.. من أوجه أزمة "الإخوان" اليوم

16 أكتوبر 2014

استباحة مقر الإخوان المسلمين في القاهرة (1يوليو/2013/Getty)

+ الخط -

لا شك أن جماعة الإخوان المسلمين، بكل أفرعها العربية، تمرُّ، اليوم، بأزمة مفصلية، قد ترقى إلى أن تكون وجودية (بالنسبة لبعضها)، وذلك في سياق صيرورة عمرها المديد الذي يشارف اليوم على عقده التاسع، منذ أسس الإمام حسن البنا الجماعة في الإسماعيلية في مصر عام 1928.

صحيح أن ثمة تفاوتات في تجارب فروع "الإخوان" وظروفها، فليس كل تلك الفروع تعرض، كما الجماعة الأم في مصر، إلى الإقصاء والتهميش، بل وقل الملاحقة والبطش، إذ حظي بعض فروع الجماعة في الدول العربية بهامش معقول من الحرية والعمل. بل شارك بعضها في البرلمانات والوزارات، كما في اليمن والكويت والأردن والجزائر، وقد شاركوا بمسميات تنظيماتهم وأطرها، لا كما إخوان مصر الذين شاركوا طويلاً، قبل ثورة عام 2011، مستقلين أو عبر أحزاب أخرى ليست منبثقة عنهم.

غير أن محنة "الإخوان"، اليوم، ليست كسابقاتها، سواء في مصر، في الحقبة الناصرية، وتحديداً ما بين أعوام 1954-1970، أم في سورية مطلع الثمانينيات. فعلى الرغم من أن الجماعة، في الحالتين، تعرضت لعمليتي بطش وسحق، وإن لم تقضيا عليها، إلا أن محنتها اليوم أعقد وأخطر، من نواح عدة، أبرزها:

أولاً، الخضة التي تمر بها الجماعة، اليوم، جاءت بعد الانقلاب العسكري في مصر، في يوليو/تموز 2013، والذي أطاح الرئيس المنتخب، محمد مرسي، القيادي في الجماعة. ومن ثمَّ، الصدمة أكبر من سابقاتها، فالإخوان كانوا قد وصلوا، عملياً، إلى قمة الهرم السياسي في مصر عام 2012، ولو نظريا، ثمَّ إذا هم يعودون إلى سنواتٍ من القمع والبطش، تضاهي ما تعرضوا له في سنوات حكم الرئيس المصري الأسبق، جمال عبد الناصر.

ثانياً، لم تنحصر تداعيات الانقلاب في مصر، بل تعدت ارتداداتها حدود مصر، لتطال وضعية فروعهم، في بلاد أخرى، كان ينظر إليها على أنها "مستقرة" لناحية شروط اللعبة معهم، مثل الأردن والكويت واليمن. فمجرد، وصول "الإخوان" إلى الحكم في مصر، وعبر صناديق الاقتراع، بعد ثورات شعبية، أثار مخاوف الأنظمة من أن هذه السيناريوهات قد تتكرر في بلدانهم، وهو ما استلزم إعادة النظر في أسس العلاقة وأنماطها.

ثالثا، أن الحرب على الإخوان المسلمين، اليوم، ليست مقصورة على مصر، بل إنها تأتي ضمن حلف إقليمي عربي واسع لتصفيتهم عربياً، أو على الأقل إضعافهم وإنهاكهم. فدول، كالمملكة العربية السعودية والإمارات المتحدة، دعمتا الانقلاب في مصر، وأعلنتا "الإخوان" جماعة إرهابية. هذا الحلف نفسه متورط في الفوضى الجارية في ليبيا، ومحاولة إقصاء "الإخوان" هناك، وكذلك الأمر في محاولة تهميشهم وإضعافهم في تونس، دع عنك التواطؤ المريب الذي جرى في اليمن، وإسقاط هذا البلد في قبضة الحوثيين، ضمن حلف أوسع، ومخطط أكبر، يرتكز، في أحد أركانه، على إضعاف التجمع اليمني للإصلاح، القريب من الإخوان المسلمين، خصوصاً بعد دوره الكبير في إنجاح الثورة اليمنية، وإسقاط الرئيس السابق، علي عبد الله صالح.

