01 فبراير 2019
من أجل ثورة ثقافية في المغرب
لا ينتمي المثقفان المغربيان، إسماعيل العلوي وحسن أوريد، إلى مدرسة سياسية واحدة، ولا إلى الجيل نفسه. قاد الأول الذي يمثل جيل الاستقلال الشيوعيين المغاربة بعد وفاة الرائد والمؤسس علي يعتة، ليترك أستاذ الجغرافيا، بعد ذلك، المسؤولية السياسية المباشرة التي كانت قد أوصلته إلى البرلمان وحكومة التناوب، حيث شغل مدة قصيرة منصب وزير للتعليم. ويمثل الثاني جيل ما بعد الحسن الثاني، فقد كان أول من شغل منصب ناطق رسمي باسم القصر الملكي الذي أحدث، في سياق انفتاح لافت للمؤسسة الملكية، بداية عهد الملك محمد السادس، قبل أن يتحمل مسؤولية إدارية وترابية، ثم منصب مؤرخ المملكة، ليغادر بعد ذلك مدارج السلطة، لينهمك في التدريس الجامعي والكتابة بشقيها الفكري والمتخيّل. لكنهما الاثنين، العلوي وأوريد، سيلتقيان، بشكل كبير، حول فكرة الثورة الثقافية، وحول أولوية الثقافي في مسارات الإصلاح والمواطنة والديمقراطية، من خلال كتابين أصدراهما أخيرا.
يتعلق الأمر بكتابي إسماعيل العلوي "النضال الديمقراطي في المغرب.. رهانات الماضي وأسئلة الحاضر"، وحسن أوريد "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب". يتخذ الأول (منشورات مركز الأزمنة الحديثة 2017)، صيغة حوار/ وثيقة، يلتقي القائد السياسي والأستاذ الجامعي والأمين العام السابق لحزب التقدم والاشتراكية، مباشرة مع مثقف ومهتم بالفكر والفلسفة، حول أسئلة وقضايا غير معتادة في السياقات اليومية للعمل السياسي. ويأخذ اللقاء شكل تواطؤ عميق بين المحاور والمحاور، على أخذ مسافة من الأحداث اليومية، ومن الزمن السياسي المباشر. وفي العمق، يقوم الكتاب/ الوثيقة على محاولة للتأريخ الثقافي للحياة السياسية المغربية، عبر قراءة ثقافية لأسئلة الذات (الوطن والحزب) على ضوء التاريخ، انطلاقا من لحظة إصلاحات اللحظات الأخيرة لما قبل الاستعمار، مرورا بمرحلة النضال الوطني، وصولا إلى لحظة مغرب ما بعد الاستقلال، وذلك كله على ضوء تحديات المستقبل.
ضمن هذا الحرص المنهجي، يسهب الأمين العام السابق للتقدم والاشتراكية، في التفكير حول قضايا اليسار، الحداثة، النهضة، الإصلاح، الديمقراطية، مع طرح مستمر وأفقي عابر
لكل العناوين السابقة، من خلال سؤالي التاريخ والمشروع الثقافي. ويقدم الكتاب/ الوثيقة، في باب استحضار مسار التجربة الشيوعية المغربية، عناصر أساسية لبناء سردية مغايرة للسردية المهيمنة في قراءة تاريخ الحركة الوطنية واليسار المغربي. ويوضح الحوار، بشكل كبير، الحرص الدقيق للزعيم السابق للشيوعيين المغاربة، على الاشتغال على المفاهيم، وشغفه بالتأصيل النظري والأيديولوجي والمعرفي للمفاهيم، خصوصا منها تلك التي أطّرت المخيال السياسي اليساري لحقبة السبعينيات (الثورة الوطنية الديمقراطية...)، على ضوء التحولات التي مسّت العالم والمعرفة.
