سقوط كويكب هائل في خليج المكسيك، ارتفعت بعده حرارة الأرض، مما أدّى إلى انقراض 75٪ من الكائنات الحيّة، أشهرها الديناصورات.
من المعروف مثلاً، أن صيّاد اليوم، بكلِّ أدوات صيده البحريّة الحديثة، يعود من البحر بـ 6٪ مما كان يعود به أسلافه قبل عقود فقط، بسفنهم الشراعية وشبكاتهم البدائية. والسبب، أن بحارنا ومحيطاتنا تخلو رويداً رويداً من السمك والكائنات الحيّة. وقريباً سنتركُ لأحفادِنا، في منتصف هذا القرن ربما، بحاراً بلا أسماك، ومسابقةً تلفزيونية دوليّة لاختيار من سيصطاد السمكة الأخيرة في كوكب الأرض.
لم يعد هناك من يشكّ اليوم بأن 90٪ من الأسماك الكبرى قد انقرضت مؤخرّاً، ونصف الحيوانات الضارية اختفت من الأرض في الأربعة عقود الأخيرة، ونصف مليار عصفورٍ أوروبيٍّ أيضاً في الثلاثة عقود الأخيرة.
ينطلق مقال الباحثيْن من دراسةٍ مفصّلة لانقراض الفقريات (كالضفادع والزواحف والنمور) قبل بدء النشاط الصناعي للإنسان الحديث وبعده، في ضوء حفريات كثيرة ومجموع قواعد بيانات كافية.
إذا كان انقراض بعض الأنواع البيولوجية وولادة أخرى ظاهرةً أزليّة، شرح داروين، مؤسسُ البيولوجيا الحديثة، قوانين آليتها في كتابه الشهير "أصل الأنواع"، فإن نسبة الانقراض ارتفعت اليوم بشكلٍ كارثي: زادت في الأنواع البيولوجية، التي درسها المقال، 114 مرّة خلال القرن الماضي، مقارنة بقرون ما قبل الصناعة الحديثة!
التنوّعُ البيولوجي لِكوكبنا يتقلَّص هكذا وينحسرُ رويداً رويداً أمام أعيننا. ما يزيد الطين بلّة، أن النوع البيولوجي لا ينقرض وحيداً، بل تغادر وإيّاهُ جوقةٌ من الأنواع البيولوجية التي تتفاعل معه وتحيا بقربه. إذ تنقرض الأنواع المفترسة بانقراض فرائسها، والفرائس بانقراض نباتاتها وأغذيتها. يؤدّي ذلك إلى كوارث تطمّ الأرض والمناخ والرطوبة والمنظومة البيولوجية برمّتها.
لِتضاؤلِ منسوب الثراء البيولوجي أسباب كثيرة، أهمّها: تعاظم النشاطات الإنسانية (صناعة، مواصلات...) التي تستخدم الطاقة الأحفورية (بترول، غاز...) من دون احترام إيقاع البيئة، متجاوزةً حدود استخدام الموارد البيولوجية. تهجم هكذا على الموارد بلا رادع، تستثمرها وتستغلّها وتنهبها بأنانيةٍ فاحشة، أو تعتدي عليها بجنون: ملايينُ الهكتارات من الغابات يتمّ اقتلاعها سنويّاً، بقاعٌ لا متناهية تفقدُ هويّتها البيولوجية الأصليّة وتتحوّل إلى أراضٍ زراعية تلبّي حاجات النمو السكاني الأسّي للجنس البشري في هذا الزمن الصناعي المجنون.
اقرأ أيضاً: من كتب غلب، ومن رقمن هيمن
تتفاقم الكارثةُ أيضاً بسبب التلوّث الناجم عن النشاطات الإنسانية المختلفة: تعود إلى الذاكرة سريعاً، كمثل، سلسلةٌ مما يُسمّى بـ "المدّ الأسود"، خلال العقود الأخيرة: غرق حاملات البترول العملاقة في البحار. آخرها في إبريل/ نيسان الماضي في خليج المكسيك. (تطالب أميركا بعدّة مليارات دولار، من شركة B.P، تعويضاً لخسائرها الطبيعية الفادحة).
