مرت على مصر منذ أيام الذكرى الثانية والعشرون لوفاة طالب الحقوق الفاشل أمل مصر في الموسيقى، بحسب رأي كامل الشناوي، رحمه الله، وكان بليغ حمدي الملحن المعروف قد توفاه الله يوم 12 من سبتمبر/ أيلول 1993م بعد صراع مع مرض الكبد، وبعد قصة رجت مصر كلها في الثمانينيات .. ويُفضلُ عدم الخوض فيها الآن، ولكنه تنقل على إثرها بين العاصمة الفرنسية وعدد من الدول.. حتى تمت تبرأته من أمر سقوط مغربية من شقته .. وبالتالي استطاع العودة إلى مصر من جديد..
لكن الجانب الذي لا يعرفه الكثيرون عن بليغ، أو تناسوه في خضم ما يجري بمصر اليوم، ويعصف من أسف بها .. تلحينه للأدعية الدينية للشيخ النقشبندي، تلك الابتهالات والأدعية التي تكشف عن نفس تهوى "الوصل" مع رب العزة سبحانه، مهما تقاذفتها أمواج الحياة، فبداية من الابتهال الأكثر من رائع "مولاي إني ببابك"، والذي له قصة أكثر من طريفة نتعرض لها بعد حين قليل مروراً بـ: "أشرق المعصوم، أقول أمتي، أنغام الروح، رباه يا من أناجى، ربنا إنا جنودك، يا رب أنا أمة، يا ليلة في الدهر/ ليلة القدر، دار الأرقم، إخوة الحق، أيها الساهر، ذكرى بدر".
أما أروع ما لحن بليغ حمدي للنقشبندي فالأدعية الدينية الرائقة التي ارتبطت بجيلي والأكبر سناً في رمضان بعد منتصف السبعينيات، وهي الأدعية المعروفة بـ"الله .. يا الله"، وتردد بقوة أن بليغ حمدي قد لحنها بعد وفاة الشيخ سيد النقشبندي، أي وضع ألحانه على صوت الشيخ الرائق الرائع، وقد تميزت الابتهالات لأذهان جيلي والأجيال السابقة، وكان البرنامج العام المصري يذيعها عقب الإفطار، والآذان مباشرة، وهو ما لم تنجح ابتهالات أو أدعية في أن تحل محلها بعد النقشبندي بحال من الأحوال، بخاصة بمجيء نظام مبارك الذي ربط بين النقشبندي وبين نظام السادات، وإن كانت تلك حقيقة سنأتي إليها، ويتبقى من تلك الابتهالات أن مصر حينها كانت وحدة واحدة .. بلداً لم يكن قد تم شقه بحال من الأحوال، وأخشى أن أقول رحم الله "بليغ حمدي" بها أن ينبري من يشكك في الكلمات، من الفريق الآخر .. وللحقيقة فإن كل ميت أمره إلى الله .. وليته تعالى يغفر لكل مُتوفٍ..
رحم الله بليغ حمدي .. فما لا يعرفه الكثيرون أنه كما جمع الراحل جمال عبد الناصر بين السيدة أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب في عالم الغناء .. لا يعرف الكثيرون إن الرئيس محمد أنور السادات جمع بين المنشد الراحل سيد النقشبندي والملحن بليغ حمدي وكان للأمر قصة طريفة يرويها الإذاعي وجدي الحكيم..
كان السادات يطرب لصوت النقشبندي وابتهالاته.. ولذلك كان يحرص على دعوته في المناسبات الخاصة به، وفي عام 1972م كانت إحدى بنات السادات يتم زفافها في "القناطر الخيرية"، وهناك جمع الرئيس الراحل بين النقشبندي وبليغ بحضور وجدي الحكيم وطلب من الأخير فتح استديو الإذاعة لهما، وقال: "عاوز أسمع للنقشبندي من تلحينك يا بليغ"!
لكن الشيخ النقشبندي بعدها ثار، في غير حضور السادات طبعاً، قائلاً: "هوه أنا هاغني على آخر الزمن يا وجدي؟!.
وكان النقشبندي بعدها يريد أن يعيب على ألحان بليغ التحرر الشديد ، ولكن الأمر خاص بالرئيس السادات الذي يحكم مصر آنذاك، ولا مفر من تنفيذه على كل حال، ولذلك احتال وجدي الحكيم على الشيخ النقشبندي فقال له: "سوف أجمعك به وبلحن يعدّه لك فإن عجبك أكمل وإلا فانسحب.. وسنعتذر للرجل بأي حجة"!
وافق الشيخ النقشبندي على مضض وكان الاتفاق بينه وبين وجدي الحكيم، هو أن يعد بليغ لحناً للنقشبندي .. ويلتقيه الأخير للمرة الأولى في استديو الإذاعة فإن أعجبه اللحن خلع عمامته ووضعها أمامه، وإن لم يعجبه ظل مرتدياً لها، على أن تظهر "العلامة" عندما يدخل عليهما وجدي الحكيم الاستديو، ووافق النقشبندي على خوف وعدم اقتناع.. ودخل الاستديو، وهو يقول: "ألحان راقصة يغنيها الشيخ سيد على آخر الزمن .. أغني يا وجدي"!
ولكن بعد نصف الساعة دخل الحكيم على النقشبندي ليجده لم يخلع العمامة فقط، بل و"الجبة" وهتف قائلاً: "هذا الرجل فلتة زمانه في الموسيقى"!.
وكان الابتهال الرائع "مولاي إني ببابك قد بسطت يدي"..
الشاهد أن بليغ لم يتردد ولم يتحير ولم يتملكه ما تملك الشيخ النقشبندي من حيرة وجاء باللحن الرائع مع اختيار الكلمات الأروع بمنتهى السرعة على نحو محير.
وهل ينسى مبنى الإذاعة لبليغ يوم اندلاع حرب 6 أكتوبر 1973م، وتحريره محضراً لرئيس التلفزيون لعدم تمكنه من أداء الواجب الوطني بالتلحين للجنود ولمصر المنتصرة، وكانت الظروف الحرجة قد منعت أحداً من دخول المبنى إلا المسموح لهم فقط، ودخل بليغ، ولم يجد كورالاً موسيقياً يردد اللحن الخالد الرائع: "بسم الله .. الله أكبر"، فأخذ العمال والفنيين والأمن ودربهم ليومين، وجعل منهم أجمل منشدين في تاريخ الغناء لا الوطني بل أزعم العربي، للمرة الأولى والأخيرة في حياتهم، وهي الأنشودة التي تردد بقوة أنه كان من شروط "كامب ديفيد" الخفية ألا يستمر النشيد، الذي لحنه بليغ ببقائه في الإذاعة لأيام وبقدرات شبه منعدمة..
كان بليغ فناناً، بما تحمله كلمة فنان، ولكنه كان إنساناً بكل ما تحمله كلمة إنسان من معان.. رحمه الله..
(مصر)