من أدب الثورة قبل أوانها

26 ابريل 2017
هالة لمين/ تونس
+ الخط -

يا لهما من ثنائي حمادي وسعاد قطب هذه الرواية! بدعة كلاهما من اختراع الخيال في القص وإن يكونا من كذب الفنّ الصّراح لصورة صدق من واقعنا المنهار. تخرّجا بالفوز من كلية الآداب فدهاهما دهر غشوم حطّ بهما من أعالي الأحلام إلى حضيض الظلم والظلام، والزمان "عهد التغيير" وقيل "عهد التغبير" عهد "المنقذ".

أخلف الوعد فعتا، وبالسلطة استبد والمال طغى. وسُوسُ الفساد فشَا في سائر الأعضاء من جسمنا الاجتماعي والأهل من حكمه طوائف بين شاكرٍ وشاكٍ. واصلٌ بالقربى وساعٍ بالزّلفى إلى مبتغاه من الإثراء والجاه، وطواقم من محترفي التعليم والإعلام أبواق له وطبول تتغنّى بحمده بكرة وعشيّاً.

وفي السجون ترزح من المعارضين مئات وتعذيب وتشريد، ومُظَاهِرٌ له بالولاء إيثاراً للسّلامة ولسانه في السرّ يلعن، والجموع في عناء والغيظ كظيم، صامتة صابرة لا تدري متى ولا كيف تنجلي الغُمَّة. ولا من متنفّس إلا المساجد أيام الجمعة وفي الآحاد الملاعب. وسلواهم "بيرات" تُعَبُّ في البارات نهاراً، أو في المقاهي "مص شيشات". وفي الملاهي ليلاً طربٌ و"شيخات" أو في البيوت شاشات ومسلسلات. أرواح في اختناق وفي الأحشاء تخبو نيران.

ولا أدلّ على سوءات ذاك العهد مما يحكيه لنا الكاتب في نصّه هذا. شاب من أولاد الجبال وفتاة من بنات الواحات. شمالي وجنوبية، خميري وقابسية، وأبيض وكحلاء خلاسية، وفي الهمّ سواء.

أبوه يعمل في الحظائر بأجر بخيس وأمه تقوم على شؤون البيت، أدنى من الحد الأدنى، وترعى له إلى يوم الزواج حبيبة قلبه منذ الصبا ياسمين ذات الوجه الصبيح. وكأن لا أب لسعاد، أمها زنجية من سلالة العبيد قديماً، تخدم في دور الموسرين. وأغواها في صباه ابن لهم ووضعت منه سعاد فأبى أن يعترف بها، وشبَّت فأنكرته. لئيم ويدّعي التقى. ذاك من الأهل إرثهما من الدنيا، زاد للمعاش زهيد، لولا إن انتشر التعليم في أنحاء البلاد ففتح لهما باب الأمل في الانعتاق من رق فقرهما العهيد. وكانا من ذوي العزم والطموح.

نجحت في الباكالوريا ونجح، فصعدت إلى العاصمة ونزل، والأحلام عريضة. وفي كلية الآداب التَقَيَا لقاءً ما بعده فراق. لقاء البؤس بالبؤس، والتطلع بالتطلع. جَدّا في الدراسة واجتهدا وتبحّرا في أجواء الطلاب، فحشي الرّأس منها ومنه بالنصوص لا سيما أشعار المتنبي تحضّهما على العزّة والإباء. وتشبّعت النفس بمُثُلِ الثورة وشعاراتها الواعدة.

تحصّلا على الأستاذية بلا عناء، وترشّحا لمناظرة الكفاءة، شرط الانتداب، وكرّرا وفي كل دورة يفوزان بالكتابي أما الشفاهي فما نالته ولا ناله. وما كان لمثلهما أن ينجحا. فلا يكفي التأهل العلمي إذاك في تلك المناظرة فلا بد من رضا الحكام، وما كانا من الطيّعين أو من رشوة، وهما من المعوزين. يئسا منها وكفّا، فتدهورت بهما الأوضاع وأخذت الأحلام تتلاشى. فانضمّا إلى جيش العاطلين من حملة الشهادات العليا.

نزلت سعاد، ولا ملامة، إلى الشوارع تبيع هواها، وتسكّع حمادي هنا وهناك أياماً حتى أرسى به المطاف بحي حديث من دوائر العاصمة. فوجد في بعض مقاهيه منصباً شاغراً إلى حين.