المبيدات الكيماوية والأنواع البيولوجية الغازِيَة التي تصل إلى البيئات من خارجها وتطيح بها، سببٌ مهم أيضاً لانحسار التنوّع البيولوجي، ساعد على مضاعفة فتكهِ اتّساعُ التجارة الدولية وتطوّر المواصلات الحديثة.
غير أن السبب الجذري لتقلّص التنوّع البيولوجي اليوم هو التغيّر المناخي الذي تعرفه الأرض بسببِ تغلُّفِها بغازات الاحتباس الحراري، كثاني أكسيد الكربون، الناجمة عن مخلّفات الطاقة الأحفورية. يُمثِّلُ هذا السبب بحدِّ ذاته كارثةً (بل أمّ الكوارث) ستؤدي بمفردها من دون شك إلى انهيار الحضارة الإنسانية.
التقرير الخامس لـ GIEC (مجموعة الخبراء الدوليين المختصّين بتطوّر المناخ، التابعة للأمم المتحدّة) لم يترك مجالاً للجدل: سببُ ارتفاع درجة حرارة الأرض خلال القرن الماضي بنسبة 0.85 C° (ستصل إلى 2 C° في 2050): غازاتُ الاحتباس الحراري.
نتائج ذلك من الآن انهياريةٌ مروّعة: انقراض أنواعٍ بيولوجية، موجات سخونة تطيح بعشرات الآلاف من البشر سنويّاً في هذا البلد أو ذاك وتسبّب خسارات زراعية هائلة، جفاف وانعدام مياه الشرب، انتشار الأمراض المُعْدية، ذوبان الجليد القطبي، سلسلات فيضانات وتسونامي ستمحي جزراً وأراضٍ من سطح المعمورة.
مجاعاتٌ وهجراتٌ وحروبٌ ستنجم عن ذلك بالضرورة: بدأت الهند مثلاً ببناء جدارٍ حاجز طوله بضعة آلاف كيلومترات، يفصلها عن بنغلادش، بسبب توقّعها هجرة 60 مليوناً من سكّان بنغلادش إليها، بعد اختفاء أراضيهم بسبب النتائج المستقبلية للتغيّر الحراري.
أما على المدى البعيد، فالفناء القادم لا يبقي ولا يذر: إذا ما وصلت نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو إلى 500 جزء من المليون (هي حالياً 400)، فسيتحوّل سطح البسيطة إلى صحراء وأدغال، ولن يعيش عليها إلا بضعة ملايين من البشر فقط، في بعض مناطق القطب الشمالي!
ما أحوج حضارتنا الإنسانية اليوم إلى سفينة نوحٍ جديدة، لا تنقل زوجاً من كل نوعٍ بيولوجي مثل سفينة الأسطورة التوراتية (ثمّة عشرات ملايين الأنواع البيولوجية على الأرض)، بل تحمي ما يمكن حمايته من عواقب الانهيار البيئي الذي تأخّر الإنسان كثيراً عن عملِ ما يلزم لتلافيه، رغم إدراك العلم لذلك في السبعينات من القرن الماضي، ورغم أخذ المخاطر منذ التسعينات مناحي جارفة لم يعد بالإمكان مقاومتها.
سفينة نوح الجديدة: استبدال الطاقة الأحفورية بالطاقات المتجددة، التقشف المخطّط له في استخدام الموارد الطبيعية، تحديد النسل البشري، إعادة تدوير المخلفات الصناعية، الالتزام بتعليمات التكيّف مع تدهور البيئة بمسؤوليةٍ مجتمعيّةٍ ودولية.
ما أعجل الحاجة لها، لأن كوكبنا مريضٌ بداءٍ لا شفاء منه. أتذكّر صباح يومِ أحدٍ، قبل 3 عقود، ذهبت فيه مشياً في طريق قروي فرنسي طويل للبحث عن خبز القرية. كانت تغطيني، كنبي أسطوري، مظلّة من الفراشات، تعلوها سحب من العصافير المتنوعة.
عدت بعد سنين مراراً للقرية نفسها، ليتكرّر ذلك المشهد السوريالي الساحر. عبثاً. لم تعلُني آخر مرة غير طائرة بلا طيّار ترفع خرقة دعائية لمشروب "ريكار"!
