من الرواية إلى السينما: "بقرة" تصنع ثروات

09 مارس 2020
"البقرة الأولى" لكيلي ريتشارد: حيوية الصورة (الموقع الإلكتروني لـ"البرليناله")
+ الخط -
يهدف صنّاع أفلام كثيرون، عبر أعمالهم، إلى طرح أسئلة سياسية واجتماعية ودينية ووجودية. أكثرها شيوعاً، وأجملها وأعمقها، تلك التي يتعمّدون تركها من دون إجابات. أحياناً كثيرة، لا يملك هؤلاء إجابات صادقة ومباشرة وشافية. أحياناً أخرى، تترك الأسئلة مفتوحة لرغبة مبدع العمل في إشراك الجمهور في إيجاد أجوبة عن تلك الأسئلة. كسر تلك القاعدة، يُفقِد العمل الفني، غالباً، إثارته وتشويقه، ويُفسد عمقه، إنْ يكن له عمق، وينحرف به صوب المباشرة أو السطحية.

يشذّ عن تلك القاعدة الراسخة فيلم "البقرة الأولى"، للأميركية كيلي ريتشارد (1964)، المُشارك في مسابقة الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي".

يملك الفيلم شروطاً فنية كثيرة. فيه تشويق وعمق وإثارة وفُكاهة. ورغم خروجه على تلك القاعدة، تنسجه كيلي ريتشارد بشكلٍ يُجيب أساساً عن سؤال مطروح في بدايته، ويفكّ لغز الحكاية، مع أنّه ليس بوليسياً. في نهايته، تظهر حقيقة ما جرى، أو على الأقلّ، يُجاب عن السؤال الرئيسي، المطروح في البداية، بطريقة شافية ووافية.

"البقرة الأولى" جذّاب وممتع للغاية. يُمكن مشاهدته كفيلم عن مغامرة وخطر وطموح وأحلام ورغبة في البقاء وتحقيق الثراء. وأيضاً عن الصداقة والولاء بين الناس. من ناحية أخرى، يُمكن مُشاهدته كفيلم عن الحلم الأميركي، بتناولٍ ومعالجة مُغايرين تماماً. كذلك يمكن اعتباره فيلم ويسترن أميركياً، مُقدّماً بمفردات مختلفة قليلاً عن المعتادة في هذا النوع السينمائي.
السيناريو لكيلي ريتشارد وجوناثان رايموند، ومأخوذ عن رواية لرايموند صادرة عام 2004 بعنوان "نصف الحياة". دراما بسيطة للغاية، تسرد ـ على نحو خطي تقريباً ـ حكاية تتطوّر زمنياً لتصل إلى نقطة البداية. للأحداث قوّتها الخاصة، وللفكرة طزاجة لافتة. مع ذلك، لا يقوم على الفكرة وقوّة الأحداث فقط، إذ يُحسَب الأداء المميّز للممثلين، واختيار مواقع مناسبة جداً للإيحاء بزمن الأحداث، والاعتناء الشديد بالتفاصيل وسردها، مع بساطة إخراج. الانطلاق زمنياً من العصر الحديث، ثم العودة إلى عام 1820، في ولاية أوريغون.

إلى جوار أحد الأنهار، تتنزّه شابّة (علياء شوكت) مع كلبها في الغابة. فجأة، ينبش الكلب التربة، وتظهر عظام بشرية. تقترب الشابّة من المكان وتبدأ النبش مع كلبها، ومع اللقطة العريضة الأخيرة، يظهر هيكلان عظميان مكتملان لرجلين، أحدهما يرقد إلى جوار الآخر. مع انتهاء التسلسل المشهدي، تحدث عودة إلى عشرينيات القرن الـ19، للتعرّف عبر الأحداث المُكتَشفة إلى قصّة هذين الهيكلين العظميين، وعلى أجوبة غالبية الأسئلة: من هما هذان الرجلان؟ ما الذي أتى بهما إلى هذه الغابة؟ مع ذلك، تظلّ كيفية موتهما أو قتلهما غير معروفة، فتخضع لتكهّنات كثيرة.

بعد افتتاح مُلغّز ومُشوّق، تظهر أشعار لويليام بلايك: "يصنع الطير أعشاشاً، وتنسج العناكب بيوتاً، والإنسان صداقة". ثم تُسرد قصّة فيغوفيتش (جون ماغارو)، المُلقّب بالطاهي، ولو (أوريون لي)، المُلقّب بالملك. الأول طاهٍ يعمل لدى صيادي فراء بائسين ومخمورين، يعتبرونه فاشلاً في الطهو، وهو بدوره لا يُطيق صحبتهم. أثناء بحثه في الغابة عن مكوّنات صالحة لإعداد وجبة عشاء، يلتقي صدفة رجلاً عارياً. يثير كينغ لو مخاوف الطاهي الطيّب والمسالم. لكن، بعد تبادل حديث قصير معه، يتّضح له أنّه مهاجر صيني، فار من روسيين لسببٍ غامض. هو جائع ومحتاج إلى ملابس.

بعد ذلك، تنشأ بينهما علاقة مودة، تتحوّل مع الوقت إلى صداقة وعمل وشراكة حياة، قبل بلوغهما معاً المصير الذي انتهيا إليه. يبحثان في الغابة عن مأوى ومأكل وفرص عمل. لكلّ واحد منهما حلم خاص، فالصيني يحلم بأنْ يُصبح مدير فندق في سان فرانسيسكو، والطاهي يريد أن يكون مدير مطعم. يحلمان بالثراء، لكنهما لا يعرفان كيف يحقّقان الثروة، ولا من أين يبدآن. لا يملكان مالاً يكفي لبدء تحقيق هذين الحلمين.

يصلان إلى مستعمرة، في أحد أطراف الغابة تلك، في أوريغون، قائمة على التنوّع الطبقي والعرقي، يشرف عليها إنكليزي ثريّ بغيض، معروف بلقب "كبير العمّال" (توبي جونز). قبل وصولهما بقليل، تدخل بقرة إلى المستعمرة، هي الأولى والوحيدة في تلك البقعة الشاسعة، فتثير انبهار الجميع. يتملّكها كبير العمال، معتبراً أنها أثمن ممتلكاته، ويعيّن حارساً لها. ذات ليلة، يتسلّل الصديقان ليحلبا البقرة. يصنع الطاهي من لبنها كعكاً شهيّاً للغاية، يبيعانه في السوق، فيحظى الكعك بإعجاب السكّان المحليين، بمن فيهم كبير العمّال، الذي يحاول مع غيره معرفة سرّ الطعم الشهي للكعك. لتجنّب بطشه، يخبره الصديقان أنّها خلطة سرية صينية الأصل. تدريجياً، يتمكّنان من جمع المال، ويدركان أنّ حلميهما ليسا مستحيلين. لكن المُشكلة، التي تواجه نجاحهما وازدهار تجارتهما، تكمن في المخاطر المتجدّدة كلّ ليلة، مع تسلّلهما خلسة للحصول على حليب البقرة. بالأحرى، سرقته من مزرعة كبير العمال.
المساهمون