12 نوفمبر 2024
من البوعزيزي إلى الزواري
ربما كان من مفارقات الزمان أن يتزامن استشهاد محمد الزواري مع الذكرى السادسة لحادثة موت محمد البوعزيزي (الذي فجّر الثورة التونسية). وعلى الرغم من اختلاف الأسباب والظروف التي حفّت بالحدثين، فقد كان لكل منهما أثره في الشارع التونسي، أدى أحدهما إلى اشتعال الأحداث، وإطاحة حكم زين العابدين بن علي، وأدى الثاني إلى إحداث موجة جديدة من النفس الثوري في الساحة التونسية، خصوصاً بعد ركود ناجم عن سلسلة من التوافقات السياسية وجمود للمشهد السياسي والحزبي في البلاد.
ومن البارز ملاحظة التعامل البارد للإعلام التونسي مع حادثة اغتيال محمد الزواري، بشكلٍ يعيد إلى الذاكرة طريقة تناولها الفج ما جرى في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010. حينها صمتت وسائل الإعلام التونسية عن الحديث عما جرى في سيدي بوزيد، وظلت سياسة التعتيم مستمرة بالاكتفاء ببيان يتيم صدر بعد ثلاثة أيام من تصاعد الأحداث في مناطق مختلفة من البلاد. واكتفى البيان الصادر عن وكالة الأنباء الرسمية، وتم نشره في غالبية الصحف، بخبر وحيد، أن الشاب الذي عمد إلى إحراق نفسه يرقد في مستشفى الإصابات والحروق البليغة. ومعلوم أن "فيسبوك" تحول وقتها إلى رأس حربة لنقل أخبار التحركات الجماهيرية التي توسعت تدريجياً، وأسفرت عن سقوط شهداء في أثناء المواجهات بين القوى الأمنية والمتظاهرين. وبعد نقل وسائل الإعلام الدولية، وفي مقدمتها قناة الجزيرة، أخبار التحركات في تونس، واستنادها إلى المصادر غير الرسمية، وللإعلام الجماهيري الموازي، حيث تكرّرت على نشرات أخبار "الجزيرة" عبارة "وأظهرت مقاطع فيديو وصور تم تناقلها على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك..."، ما أثار حفيظة الإعلام التونسي وقتها. وانتقدت وكالة الأنباء التونسية الرسمية ما أسمتها "محاولات بعض الأطراف الانحراف بهذه الحادثة الشخصية المعزولة عن سياقها الحقيقي، واستغلالها لأغراض سياسية غير شريفة، وربطها بغرض التضليل والإثارة بحقوق الإنسان والحريات، والتشكيك في مقومات التنمية بالجهة" (انظر البيان في 20 ديسمبر 2010).
واليوم، وفي أجواء الحرية الإعلامية، تعامل الإعلام التونسي الرسمي والقنوات الخاصة مع
حدث اغتيال محمد الزواري، بشكلٍ يدعو إلى الاستغراب، على الرغم مما حفّ بالجريمة. ومنذ اللحظة الأولى من شكوك، ليس من المعتاد أن تحدث عملية اغتيالٍ بمسدسات كاتمة للصوت وفي الشارع، من دون أن يستدعي الأمر اهتماماً إعلامياً، أو يثير أسئلةً بشأن طبيعة ما حدث. وحتى بعد تسرب معلومات أولية من قنوات صهيونية عن تصفية محمد الزواري، وتفاعل الشارع التونسي مع ما جرى، ظلت القنوات الإعلامية التونسية تتحدث "عن مقتل ميكانيكي"، أو التأكيد على أنها مجرد "جريمة عادية"، لا تستحق ما يُثار حولها من أسئلة أو شكوك.