وها أن الأستاذ نادلٌ يدور على الشَّرب بطبق الفناجين والكؤوس. بادر باكتراء مبيت من أرخص الرخيص، تلاقيه فيه بعد "عملها" سعاد فيؤويها ويطعمها، وترتمي على الفراش فتغرق في السّبات، وأحياناً بلا أكل من شدة التعب فيراقدها، والفراش ضيق، ومن خلف يحضنها برفق، وإنّ المرء ليحتار في معرفة حقيقة ما يشدّ بينهما، فلا هو عشق ولا هو إشفاق، شيء يعْيَىَ في الوصف حصره. ربما الزمالة في سوء المصير، أو تجاوب عقله وعقلها في التفكير. عقل شديد لا يموّه عليهما ما هما فيه من القهر والذّل. وعي أليم يزيدهما على الشّقاء شقاء.

وانتهت مدة النادل فعاد حمادي إلى البطالة. تعوله سعاد بكسبها وهو ملازم لمقهاه، يشرب بقايا الفناجين ويدخّن أعقاب السجائر. فبلغا قاع البؤس. وما أبلغه سخريةً فارق بين الاسم والحال: حمادي ولا حَمْد وسعاد ولا سَعْد. ما أعدَّتهما الدِّراسة لمواجهة مجتمعهما القاسي ولا أفادتهما الأستاذية ولا أشعار المتنبي. بضاعة لم يعد لها في السّوق رواج. فأين الأدب من الذّهب وأين الفلوس من النصوص. هيهات!

وما أنقذهما من التردّي إلا تعرّف حمّادي على "سَيّدْ الدِّبْيرْ" نقيب الحيّ، سمسار في كراء الشّقق من فارغة وجاهزة. رأى في الفتى قوة البغل على العمل فانتدبه عوناً له بأجر وأوصاه وألَحََّ "لا تكشف أوراقك". فأخذ يتغابى وهو فطين. وكان أبوه ينهره في الصغر ويعيد "افهم يا بَغْل" فما زالت تعلمه التجارب حتى صار البهيم فهيماً. فأتقن دوره في لعبة المجتمع ومن قواعدها الرياء والغش وكثيراً ما ردّد علينا شاعرنا المنصف المزغني قولته "من غشّنا فهو منّا" فإذا حمادي "منّا" تماماً. يحتال مع المحتالين وعليهم ويتأفف من فعائله أحياناً ولا يتعفف. وأنَّى له؟

ومن الغد شمّر عن الساعد واندفع ينشط، يراقب هذا في تنظيف المدارج وما إليها، ويحثّ الآخر على العناية بأزهار الحديقة. وما لبث أن "تعفرت" في السمسرة فلا الكراء في الليل كالكراء في الصباح ولا للعابر كما للمقيم. حتى بوغت أن الشقق الجاهزة أوكار للغرام. يسبق الرجال إليها وتلحق النساء البعض في تستّر من العيون والبعض جهاراً بلا مبالاة بالقيل والقال. فيشعر وهو السّمسار بأنه على وجه من الوجوه قوّاد فزادت نفسه عنده هواناً.

بدأ الحيُّ يكشف له ما في زواياه من الخبايا. فطفق يجول فيه ليعرّف بنفسه ويتعرّف على السّكان. يلقاهم بوجه بشوش ويتظاهر لهم بالطواعية، حتى يظنوه غِراً ساذجاً من أبناء الريف، فاستعمله الرّجال في قضاء شؤونهم، وصار للنساء عليه دالّة. يرفع لهن إلى البيوت القفاف كخير "قفّاف". إلى أن راودته عن نفسه إحداهن وهو عندها فلم يكن من الرافضين. وتعدّدت من ذلك الوقت مغامراته مع مثيلاتها من "الجائعات" فيغنم إلى أجر النقيب، وجبة من الطعام أو بعض النقود. كان بغل عمل فغدا ثور ضِراب، يقتات من فحولته كما تقتات سعاد من أنوثتها. وفي فحولته سيصيبه آخر القصَّة العِقَابُ.

رضى عنه النّقيب وزاده في الأجر، فاقترح عليه أن يأخذ معه سعاد لتنظيف الشّقق المؤثّثة عسى أن ينتشلها من التبذّل في الشوارع، فوجدت في خدمتها الجديدة من العابرين فوائد شتّى، طعاماً وحمّاماً وشيئاً من الإحسان. وتصدّر حمادي في مكتب النقيب للمعاملات وسرعان ما تحوّل إلى نادي يؤمه جمع من السّكان للأنس والحديث. وكلّهم من أبناء الطبقة الوسطى؛ أستاذ ومعلم وشرطي ومقاول ووكيل شركة. وإذ أبانوا له ما بينهم من الحزازات والخلافات والصّاحب يداهن صاحبه في حضوره ويغتابه إذا ولى، اتخذ من النادي مرصداً للتطلع في خبث إلى خفايا النفوس وأخبار البيوت وحتى أسرار الفراش فاتضح له أن ما منهم واحد إلا وله علّة في حياته الزوجية أو علاقاته الاجتماعية.

