وتروي مصادر تربطها علاقة شراكة بالجيش المصري في مشروعات العاصمة الإدارية الجديدة والعلمين الجديدة، لـ"العربي الجديد"، أن الهيئة الهندسية طلبت منذ أيام من جميع أصحاب الشركات المتعاملة معها، ضرورة عدم مغادرة البلاد إلا بإذنٍ خاص من رئيس الهيئة إيهاب الفار، والإسراع في تسليم جميع المشروعات التي كان من المقرر الانتهاء منها في النصف الثاني من العام الحالي، والتنبيه بأن لجاناً من الكلية الفنية العسكرية والاستخبارات الحربية ستزور جميع المشروعات محل التنفيذ حالياً للوقوف على نسبة الإنجاز ومدى مطابقة المنفذ للمواصفات المتفق عليها، وذلك خلال شهر سبتمبر/ أيلول الحالي.
وتوضح المصادر أن شهادة محمد علي أحدثت ارتباكاً كبيراً، ليس فقط في الدائرة السياسية والاستخبارية الخاصة بالسيسي، لكن أيضاً داخل مؤسسة الجيش، نظراً لضخامة المبالغ التي لا يعرف عنها شيئاً معظم ضباط المؤسسة، وحتى معظم العاملين الصغار في الهيئة الهندسية، لأن التعامل مع الشركات في تلك المشروعات الكبرى التي يبدأ العمل بها بأمر السيسي شخصياً أو وزير الدفاع أو قادة الأفرع، يكون من اختصاص عدد محدود للغاية من الضباط الذين يتولون الإشراف والمراقبة ومنح التراخيص والتصاريح، وهؤلاء يكونون في الغالب من المحيطين اللصيقين برئيس الهيئة الهندسية، وذلك منذ عهد رئيسها السابق، وزير النقل الحالي، كامل الوزير، واستمر الأمر كذلك في عهد رئيسها الحالي إيهاب الفار.
وتؤكد المصادر أن "هناك حالة من الغضب ليس فقط من مقاطع الفيديو الخاصة بمحمد علي، بل أيضاً بسبب المعلومات الأوسع التي ذكرها والده علي عبد الخالق في حواره مع الإعلامي أحمد موسى على قناة صدى البلد الموالية للسلطة مساء الأربعاء الماضي". ولفتت إلى أن "حجم التعاملات المالية والمكاسب التي تتحقق لكبار المقاولين، الذين يشغلون من الباطن مقاولين آخرين أصغر من حيث حجم الاستثمارات والعمالة، لا تقل بأي حال عن 45 في المائة من إجمالي حجم الأعمال قياساً بالأرقام التي كشفت أخيراً والأرقام التي يرددها قادة الهيئة الهندسية عن إجمالي الإنفاق على المشروعات خلال أحاديثهم الدورية مع المقاولين".
لكن شهادة محمد علي لم توضح تفاصيل دقيقة عن كيفية اختيار شركات المقاولات التي تعمل مع الجيش، سواء أكانت ظاهرة أو من الباطن. من جهتها، تكشف المصادر أن هناك ثلاثة تصنيفات للشركات المتعاونة، أولها الشركات الكبرى مثل "أوراسكوم" و"حسن علام" و"أملاك" الخاصة بمحمد علي وأسرته رغم أنها الشركة الأصغر في هذه الفئة من الشركات الكبرى، وثانيها الشركات المتوسطة التي تتسلم ظاهرياً مشروعات محدودة وصغيرة خاصة في الأقاليم أو تتولى عمليات تشطيب وتحسين وتغيير بعض أعمال الشركات الكبرى، أما الفئة الثالثة فهي الشركات الصغيرة التي تتعامل من الباطن مع الفئتين الأعلى، والتي يتوجب عليها أيضاً استيفاء بعض الاشتراطات قبل الانخراط في الأعمال الموكلة إليها.
بحسب المصادر، فإن جميع الشركات من الفئتين الأولى والثانية يتم الاستعلام الأمني والاستخباري والرقابي عن مديريها التنفيذيين، وكذلك المصممين ومديري المشروعات ومتابعي مواقع العمل، ويتم إرسال النتائج إلى الشركات قبل الدخول في المشروعات الجديدة لاستبعاد من يثبت انتماؤه أو انتماء أي أقارب حتى الدرجة الثالثة له إلى جماعة "الإخوان". ولذلك فإن معظم الشركات تخطر مديريها المميزين الذين يجب أن يكونوا في موقع العمل أو ستجرى عليهم التحريات لأي سبب، بضرورة غلق صفحاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي أو الانصراف نهائياً عن الحديث في السياسة والاقتصاد والشأن العام.