يجعلنا هذا الأفق التحليلي والمنهجي، مباشرةً أمام محاولة في النقد الايديولوجي، للشعارات والأفكار والثقافة السياسية التي أطّرت الممارسة السياسية للمدرسة التنظيمية والفكرية التي رافقها مولاي إسماعيل العلوي، منذ بداية شبابه، وخلال كل محطات تدرجه في المسؤوليات النقابية والسياسية والبرلمانية والحكومية. ضمن هذا المشروع النقدي، تطرح أسئلة عميقة: ما هي الأصول الفكرية للحركة الوطنية المغربية؟ ما هي الأصول الفكرية والثقافية لليسار المغربي واتجاهه الشيوعي أساسا؟ كيف أثرت مسارات بلحسن الوزاني، المهدي بنبركة، عبدالله إبراهيم، علال الفاسي، على الفكرة السياسية المغربية؟ كيف يمكن قراءة التاريخ السياسي المغربي على ضوء مساهمات محمد عابد الجابري، عبدالله العروي، عبد الكبير الخطيبي؟
في هذا الكتاب/ الوثيقة، يحاور مثقف رجل سياسة. وفي الخلفية، يكاد الحوار يقتفي ظلال المفكر الاستثنائي، عبد الله العروي الذي يحضر في الحوار بقوة، من خلال نقاش أطروحته بشأن الأيديولوجيا العربية المعاصرة، وعن الدولة، ولكن أساسا من خلال مشروعه الثقافي ذي العلاقة مع استيعاب اللحظة الليبرالية. ولذلك يصلح الكتاب كذلك، مجازا، أن يقرأ محاورة بين وزير التعليم السابق وصاحب مفهوم الأدلوجة. وهو بذلك يدعونا إلى البحث عن تقاطعات الفكر والسياسة، وعن أثر مفكر مثل العروي في الثقافة السياسية المغربية، وفي مرجعيات اليسار. وقبل ذلك وبعده، يظل كتاب "النضال الديمقراطي في المغرب.. رهانات الماضي وأسئلة الحاضر" دفاعا عميقا وقويا على الثقافة، وعلى مشروع ثقافي جديد، بل وعلى ثورة ثقافية ضرورية، ثورة تنطلق من الإيمان الراسخ بفكرة الأولوية الحاسمة للثقافي في المسار الطويل والمعقد للولوج إلى زمن الحداثة.
الكتاب الثاني، الصادر حديثا والموسوم بعنوان أقرب إلى التعبير عن عناصر مرافعة مكتملة، ينكبّ حسن أوريد في أكثر من 340 صفحة، على قضية التربية، محللا أعطابها، ومشخصا أمراضها، ومقترحا بدائل وأفكارا كثيرة، بعمق لافت وبخلفية فكرية واضحة. وينطلق الكاتب والروائي المغربي من صرخة الفيلسوف الألماني فيختة: "فقدنا كل شيء، ولم يبق لنا إلا التربية". ومن العمل المرجعي للراحل محمد عابد الجابري "أضواء على مشكل التعليم بالمغرب"، ليقف على تحول الحديث المتكرّر عن الإصلاح، في حقل التربية والتعليم، إلى
مجرد مراسيم مبتذلة، راسما لوحة سوداء لواقع مخجل، حيث تسود المجتمع حالة من التردي، والانحلال الخلقي، والأنانية، وضمور الأخلاق وانتفاء المعنى، واللهاث وراء المادة، والعنف.
ينشغل صاحب "ربيع قرطبة" بالعلاقة بين التربية ومشروع بناء الأمة، بالعلاقة بين المدرسة والطموح الجماعي للمجتمع، بالعلاقة بين المصير المشترك محدّدا لتشكل الأمة ودور المدرسة في رعاية الإيمان بهذا المصير الوطني، ودور الدولة في احتضانه ودور النخبة في بعثه. ليجد أننا كثيرا ما حملنا المدرسة أكثر مما تحتمل، وأنها ستبقى، في النهاية، أسيرة للعجز والهشاشة، إن لم يكن لدينا طموح جماعي وقيم مشتركة تسري داخل شرايين المجتمع.