امرأة المعلم تَقِيَّةٌ، ترغمه على العبادات فهو في البيت دَيِّن وفي الخارج خليع ويرتزق فوق الراتب بتلفيق كتب بلا قيمة لدعم برامج التدريس. وزوجة الشرطي في الجِماع باردة لا تجاوب حتى كلّ منها وملّها. يهرب منها في الليالي إلى حمادي في النادي، ولا يعود إلا بعد أن تنام. وهو إلى ذلك رجل طيب يتورّع عن السّعاية لدى مسؤوليه بالجيران. ومخافة أن يُخْلِف وهو محلّف فيختلي بنفسه في بعض الأنحاء ويشي بهم للهواء فيريح ضميره.

والمقاول يتعالى بعلمه المزعوم على الناس، كلّهم عنده "جهلوت" وهو أمير "البلوط" وإن هو إلا قلاّب تسلّم من الأستاذ عربوناً ليشيّد له منزلاً فما فارق المبنى مثاله في الرسم. والوكيل في تصريف الأمور خوان يتزيّد على حساب الشركة في الوقود والفائض يدسّه إلى حمادي يسوِّقه له في الحيّ، وبعضه للنّقيب، ويأخذ في الصّفقة نصيبه. "إتاوة" على المعاملات. واحد يسرق والآخر يواطئه وذاك يغنَمُ وهذا يُغْرِمُ وسيعود البنزين المختلس على النقيب بالوبال.

و"الدبير" نفسه كالجماعة، في الادّعاء باشٌّ، يوهم أنه من المقربين إلى السلط العليا ليجعل لنفسه مهابة "يُعَنْتر" بها في الحيّ. وهو ناقص فحولة. تزوّج امرأة لها بنت من عشيق قديم أحبلها وفرَّ، والفتاة تتبرّج لحمادي في تعهّر لعلّها تغويه وهذا ما خبره بنفسه وزادته سعاد علما بما يجري في الشّقق من الغرائب. رجل وامرأته يجدّدان في كلّ عام ليلة العرس في الخلوات لإذكاء نيران العشق، فتهيّجه في دعارة وهو كليل، حتى اذا استيقظت شهوته، أتاها كما يأتي الحيوان أنثاه.

وفتاتان من بنات العصر، لهما فهم خاص للتحرّر يعبثان بالفتيان تطمعانهم فيهما بما يشتهون، وتَطْعَمَان على نفقتهم في الفنادق الفاخرة، وفي الإبّان تتملصان فلا تفيان بما قد أوهمتا. حداثة أشباه رجال! فسولة ولا فحولة، أرهقتهم أعباء الحياة ووطأة النظام، ونساء خِفاف ما لهن عَفاف يُبحن وصالهن بسهولة. صور شتّى من أزمة مجتمع فقد قِبلتَه، فهام بلا آفاق.

فلم يكن حمّادي يرتاح إلا إلى عجوز تحت شجرة تبيع بعض البِضاعة يأتيها بالقهوة ويحدّثها وتحدّثه بلهجة من له محنة يخفيها. وسرّها ولداها من الإسلاميين، عطبت الشرطة الأصغر فلزم مأواهم قعيداً وفرّ الأكبر منهما وغاص في الخفاء وتعجب للعلوي يتجاسر رغم القمع الشديد على النظام يفضح ما يقترف في السجون من ألوان التعذيب مهانة بالإنسان. كَاتِبُ بَاسِلٌ وأَدَبٌ مُنَاضِلٌ.

وكلما تعرّت من النّاس لحمادي عورة، اشتد به الغيظ فدعا عليهم بالحريق ليشم لحمهم يشوى أو يدور على نفسه يعضُّ ذراعه من فرط النّقمة. أنذال أهانوه وأذلوه. وتنهال سعاد بالشتائم على المتنبي "كذّاب العرب" غرّهما بأشعاره.

هكذا هما من معرّة إلى معرّة من فادحة إلى أفدح وما تمّت القائمة ولا انتهى الكشف.

"لطيفة" خبير في الاقتصاد عاد من أميركا معجباً بها، وبعلمه يتباهى في المحاضرات للوجاهة. ينشط في الحزب الحاكم ويدّعي أنه عدو المال والنظام، ومن الداخل يقاوم لا من الخارج وهي عنده الوسيلة الأنجع. انتهازي يموّه وحاجّته سعاد في هزء فهتكت سترّه وريائه.

