يحق للفن العربي المعاصر أن يزهو بأسماء من قبيل منير الفاطمي، هذا الشاب المتمرد الذي عرف باكرا كي يرحل عن الفضاء الضيق الذي تمكن منه اللوحة (مهما كبرت واتسعت جغرافيتها)، كي يرتاد آفاقا جديدة متحولة باستمرار تسمح له بطرْق كافة الموضوعات القريبة إلى فكره ووجدانه. إنه الرجل الذي استطاع أن يحقق حلم الكثير من الفنانين العرب الحديثين الذين راوحوا بين تجربة اللوحة وإحْراج الخروج منها، كشاكر حسن وفريد بلكاهية ومحمد القاسمي وغيرهم...
هو فنان المفارقات بامتياز، يتصيّدها حيثما كانت ويبنيها وفْقا لما يبتغي نقده. وهو لذلك فنان نقّاد، لا يني يعرّي عورة الأب السياسي (كما يقول بارث) كما الأب اللاهوتي، مبحرا باستمرار بحثا عن المفارقات المتشابكة التي تشكل شرنقة الوجود الراهن. فمنذ أن قام، في أواسط التسعينيات، في منجزة مشهودة بحرق أعماله التشكيلية الأولى (التي لا تزال بعضها تظهر بين الحين والآخر في المزادات ودور البيع)، تعبيرا منه عن الدخول الحاسم في ما بعد الحداثة الفنية، ألفينا الرجل يخط له مسارا بحثيا يبني تفاصيله ومضامينه ومؤدياته بشكل دقيق وفْقا لرؤية تتوضّح من معرض لآخر ومن منشأة بصرية لأخرى.
منير الفاطمي من طينة الأسماء العالمية الكبرى التي تتعامل مع الفن ومع الواقع بلا هوادة. يملك قدرة خلاقة على رمينا في لجّة المشاكل الكبرى الراهنة التي تؤرق مضجعه برؤية ذاتية لا تني تتجدّد. يلاحق تلك التحولات كأنه لها بالمرصاد، ويجدّد فيها النظر، مانحا لمفهوم الفن المعاصر كامل امتداداته الأخطبوطية، باعتباره فنا من أجل الذات والواقع والعالم والإنسان. لهذا، وفي ظرف عقدين من الزمن ألفينا هذا الفنان الرحال يراكم التجربة تلو الأخرى، مستغلا كافة الوسائط التي تمنحها له الممارسة الفنية المعاصرة، من تشكيل وفوتوغرافيا وفيديو وفضاء وكيان جسدي شخصي.
في معرضه الحالي الذي تحتضنه مدينة مراكش هذه الأيام، نعيش مع منير الفاطمي بناء الهوية البشرية بشكل جديد، من خلال منشآت فوتوغرافية تفكك المتناقضات وتلعب على المفارقات وتركب المختلف، كما من خلال فيديوهات تبني وتحكي في الآن نفسه. استوقفتني في المعرض الطريقة التي بها يناهض الفنان العنصرية، من خلال تحويل بورتريه رجل أبيض (هوارد
غريفين، الرجل الأبيض الذي كان يناهض العنصرية بشكل مبكر في أميركا)، عبر تلاوين تحويلية متوالية إلى بورتريه رجل أسود. فاستحضرت حينها مقولة هايدغر بأن الشيء الشبيه ليس هو الأصل... وكأننا بالفنان قرأ جيدا جيل دولوز تلميذ هايدغر في كتابته المرجعية عن التكرار الذي يولّد الاختلاف من خلال الانزياح المتوالي واللانهائي...
هذا المعرض درس في التركيب والتوليف، الذي صار الفنان أحد المتخصصين فيه بلا منازع، وبالكثير من الخيال والأكثر من الانفتاح الفكري والعمق الأنطولوجي. وهو يطور تحولات انفتاحية دأب الفنان على القيام بها منذ مدة. يتعلق الأمر بتوفير فضاء حرّ يمارس فيه الفنان بمعية الجمهور أسئلته المشاكسة. هنا كان السؤال البسيط العميق والأولي هو: ما هو الفن؟ وهكذا يغدو المتفرج مطالبا بشكل ضمني بالمساهمة لا فقط في تأثيث الفضاء بكتاباته وأجوبته وإنما أيضا بصياغة لوحة جماعية يترك فيه المارون كلهم أثرا من آثارهم. إنها اللعبة التي تشكل موضوع المنشأة التي أتاح لي عرضها في السنة الماضية في متحف بنك المغرب، في المعرض الذي خصصته للفن المعاصر. وهي تتشكل من سبورة قديمة سوداء بكافة مكوناتها أثبت في بعض جوانبها مصابيح طويلة كتب عليها بعض عباراته المسائلة. ووضع الطباشير والممسحة كي يمكّن الجمهور من الكتابة باللغة التي يريد، مساهما بذلك في تحويل هذه اللوحة إلى لوح محفوظ يسجل سيولة التواصل الكوني.