لذلك لا بد للمدرسة أن تكون، بالنسبة للناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي، جسرا لهذا الهدف المنشود، لا انعكاسا يحمل عيوب المجتمع واختلالاته، وهو ما يتطلب ثورة ثقافية تتحول فيها المدرسة إلى قاطرة تنقلنا من حالة "الوطن" إلى حالة "الأمة" المجسّدة للشخصية المغربية والضامنة للعيش المشترك والمشرئبة نحو المستقبل، والمنفتحة على المغامرة الإنسانية، بلا عقد ولا مركب نقص.
في هذا النص الممتع، المليء بالمحكيات الشخصية والمشاهدات والقراءات والتجارب، دعوة إلى مدرسةٍ تربي على القيم، قيمة المساواة، قيمة الحرية، قيمة التضامن. مدرسة لا تسقط في فخ خطاب الهويات، وتعلي من شعور الانتماء إلى الوطن، انتماءً يجب الانتماءات الضيقة، ويفتح الطريق نحو بناء الأمة.
في النهاية، هل يصح القول إن المرافعتين المتجاورتين دفاعا عن الثورة الثقافية، لكل من حسن أوريد واسماعيل العلوي، تعبران عن خلاصة مسارين اختبرا من داخل مركز الدولة ومسالك المشاركة الديمقراطية، مآزق الإصلاح السياسي وحدوده في المغرب، في غياب ما يسند السياسة داخل المجتمع، وفي غياب الأهم: الثقافة والقيم؟
يتعلق الأمر بكتابي إسماعيل العلوي "النضال الديمقراطي في المغرب.. رهانات الماضي وأسئلة الحاضر"، وحسن أوريد "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب". يتخذ الأول (منشورات مركز الأزمنة الحديثة 2017)، صيغة حوار/ وثيقة، يلتقي القائد السياسي والأستاذ الجامعي والأمين العام السابق لحزب التقدم والاشتراكية، مباشرة مع مثقف ومهتم بالفكر والفلسفة، حول أسئلة وقضايا غير معتادة في السياقات اليومية للعمل السياسي. ويأخذ اللقاء شكل تواطؤ عميق بين المحاور والمحاور، على أخذ مسافة من الأحداث اليومية، ومن الزمن السياسي المباشر. وفي العمق، يقوم الكتاب/ الوثيقة على محاولة للتأريخ الثقافي للحياة السياسية المغربية، عبر قراءة ثقافية لأسئلة الذات (الوطن والحزب) على ضوء التاريخ، انطلاقا من لحظة إصلاحات اللحظات الأخيرة لما قبل الاستعمار، مرورا بمرحلة النضال الوطني، وصولا إلى لحظة مغرب ما بعد الاستقلال، وذلك كله على ضوء تحديات المستقبل.
ضمن هذا الحرص المنهجي، يسهب الأمين العام السابق للتقدم والاشتراكية، في التفكير حول قضايا اليسار، الحداثة، النهضة، الإصلاح، الديمقراطية، مع طرح مستمر وأفقي عابر
يجعلنا هذا الأفق التحليلي والمنهجي، مباشرةً أمام محاولة في النقد الايديولوجي، للشعارات والأفكار والثقافة السياسية التي أطّرت الممارسة السياسية للمدرسة التنظيمية والفكرية التي رافقها مولاي إسماعيل العلوي، منذ بداية شبابه، وخلال كل محطات تدرجه في المسؤوليات النقابية والسياسية والبرلمانية والحكومية. ضمن هذا المشروع النقدي، تطرح أسئلة عميقة: ما هي الأصول الفكرية للحركة الوطنية المغربية؟ ما هي الأصول الفكرية والثقافية لليسار المغربي واتجاهه الشيوعي أساسا؟ كيف أثرت مسارات بلحسن الوزاني، المهدي بنبركة، عبدالله إبراهيم، علال الفاسي، على الفكرة السياسية المغربية؟ كيف يمكن قراءة التاريخ السياسي المغربي على ضوء مساهمات محمد عابد الجابري، عبدالله العروي، عبد الكبير الخطيبي؟
في هذا الكتاب/ الوثيقة، يحاور مثقف رجل سياسة. وفي الخلفية، يكاد الحوار يقتفي ظلال المفكر الاستثنائي، عبد الله العروي الذي يحضر في الحوار بقوة، من خلال نقاش أطروحته بشأن الأيديولوجيا العربية المعاصرة، وعن الدولة، ولكن أساسا من خلال مشروعه الثقافي ذي العلاقة مع استيعاب اللحظة الليبرالية. ولذلك يصلح الكتاب كذلك، مجازا، أن يقرأ محاورة بين وزير التعليم السابق وصاحب مفهوم الأدلوجة. وهو بذلك يدعونا إلى البحث عن تقاطعات الفكر والسياسة، وعن أثر مفكر مثل العروي في الثقافة السياسية المغربية، وفي مرجعيات اليسار. وقبل ذلك وبعده، يظل كتاب "النضال الديمقراطي في المغرب.. رهانات الماضي وأسئلة الحاضر" دفاعا عميقا وقويا على الثقافة، وعلى مشروع ثقافي جديد، بل وعلى ثورة ثقافية ضرورية، ثورة تنطلق من الإيمان الراسخ بفكرة الأولوية الحاسمة للثقافي في المسار الطويل والمعقد للولوج إلى زمن الحداثة.