وآخر القائمة الفيلسوف. خرّيج الجامعات الألمانية يتحدث في الفلسفة لا يفارقه الغليون ونيتشه إمامه. مرفّه الحال، فاخر الأثاث، والكتب رفوف، أنيق اللباس رقيق الشمائل والقد ميّال، مخنّث لا يخفى على العيان حاله. فتجاهل له حمّادي عمداً وهو يعرف القضايا والأطروحات ليستدرجه بمكر إلى ما يفضح زيف مقاله. اثنان من المثقفين البارزين هما. وسيكون الفيلسوف سبباً في بلواه.

فإنما حمادي لسان العلوي في الرواية ولا يسعنا إلا أن نقر له بسعة المعارف في الاقتصاد والفلسفة والسياسة، وبقدرته الفائقة على الجدال والحجاج، وهي البطانة الفكرية في هذا النصّ الاجتماعي لا ينفصل فيه نقد الأحوال عن نقد الأفعال والأقوال.

وما زال حمادي يدعو بالحريق حتى شبّت النار بسيّارة النّقيب وهو فيها مع أسرته فالتهمتهم جميعاً. فإذا اللّحم فحم، فشمّ كما تمنى رائحة البشر تُشْوَى، وله في الكارثة دخل وإن أخفى الدليل. فخسر وسعاد الشّغل، ولم يبق لهما من مأوى إلا كالكهف، غرفة المتروكات في العمارة "جحر الضّب".

وفي ليلة والطقس أمطار تبللا فلجآ إلى شقّة الفيلسوف للتجفّف والتدفئ واغتسل حمادي في حمّامه، وخرج عارياً إلا من بشكير معقود على الخصر، فأثار عريه غُلمة الفيلسوف، همّ به يريده فتقهقر وهو يدفعه عنه، فوقع على قفاه وانقلبت طاولة وتكسّر زجاج وطارت شظيّة وارتشقت في إحليله فإذا هو بلا فحولة.

ذاك في النكد مصيره كما تحكي الرواية ينهض فيه ويكبو، بدأ عاشقاً فانتهى خصيّاً، وتقلّبت به في الأثناء الأطوار والأدوار من بغل إلى ثور إلى ضبّ في جحر. فكّر في تلك التي تركها لأمه ترعاها ياسمين الحبيبة، انتظرته طويلاً حتى بارت وبار. وعدها بالزواج وهو فحل وهي بيضاء فإذا الفحل عنين والحبيبة البيضاء رفيقة سوداء، وأن يكون خصيّ من جرّاء مخنّث لسخرية مرة وهي ختام الحكاية.

دنيا بلون السّواد مظلمة الأجواء والنفوس عليلة كليلة والواقع وباء ولا من صفاء ووفاء إلاّ ذات الوجه الصبيح عشيقة الصبى، ولا من ضياء ونقاء إلا العجوز أم الكسيح والشريد.

رواية عتيدة حافلة بالأشخاص جمّة الأحداث، فالعلوي أستاذ باحث في علم الاجتماع، بصير بأنواع الناس، خبير بالنفوس، ملم بالأحوال، وكاتب متمرّس بفنيات القصّ. تصرَّف في الزمان بالتقديم والتأخير، لاحقاً قبل سابق وسابقاً قبل لاحق، وفصّل النصّ فصولاً أزواجاً تخرج بنا في كل حين من موقف إلى موقف ومن حال إلى حال.

أسلوبه في السّرد متين كقوّة طبعه الجنوبي، والعبارة كفِكْرٍه، جريئة تسمّي الحقائق بأسمائها. الواقعية مذهبه، عارية بلا تنميق ولا تزويق، حادّة بلا تلطيف من توِرِية أو كِنَاية. وما حاجته إلى الملاينة فإنما غرضه التشهير لا الستر وكفاه من صدق إحساسه بخطورة الأوضاع واختناق النفوس، تنبؤه بالثورة قبل قيامها، فما أكثر ما دعا حمادي على الناس بالحريق حتى اندلع في الحقيقة بعد الخيال، وفي التاريخ لا التخريف كأنه إذا "دعا قال الدهر آمينا". وهل حمّادي إلا لسان الكاتب، قناعه في النص وترجمان أفكاره.

وها من الرواية طار إلى سيدي بوزيد شرار، وأكلت بوعزيزي النار، وامتد اللهب في البلاد، فطار "المنقذ" وانهار النظام وسادت بعد الاستبداد الحرّيات.


* باريس، في 24 شباط/ فبراير 2017

** آخر ما كتب الناقد التونسي الراحل كقراءة في رواية "جحر الضبّ" لـ نور الدين العلوي التي صدرت الشهر الماضي ضمن سلسلة "عيون المعاصرة" التي أنشأها بكّار.

المساهمون