وإذا كان هذا هو سياق المعركة مع "الإخوان" اليوم، فإنه لم يكن كذلك، في القرن الماضي، وذلك عندما اصطدموا مع عبد الناصر، أو فيما بعد مع نظام الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد. ففي تلك الحالتين، وجد "الإخوان" نصيراً وموئلاً، في دول خليجية وعربية أخرى، وفي مقدمتها السعودية، والتي كانت في حالة من العداء، سواء مع نظام ناصر أم نظام الأسد الأب. 

رابعاً، وهذا الأهم، أن أوجه أزمات "الإخوان" المتعددة، اليوم، سبقتها خضات أخرى قبل الانقلاب، وفي سنوات الثورات العربية، لكنها كانت خضات داخلية، تنظيمية وفكرية. فالثورات العربية ضد أنظمة متسلطة وقهرية سلطت الأضواء، أيضا، على نقاش كان يجري مضطرداً داخل الأطر التنظيمية للإخوان المسلمين، وخرج، أحياناً كثيرة، إلى العلن، حول بعض "المسلمات" الفكرية والممارسات التنظيمية، وتكلس عقليات التخطيط فيها. ولكن، إذا كان مَدُّ الثورات، وخصوصا في عامي 2011 و2012، وتفرغ "الإخوان" لفعالياتها، وما ترتب عليها، سواء من انتخابات، كما في مصر وتونس، أم فوضى، كما في ليبيا، أو حالة مراوحة، كما في الأردن، إلخ.. إذا كان مَدُّ هذه الثورات، حينها، قد احتوى تلك النقاشات نوعاً ما واستوعبها، فإن جَزْرَها، وما ترتب عليها من نتائج كارثية على جماعة الإخوان، أعاد تفجيرها من جديد.

فثمة، الآن، مطالبات من قطاعات إخوانية، خصوصا الشبابية، بتحديد الأطراف القيادية المسؤولة ومحاسبتها عمّا وصلت إليه الجماعة، من حال مترد وفشل في تجربتها الأهم والأخطر في تاريخها. كما أن ثمة نقاشات حادة تدور في أطر الجماعة، لكنها علنية اليوم، كما في مصر والأردن، تهدف إلى إحداث تغييرات في بنى التصعيد التنظيمي وأساليبه. الأهم هو الجدل، القائم حالياً، حول "مسلمات فكرية"، و"قناعات أيديولوجية"، اُسبغ على بعضها "مسحة" من القداسة، في السابق، خصوصا فيما يتعلق بمنطق "حتمية المحنة"، و"صوابية المسار"، و"فسطاطي الحق والباطل". فكل هذه "المسلمات" أضحت موضوعات خاضعةً للأخذ والرد في صفوف "الإخوان"، ما بين تيار مطالب بمراجعات حقيقية وجذرية، وانفتاح أوسع على المجتمعات وقواها الاجتماعية والفكرية والسياسية والثقافية، وآخر يرى في ذلك افتعالاً للخلاف، وتشتيتاً للجهود في هذه الظروف الصعبة التي تتعرض فيها الجماعة لتهديد وجودي، ويريد، بدل ذلك، التركيز على المحافظة على سلامة التنظيم، ومجابهة الأخطار المحدقة به.

وفي المحصلة، إن لم تجر مراجعات حقيقية وعميقة، فكرية وتنظيمية ومسلكية، لن تكون التحديات الخارجية التي تواجه "الإخوان"، وتهدد وحدة صفهم، شيئاً يذكر، مقارنة بتمرد أو ثورةٍ تقوم من داخل صفوفهم. فمثل هذه الثورة، وإن كانت محدودة الحجم، لن تكون محدودة الأثر هذه المرة. وموضوع المراجعات ومجالها، هو ما سيناقشه مقال قادم.