الكتاب الثاني، الصادر حديثا والموسوم بعنوان أقرب إلى التعبير عن عناصر مرافعة مكتملة، ينكبّ حسن أوريد في أكثر من 340 صفحة، على قضية التربية، محللا أعطابها، ومشخصا أمراضها، ومقترحا بدائل وأفكارا كثيرة، بعمق لافت وبخلفية فكرية واضحة. وينطلق الكاتب والروائي المغربي من صرخة الفيلسوف الألماني فيختة: "فقدنا كل شيء، ولم يبق لنا إلا التربية". ومن العمل المرجعي للراحل محمد عابد الجابري "أضواء على مشكل التعليم بالمغرب"، ليقف على تحول الحديث المتكرّر عن الإصلاح، في حقل التربية والتعليم، إلى
ينشغل صاحب "ربيع قرطبة" بالعلاقة بين التربية ومشروع بناء الأمة، بالعلاقة بين المدرسة والطموح الجماعي للمجتمع، بالعلاقة بين المصير المشترك محدّدا لتشكل الأمة ودور المدرسة في رعاية الإيمان بهذا المصير الوطني، ودور الدولة في احتضانه ودور النخبة في بعثه. ليجد أننا كثيرا ما حملنا المدرسة أكثر مما تحتمل، وأنها ستبقى، في النهاية، أسيرة للعجز والهشاشة، إن لم يكن لدينا طموح جماعي وقيم مشتركة تسري داخل شرايين المجتمع.
لذلك لا بد للمدرسة أن تكون، بالنسبة للناطق الرسمي السابق باسم القصر الملكي، جسرا لهذا الهدف المنشود، لا انعكاسا يحمل عيوب المجتمع واختلالاته، وهو ما يتطلب ثورة ثقافية تتحول فيها المدرسة إلى قاطرة تنقلنا من حالة "الوطن" إلى حالة "الأمة" المجسّدة للشخصية المغربية والضامنة للعيش المشترك والمشرئبة نحو المستقبل، والمنفتحة على المغامرة الإنسانية، بلا عقد ولا مركب نقص.
في هذا النص الممتع، المليء بالمحكيات الشخصية والمشاهدات والقراءات والتجارب، دعوة إلى مدرسةٍ تربي على القيم، قيمة المساواة، قيمة الحرية، قيمة التضامن. مدرسة لا تسقط في فخ خطاب الهويات، وتعلي من شعور الانتماء إلى الوطن، انتماءً يجب الانتماءات الضيقة، ويفتح الطريق نحو بناء الأمة.
في النهاية، هل يصح القول إن المرافعتين المتجاورتين دفاعا عن الثورة الثقافية، لكل من حسن أوريد واسماعيل العلوي، تعبران عن خلاصة مسارين اختبرا من داخل مركز الدولة ومسالك المشاركة الديمقراطية، مآزق الإصلاح السياسي وحدوده في المغرب، في غياب ما يسند السياسة داخل المجتمع، وفي غياب الأهم: الثقافة والقيم؟