سقط الإعلام التونسي، مرة أخرى، في تعامله مع هذا الحادث الخطير الذي شكل انتهاكاً لسيادة الدولة التونسية، واعتداء معلناً على مواطن، قابله صمتٌ مريبٌ من الجهات الرسمية التي لم تخرج عن صمتها إلا بعد يومين من الحادثة، وبعد تصاعد الانتقادات الشعبية على المواقع الاجتماعية من جهة، وبعد إعلان كتائب عز الدين القسام عن انتماء الشهيد إليها من جهة أخرى. وعلى الرغم من ذلك، كان الموقف الرسمي محتشماً متردّداً، ولا يدري ما الذي عليه أن يفعل. ومرة أخرى، شكلت أدوات التواصل الاجتماعي منبراً فعلياً لتداول المعلومات والتحليلات ونقل الأخبار ومتابعة القنوات الصهيونية، وكشف جوانب كثيرة عن شخصية الشهيد محمد الزواري.
ويبقى السؤال المركزي: لماذا تستمر غالبية أجهزة الإعلام التونسي في ممارسة أشكال التعتيم والتزييف، أو على الأقل التجاهل للأحداث الكبرى التي تمس الرأي العام؟ ليست الإجابة عن سؤال كهذا واحدة، ولا مباشرة، لأنها تمس مجالاً واسعاً من بنية العمل الإعلامي التونسي. فهو من جهة لازال خاضعاً للقوى نفسها التي كانت موالية لنظام بن علي، وهي مجموعات إعلامية لا تتعامل مع القضايا بمكيال واحد، ولا تعتمد الشفافية في تناول الأحداث، بقدر ما تخضع لتجاذبات وحسابات تخدم أطرافاً محددة، توظف الحدث، بحسب المصلحة السياسية. فالقنوات التي مارست التعتيم على موت محمد البوعزيزي، شرارة الثورة التونسية، وتجاهلت اغتيال الشهيد الزواري، هي نفسها التي ركزت كل عملها في أثناء حكم الترويكا في الحديث عن عمليتي اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي. ومع أنه لا ينبغي التقليل من خطورة تلكما الجريمتين، إلا أنه مما يثير الريبة أن يتم التعامل مع أحداث بالدرجة نفسها من الخطورة بأشكالٍ متفاوتة، بل ينبغي التساؤل لماذا لم تتعامل وسائل الإعلام التونسية مع حادثة الاغتيال الجديدة بوصفها سبقاً صحافياً، يمكن أن تعقد حوله الحوارات والنقاشات، على النحو الذي جرى بعد سيطرة قوات بشار الأسد المدعومة روسياً وإيرانياً على حلب الشرقية، حيث تم الاحتفاء بالحدث، والتركيز عليه إعلامياً بشكل مبالغ فيه.
سقطة أخرى للإعلام التونسي، تساهم في إفقاده ما تبقى من مصداقية مفترضة، وتمنح مواقع التواصل الاجتماعي مزيداً من التأثير في قدرتها على متابعة الإخبار وصناعة الرأي العام. فهل يمكن القول إن التغطية الإعلامية العاجزة للأحداث الكبرى في الشارع التونسي هي إعلان موت الإعلام التقليدي، ومزيد من التأكيد على أن المستقبل سيكون للإعلام الإلكتروني البديل، ولصحافة المواطنة.
ومن البارز ملاحظة التعامل البارد للإعلام التونسي مع حادثة اغتيال محمد الزواري، بشكلٍ يعيد إلى الذاكرة طريقة تناولها الفج ما جرى في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010. حينها صمتت وسائل الإعلام التونسية عن الحديث عما جرى في سيدي بوزيد، وظلت سياسة التعتيم مستمرة بالاكتفاء ببيان يتيم صدر بعد ثلاثة أيام من تصاعد الأحداث في مناطق مختلفة من البلاد. واكتفى البيان الصادر عن وكالة الأنباء الرسمية، وتم نشره في غالبية الصحف، بخبر وحيد، أن الشاب الذي عمد إلى إحراق نفسه يرقد في مستشفى الإصابات والحروق البليغة. ومعلوم أن "فيسبوك" تحول وقتها إلى رأس حربة لنقل أخبار التحركات الجماهيرية التي توسعت تدريجياً، وأسفرت عن سقوط شهداء في أثناء المواجهات بين القوى الأمنية والمتظاهرين. وبعد نقل وسائل الإعلام الدولية، وفي مقدمتها قناة الجزيرة، أخبار التحركات في تونس، واستنادها إلى المصادر غير الرسمية، وللإعلام الجماهيري الموازي، حيث تكرّرت على نشرات أخبار "الجزيرة" عبارة "وأظهرت مقاطع فيديو وصور تم تناقلها على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك..."، ما أثار حفيظة الإعلام التونسي وقتها. وانتقدت وكالة الأنباء التونسية الرسمية ما أسمتها "محاولات بعض الأطراف الانحراف بهذه الحادثة الشخصية المعزولة عن سياقها الحقيقي، واستغلالها لأغراض سياسية غير شريفة، وربطها بغرض التضليل والإثارة بحقوق الإنسان والحريات، والتشكيك في مقومات التنمية بالجهة" (انظر البيان في 20 ديسمبر 2010).
