من سيرة الخليفة البغدادي

26 يونيو 2015

أبو بكر البغدادي في الموصل (5 يوليو/ 2015/ الأناضول)

+ الخط -
في روايةٍ لواحدة من كتّاب سيرة الخليفة أبي بكر البغدادي أنه في واحد من أحلام يقظته النادرة، رأى القطعة النقدية التي سُكّتْ في أثناء خلافة الفاروق، ونُقش عليها (خليفة الله) قد طارت من مكمنها في المتحف الوطني في دمشق - بعبارة أدق: تم تهريبها والاتجار بها كأية قطعة من الآثار الموصلية أو التدمرية في العهد الخلافي الجديد - لتحط في حضن الخليفة البغدادي، في مصيف الخليفة هارون الرشيد، أي في الرقة. عندئذٍ، تنفّس البغدادي الصعداء، وهدرت أنفاسه: هذا هو لقبي. ولأن شكاً تلامع في عيني مجاهدة قطعت الفيافي والبحار حتى بلغت دار الخلافة العطراء، فقد تنمّر أبو بكر البغدادي، فارتجّت دار الخلافة بمعجزة فمعجزة فمعجزة. وهكذا، أغرق المطر سد نهر الفرات في مدينة الطبقة، وامتدت ذراع الخليفة اليسرى، واحتقن منها وريدان، وتسابق كبار الأطباء وكبريات الطبيبات - وليس الممرضون ولا الممرضات - على سحب عشر قطرات من الدم الخليفي المقدس التي تشفي من الجنون، ومن داء الكلب، تماماً كما روى الجاحظ عن المعجزات الخليفية، طيّب الله ثراه.
بتحليل القطرات العشر، على يد منجّم من تلامذة فيلسوفنا الكندي الذي اشتهر تنجيمه حتى في الهند، تبيّن أن لصاحب القطرات سيادة حتى على القدر، تماماً كما وصف سبط بن التعاويذي الخليفة المستضيء. ولكن، تبيّن أيضاً أن جلوس البغدادي على العرش الخليفي سيظل مقلقزاً إلى أن يهوي عنه، لأن الجلوس لم يوافق قران المشتري وزحل، فهذا الموعد وحده موعد أيّ خليفة مع الأمان.

بالطبع: كذب المنجمون حتى إن صدقوا: ردد مراراً المذيع الفضائي، وهو يرمق الخليفة مسحوراً طوال اللقاء التلفزيوني الوحيد. ولذلك، تجاوز روائي كلاسيكي وآخر حداثي وثالثة ما بعد حداثية، تحليل الدم المقدس، ومضوا يكتبون السيرة الاستثنائية، فحذر أحدهم من أن يلقى الخليفة البغدادي مصير من خُلع من الخلفاء، وفُقئت عيناه. وقرنت إحداهن بين البغدادي وخامنئي، أسوة بمن قرنوا، في سالف العصر والأوان، بين الخليفة السني والإمام الشيعي، ماداما معصومين. وانشغل عدد من كتاب سيرة البغدادي، ممن كانوا علمانيين أو ماركسيين أو قوميين فتابوا، وراحوا يتسابقون إلى بلاط خليفة آخر الزمان، مرة عبر الفضائيات، وأخرى عبر المؤتمرات، وثالثة عبر المقالات، ورابعة عبر المناصب الزلقة في الحكومات الزلقة في المنافي الزلقة أو في الأوطان الزلقة.. أقول مِن كتّاب السيرة مَن انشغل بجري الخليفة البغدادي على سنن من لم يظهر من الخلفاء العباسيين علناً، منذ عهد سامراء حتى عهد الخليفة المقتدر، إلا حين تطغى الشائعات بموت الخليفة، أو استفحال مرضه، أو خلعه، فترتفع الأسعار، وتندر البضاعة، بل وتبدأ الاضطرابات، تماماً كما في البلدان التي لم تضمّها خلافة البغدادي بعد إلى الثلاثماية ألف كيلو متر ربع التي استولت عليها من سورية العراق، حتى تاريخ كتابة هذه السطور.
ومن الكتّاب من سوّد صفحات في وصفاء الخليفة الذين يحملون كشّاشات الذباب، على الرغم من وجود أحدث آلات التكييف، أو الذين يحملون النقافات، ويقذفون بها من على شرفات دار الخلافة الغربانَ والطيور كيلا تنعق ولا تسقسق.
أما الشاغل الأكبر لرهط من كتاب السيرة المعمرين فقد كان اللون الأسود، الذي كان لون الخلفاء العباسيين (باستثناء المأمون) مثلما كان الأبيض لون الخلفاء الفاطميين. وذكّر كاتب بأن الرايات السود قد رفعت في سورية، عندما نشبت فيها الحرب ضد الفاطميين. كما ذكّرت كاتبة بأن الشاعر الشريف الرضي كان أول طالبيّ يلبس الأسود كنقيب للطالبييّن. وتساءلت الكاتبة عما بين الأسود الشيعي والأسود السني الآن، وهنا. ومضت تلك الكاتبة بمكر إلى ما ادعت أنه فيديو قديم بالأبيض والأسود، ظهر فيه حسن نصر الله في شبابه داعياً إلى الدولة الإسلامية، في مستقبل بعيد. وبسؤال أكبر مكراً، قرنت الكاتبة بين هذه الدعوة ودعوة البغدادي أيضاً أو أولاً، إلى الدولة الإسلامية. وقد أُفْرِدَ للرعب أكثر من فصل في سيرة الخليفة البغدادي، واحد منها تحدّث عن خزانة الرؤوس المقطوعة في دار الخلافة، أسوة بالخليفة المعتضد، ومن ذلك أن خليفة آخر الزمان يؤثر لعبة الطبطاب (كرة المضرب) إذا ما كانت الطابة رأساً مقطوعاً طازجاً.
أخيراً، أُسرّ إليكم بما أسرّت به إليّ سبية إيزيدية، أنعم الله عليها بالفرار من دار الخلافة. والسرّ أن الخليفة أمر بإتلاف ما كُتب من سيرته، وكتابة سواها في السنة الثانية من عمر خلافته المديد، والله أعلم.

avata
avata
نبيل سليمان
نبيل سليمان