لنتذَكَّرْ: عرف كوكبنا، منذ نشوئه قبل حوالى 4.5 مليارات عام، خمسة انطفاءاتٍ طاماتٍ كبرى، كان آخرها الانطفاء الشهير الذي حصل قبل 65 مليون عام، جرّاء سقوط كويكب هائل في خليج المكسيك، ارتفعت بعده حرارة الأرض، مما أدّى إلى انقراض 75٪ من الكائنات الحيّة، أشهرها الديناصورات.
من المعروف مثلاً، أن صيّاد اليوم، بكلِّ أدوات صيده البحريّة الحديثة، يعود من البحر بـ 6٪ مما كان يعود به أسلافه قبل عقود فقط، بسفنهم الشراعية وشبكاتهم البدائية. والسبب، أن بحارنا ومحيطاتنا تخلو رويداً رويداً من السمك والكائنات الحيّة. وقريباً سنتركُ لأحفادِنا، في منتصف هذا القرن ربما، بحاراً بلا أسماك، ومسابقةً تلفزيونية دوليّة لاختيار من سيصطاد السمكة الأخيرة في كوكب الأرض.
لم يعد هناك من يشكّ اليوم بأن 90٪ من الأسماك الكبرى قد انقرضت مؤخرّاً، ونصف الحيوانات الضارية اختفت من الأرض في الأربعة عقود الأخيرة، ونصف مليار عصفورٍ أوروبيٍّ أيضاً في الثلاثة عقود الأخيرة.
ينطلق مقال الباحثيْن من دراسةٍ مفصّلة لانقراض الفقريات (كالضفادع والزواحف والنمور) قبل بدء النشاط الصناعي للإنسان الحديث وبعده، في ضوء حفريات كثيرة ومجموع قواعد بيانات كافية.
إذا كان انقراض بعض الأنواع البيولوجية وولادة أخرى ظاهرةً أزليّة، شرح داروين، مؤسسُ البيولوجيا الحديثة، قوانين آليتها في كتابه الشهير "أصل الأنواع"، فإن نسبة الانقراض ارتفعت اليوم بشكلٍ كارثي: زادت في الأنواع البيولوجية، التي درسها المقال، 114 مرّة خلال القرن الماضي، مقارنة بقرون ما قبل الصناعة الحديثة!
التنوّعُ البيولوجي لِكوكبنا يتقلَّص هكذا وينحسرُ رويداً رويداً أمام أعيننا. ما يزيد الطين بلّة، أن النوع البيولوجي لا ينقرض وحيداً، بل تغادر وإيّاهُ جوقةٌ من الأنواع البيولوجية التي تتفاعل معه وتحيا بقربه. إذ تنقرض الأنواع المفترسة بانقراض فرائسها، والفرائس بانقراض نباتاتها وأغذيتها. يؤدّي ذلك إلى كوارث تطمّ الأرض والمناخ والرطوبة والمنظومة البيولوجية برمّتها.
لِتضاؤلِ منسوب الثراء البيولوجي أسباب كثيرة، أهمّها: تعاظم النشاطات الإنسانية (صناعة، مواصلات...) التي تستخدم الطاقة الأحفورية (بترول، غاز...) من دون احترام إيقاع البيئة، متجاوزةً حدود استخدام الموارد البيولوجية. تهجم هكذا على الموارد بلا رادع، تستثمرها وتستغلّها وتنهبها بأنانيةٍ فاحشة، أو تعتدي عليها بجنون: ملايينُ الهكتارات من الغابات يتمّ اقتلاعها سنويّاً، بقاعٌ لا متناهية تفقدُ هويّتها البيولوجية الأصليّة وتتحوّل إلى أراضٍ زراعية تلبّي حاجات النمو السكاني الأسّي للجنس البشري في هذا الزمن الصناعي المجنون.
اقرأ أيضاً: من كتب غلب، ومن رقمن هيمن
تتفاقم الكارثةُ أيضاً بسبب التلوّث الناجم عن النشاطات الإنسانية المختلفة: تعود إلى الذاكرة سريعاً، كمثل، سلسلةٌ مما يُسمّى بـ "المدّ الأسود"، خلال العقود الأخيرة: غرق حاملات البترول العملاقة في البحار. آخرها في إبريل/ نيسان الماضي في خليج المكسيك. (تطالب أميركا بعدّة مليارات دولار، من شركة B.P، تعويضاً لخسائرها الطبيعية الفادحة).