واليوم، وفي أجواء الحرية الإعلامية، تعامل الإعلام التونسي الرسمي والقنوات الخاصة مع
سقط الإعلام التونسي، مرة أخرى، في تعامله مع هذا الحادث الخطير الذي شكل انتهاكاً لسيادة الدولة التونسية، واعتداء معلناً على مواطن، قابله صمتٌ مريبٌ من الجهات الرسمية التي لم تخرج عن صمتها إلا بعد يومين من الحادثة، وبعد تصاعد الانتقادات الشعبية على المواقع الاجتماعية من جهة، وبعد إعلان كتائب عز الدين القسام عن انتماء الشهيد إليها من جهة أخرى. وعلى الرغم من ذلك، كان الموقف الرسمي محتشماً متردّداً، ولا يدري ما الذي عليه أن يفعل. ومرة أخرى، شكلت أدوات التواصل الاجتماعي منبراً فعلياً لتداول المعلومات والتحليلات ونقل الأخبار ومتابعة القنوات الصهيونية، وكشف جوانب كثيرة عن شخصية الشهيد محمد الزواري.
ويبقى السؤال المركزي: لماذا تستمر غالبية أجهزة الإعلام التونسي في ممارسة أشكال التعتيم والتزييف، أو على الأقل التجاهل للأحداث الكبرى التي تمس الرأي العام؟ ليست الإجابة عن سؤال كهذا واحدة، ولا مباشرة، لأنها تمس مجالاً واسعاً من بنية العمل الإعلامي التونسي. فهو من جهة لازال خاضعاً للقوى نفسها التي كانت موالية لنظام بن علي، وهي مجموعات إعلامية لا تتعامل مع القضايا بمكيال واحد، ولا تعتمد الشفافية في تناول الأحداث، بقدر ما تخضع لتجاذبات وحسابات تخدم أطرافاً محددة، توظف الحدث، بحسب المصلحة السياسية. فالقنوات التي مارست التعتيم على موت محمد البوعزيزي، شرارة الثورة التونسية، وتجاهلت اغتيال الشهيد الزواري، هي نفسها التي ركزت كل عملها في أثناء حكم الترويكا في الحديث عن عمليتي اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي. ومع أنه لا ينبغي التقليل من خطورة تلكما الجريمتين، إلا أنه مما يثير الريبة أن يتم التعامل مع أحداث بالدرجة نفسها من الخطورة بأشكالٍ متفاوتة، بل ينبغي التساؤل لماذا لم تتعامل وسائل الإعلام التونسية مع حادثة الاغتيال الجديدة بوصفها سبقاً صحافياً، يمكن أن تعقد حوله الحوارات والنقاشات، على النحو الذي جرى بعد سيطرة قوات بشار الأسد المدعومة روسياً وإيرانياً على حلب الشرقية، حيث تم الاحتفاء بالحدث، والتركيز عليه إعلامياً بشكل مبالغ فيه.
سقطة أخرى للإعلام التونسي، تساهم في إفقاده ما تبقى من مصداقية مفترضة، وتمنح مواقع التواصل الاجتماعي مزيداً من التأثير في قدرتها على متابعة الإخبار وصناعة الرأي العام. فهل يمكن القول إن التغطية الإعلامية العاجزة للأحداث الكبرى في الشارع التونسي هي إعلان موت الإعلام التقليدي، ومزيد من التأكيد على أن المستقبل سيكون للإعلام الإلكتروني البديل، ولصحافة المواطنة.