أما شركات الفئة الثالثة، فمعظمها حالياً مملوك لرجال أعمال صغار ويديرها ضباط جيش واستخبارات سابقون، وذلك لضمان الحصول على التصاريح الأمنية وتراخيص إدخال المؤن والخامات والعمال بسهولة. وتقول المصادر إن ضباط الهيئة الهندسية في كثير من الحالات هم من يبادرون بترشيح بعض الضباط السابقين المحالين للتقاعد للعمل بهذه الوظائف، وكذلك في وظائف أقل أهمية في شركات الفئتين الأولى والثانية، للحفاظ على قناة للتواصل والمراقبة والإبلاغ بأي معلومات مرغوبة بسرعة بواسطة هؤلاء الضباط السابقين.
وسياسة تشغيل الضباط السابقين كعنصر أمان للمستثمرين الصغار وقنوات تواصل مع الجيش ليست حكراً على شركات المقاولات والتوريدات العمومية العاملة في مشروعات الجيش والرئاسة، بل أيضاً باتت شائعة في القطاعات الأخرى، كمحاولة لمجاراة اقتحام الجيش مختلف أنشطة الاستثمار، ولإيمان المستثمرين بأن الاستعانة بأشخاص مجازين أمنياً، ولهم علاقات طيبة بأجهزة الدولة ستضمن لهم استمرارية وتنافسية، بما في ذلك المستثمرون الأجانب الصغار، كما توضح المصادر نفسها.
لكن وجود الضباط السابقين على رأس تلك الشركات كمديرين تنفيذيين، وأحياناً كمساهمين في رأس المال، لا يمنع وقوع تهديدات من الهيئة الهندسية وممارستها ضغوطاً عدة عليهم حال تناقض مصالحها مع أهداف المستثمرين. وفي هذا الصدد، تروي المصادر أنه عقب تعويم الجنيه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، تعطل العمل في بعض المشروعات لأيام عدة، إذ رفض مقاولو الباطن مباشرة العمل بدون الحصول على تطمينات واضحة بشأن تعويضات زيادة أسعار الطاقة، وهو الأمر الذي سار عليه أيضاً معظم الموردين. عندئذٍ، لجأت شركات المقاولات الكبرى التي تحصل على النسبة الكبرى من الربح إلى الهيئة الهندسية لتشكو لها هذا التوقف، فأمر كامل الوزير – الذي لم يكن أكمل عامه الأول رئيساً للهيئة - بترتيب اجتماعات له مع مقاولي الباطن في بعض المناطق، وخلالها ظهر الوزير بصورة مختلفة تماماً عن الهدوء والوداعة اللذين يميزانه في الاحتفاليات العامة، إذ هدد المقاولين بالقبض عليهم وإحالتهم للقضاء العسكري فوراً إذا لم يستأنفوا العمل، بما في ذلك الشركات التي يديرها الضباط السابقون، كما أمر باستبعاد نحو 30 مقاولاً بلغته معلومات بأنهم حاولوا حشد زملائهم لاتخاذ موقف موحد بوقف العمل.
وذكرت المصادر أن المقاولين عملوا مرغمين، ولكن بعمالة أقل وبخامات أقل جودة، وتم تقليص عدد ساعات العمل لتوفير الطاقة، حتى حصل أصحاب الشركات الكبرى على وعد بتسوية الخسائر المالية بعد ضغوط كبيرة مارسها رجال الأعمال وأعضاء الغرف التجارية، تكللت بصدور القانون 84 لسنة 2017 بإنشاء لجنة عليا للتعويضات تختص بتحديد أسس وضوابط ونسب التعويضات عن قرارات التعويم وزيادة أسعار الطاقة والتي ترتب عليها الإخلال بالتوازن المالي لعقود المقاولات والتوريدات والخدمات العامة السارية في الفترة من مارس/ آذار إلى ديسمبر/ كانون الأول 2016 والتي تكون الدولة أو أي من شركاتها أو الأشخاص الاعتبارية العامة طرفاً فيها. وبناء على ذلك، صدرت قرارات متتابعة من مجلس الوزراء بصرف التعويضات لجميع أنواع الأعمال بنسب متفاوتة حسب نسبة تغير أسعار الواردات والصادرات، لكن تلك التسوية لم تكن مرضية للجميع، خاصة موردي السلع المستوردة نظراً لعدم مراعاتها التوازن المالي في العقود السابق توقيعها، ما أدى إلى عجز الموردين عن توفير السلع الجديدة سريعاً.