المبيدات الكيماوية والأنواع البيولوجية الغازِيَة التي تصل إلى البيئات من خارجها وتطيح بها، سببٌ مهم أيضاً لانحسار التنوّع البيولوجي، ساعد على مضاعفة فتكهِ اتّساعُ التجارة الدولية وتطوّر المواصلات الحديثة.
غير أن السبب الجذري لتقلّص التنوّع البيولوجي اليوم هو التغيّر المناخي الذي تعرفه الأرض بسببِ تغلُّفِها بغازات الاحتباس الحراري، كثاني أكسيد الكربون، الناجمة عن مخلّفات الطاقة الأحفورية. يُمثِّلُ هذا السبب بحدِّ ذاته كارثةً (بل أمّ الكوارث) ستؤدي بمفردها من دون شك إلى انهيار الحضارة الإنسانية.
التقرير الخامس لـ GIEC (مجموعة الخبراء الدوليين المختصّين بتطوّر المناخ، التابعة للأمم المتحدّة) لم يترك مجالاً للجدل: سببُ ارتفاع درجة حرارة الأرض خلال القرن الماضي بنسبة 0.85 C° (ستصل إلى 2 C° في 2050): غازاتُ الاحتباس الحراري.
نتائج ذلك من الآن انهياريةٌ مروّعة: انقراض أنواعٍ بيولوجية، موجات سخونة تطيح بعشرات الآلاف من البشر سنويّاً في هذا البلد أو ذاك وتسبّب خسارات زراعية هائلة، جفاف وانعدام مياه الشرب، انتشار الأمراض المُعْدية، ذوبان الجليد القطبي، سلسلات فيضانات وتسونامي ستمحي جزراً وأراضٍ من سطح المعمورة.
مجاعاتٌ وهجراتٌ وحروبٌ ستنجم عن ذلك بالضرورة: بدأت الهند مثلاً ببناء جدارٍ حاجز طوله بضعة آلاف كيلومترات، يفصلها عن بنغلادش، بسبب توقّعها هجرة 60 مليوناً من سكّان بنغلادش إليها، بعد اختفاء أراضيهم بسبب النتائج المستقبلية للتغيّر الحراري.
أما على المدى البعيد، فالفناء القادم لا يبقي ولا يذر: إذا ما وصلت نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو إلى 500 جزء من المليون (هي حالياً 400)، فسيتحوّل سطح البسيطة إلى صحراء وأدغال، ولن يعيش عليها إلا بضعة ملايين من البشر فقط، في بعض مناطق القطب الشمالي!
ما أحوج حضارتنا الإنسانية اليوم إلى سفينة نوحٍ جديدة، لا تنقل زوجاً من كل نوعٍ بيولوجي مثل سفينة الأسطورة التوراتية (ثمّة عشرات ملايين الأنواع البيولوجية على الأرض)، بل تحمي ما يمكن حمايته من عواقب الانهيار البيئي الذي تأخّر الإنسان كثيراً عن عملِ ما يلزم لتلافيه، رغم إدراك العلم لذلك في السبعينات من القرن الماضي، ورغم أخذ المخاطر منذ التسعينات مناحي جارفة لم يعد بالإمكان مقاومتها.
سفينة نوح الجديدة: استبدال الطاقة الأحفورية بالطاقات المتجددة، التقشف المخطّط له في استخدام الموارد الطبيعية، تحديد النسل البشري، إعادة تدوير المخلفات الصناعية، الالتزام بتعليمات التكيّف مع تدهور البيئة بمسؤوليةٍ مجتمعيّةٍ ودولية.
ما أعجل الحاجة لها، لأن كوكبنا مريضٌ بداءٍ لا شفاء منه. أتذكّر صباح يومِ أحدٍ، قبل 3 عقود، ذهبت فيه مشياً في طريق قروي فرنسي طويل للبحث عن خبز القرية. كانت تغطيني، كنبي أسطوري، مظلّة من الفراشات، تعلوها سحب من العصافير المتنوعة.
عدت بعد سنين مراراً للقرية نفسها، ليتكرّر ذلك المشهد السوريالي الساحر. عبثاً. لم تعلُني آخر مرة غير طائرة بلا طيّار ترفع خرقة دعائية لمشروب "ريكار"!