كما أن قصة تهديد محمد علي بالإحالة إلى النيابة العسكرية نتيجة شكواه من عدم رد أمواله إليه، تبدو متكررة ومتواترة. وفي هذا الصدد، تروي المصادر أن هناك العديد من الحالات التي أحالتها الهيئة الهندسية بالفعل للنيابة العسكرية، كالتلاعب ببعض الخامات والأصناف، أو مخالفة المواصفات المتفق عليها، أو تقديم مقايسات غير سليمة، رغم أن العديد من حالات الفساد الأخرى لا يتم التعامل معها بأي شكل، سواء لضعف الرقابة أو لوجود تواطؤ بين الضباط المراقبين والمقاولين في معظم المشروعات، فالقرارات من هذا النوع لا يتم اتخاذها بواسطة لجان مؤسسية، بل إنها تبدأ وتنتهي فقط عند الضابط المراقب الذي يتمتع بسلطة كبيرة يمنحها له رئيس الهيئة الهندسية شخصياً.
وضربت المصادر نموذجاً لهذا التواطؤ بالعديد من حالات التلاعب الظاهرة في الخامات وأسعار التشطيب في العاصمة الإدارية الجديدة، التي تم ترويجها من الجيش في أوساط المقاولين باعتبارها "عمليات كبيرة جداً ستعوض خسائر المشروعات السابقة" ما فتح باب الفساد على مصراعيه بعيداً عن أي رقابة لا من الجيش ولا من خارجه، لتحقيق هدف واحد فقط هو الإسراع في التنفيذ والتسليم. بل إن إحدى الشركات المتوسطة تم استبعادها من جميع مشروعات العاصمة الإدارية بسبب شكوى صاحبها لمكتب وزير الدفاع من ضعف الرقابة وسوء مستوى الأساسات والتشطيبات والضغط عليه لخفض مستوى التسليم لمواكبة سرعة باقي المقاولين، في ظل الرغبة المستعرة لدى السيسي في افتتاح أي مشروعات في كل ظهور له تقريباً بغض النظر عن المستهدف منها أو أهميتها.
ولا تمارس أي سلطة الرقابة الإدارية أو المالية على تصرفات الجيش وأجهزته، رغم دخوله –نظرياً - ضمن الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات. وسبق أن نشر "العربي الجديد" في 5 يناير/ كانون الثاني 2018 تفاصيل الصدام بين الجيش والمستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، بسبب إقدامه على تفعيل هذا الدور الرقابي إزاء صندوق "تحيا مصر" الذي أنشأه رئيس الجمهورية في يونيو/ حزيران 2014 وأوكل مهمة الإشراف عليه لهيئة الشؤون المالية التابعة لوزير الدفاع، التي رفضت بشكل قاطع السماح لموظفي الجهاز المركزي بذلك، أسوة بمنعهم من الاطلاع على أي مستندات تخص مشروعات أجهزة الجيش.
ويعزز هذا الواقع قانون التعاقدات الحكومية الذي أصدره السيسي العام الماضي متضمناً السماح لجميع أجهزة الجيش والإنتاج الحربي والداخلية أيضاً بإبرام عقود المقاولات والخدمات والاستيراد بطريق المناقصة المحدودة أو المناقصة على مرحلتين أو الممارسة المحدودة أو الاتفاق المباشر دون اتباع المناقصات أو المزايدات العامة. وجاءت هذه الخطوة تكريساً وتقنيناً لوضع غير دستوري قائم على التمييز الإيجابي لتلك الجهات على باقي الوزارات والشركات بدعوى "حماية الأمن القومي"، وهو المصطلح الذي يبلغ من الاتساع ما يمكّن كل جهة من تفسيره كما تشاء، وما يضمن لها أن تدرج تحته كل تعاقداتها، علماً بأن المشروع يضمن "سرّية استثنائية" لخطط البيع والشراء المندرجة تحت اعتبار "الأمن القومي" بعدم نشر أي معلومات عنها على بوابة الخدمات الحكومية الإلكترونية.