في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حضرت لافتتاح معرض برواق فني جديد في سيدي بوسعيد بتونس شارك فيه منير الفاطمي (والفنانة المرحومة الشابة ليلى العلوي) بمنشأة من اللوحات التركيبية المدهشة. فلقد استطاع الفنان المزاوجة في لويْحاته بين أغلفة المجلات المعروفة بالفرنسية والإنجليزية، كالفيغارو والتايمز ولونوفيل أوبسرفاتور وغيرها، وبين اللوحات الإشهارية. إنها منشأة ساخرة ومدروسة بعناية فائقة وتتلاعب بالمدلولات الظاهرة والباطنة للإعلام السياسي، وتمنحنا درسا في القراءة المواربة للمشهد السياسي المعاصر.
وللفاطمي عشق كبير للسياسة. إنه عشق تحليلي، يمنح للفن المعاصر هوية جديدة قلما استطاع الفن الحديث (عدا الفن الغرافي والنحت) أن يتنطع لها في شموليتها وتعقدها وتحولاتها اللامتناهية. فقد أثارت منشأته النقدية عن الربيع العربي (الربيع الضائع) حين عرضها في أحد متاحف الخليج الكثير من النقاش، ما جعلها تُمنع من العرض. وفيها كانت نظرته واضحة لتلك التحولات. كما أن نظرته السياسية تتبدى في إمساكه بهذه المنعرجات نفسها التي تجعل الأشياء تصير تكنولوجيا منتهية الصلاحية، أي جثثا أفناها الزمن كالكاسيت فيديو التي عوضتها الأقراص، فيجعل منها الفنان منشأة فنية مسترسلة الأوصال تعوي بالذاكرة الميتة.
"لست أرغب في الجذور، أنا بحاجة إلى ذاكرة". هذه الجملة تغدو أشبه بشعار استراتيجي إبداعي لدى الفنان، يسير به كي يستعيد جسده ورأسه ولغته. وقد كان منير الفاطمي وراء تحيين اللغة العربية ضمن مشروع كبير يحاور فيه الديانة والتديّن وعنف اللغة. وهذه الاستعادة الذكية والناقدة تبدو وكأنها تحرر اللغة من مدار الحروفية المستهلك وتجرها لعلاقاتها العميقة بكيان الإنسان. وهكذا من منحوتة شعار قناة الجزيرة إلى "الأزمنة الحديثة"، صارت اللغة العربية تسكن الدماغ وتنطبع أو تنحفر على دوائر منشارية تتحول إلى آلة منتجة لحروف تتراكم كما لو كان يعوزها المعنى.
إذا كان من الصعب الإحاطة بهذه التجربة الغنية، فمن الممكن تعيين ثوابتها المتحولة. وهي تتمثل بالأساس في تعددية الأسندة التعبيرية وتعدد المنظور والانتقالات التراكمية. وبذلك، إذا كان الكثير من الفنانين الشباب المعاصرين يثيرون السؤال حول جدوى الفن المعاصر وتقنياته وأساليبه، فإن تجربة منير الفاطمي تضع في الواجهة كل ما يشكل قوة هذا الفن وقدراته اللامحدودة ووعيه التدخلي المباشر في الحدث. ولا أدل على ذلك من متابعة المسير الذي انتهجه الفنان من أواخر التسعينيات، والذي يُبين عن نقد سياسي عميق لهيمنة المخابرات الأميركية، كما لقوة وهشاشة الربيع العربي، وللهجانة الهمجية للتكنولوجيا، كما للعديد من القضايا، كالعنصرية، والتفاوتات التي خلقها البترول... إنه مسير لا يزال حافلا بالأسئلة النابضة والأجوبة الحارقة...
هو فنان المفارقات بامتياز، يتصيّدها حيثما كانت ويبنيها وفْقا لما يبتغي نقده. وهو لذلك فنان نقّاد، لا يني يعرّي عورة الأب السياسي (كما يقول بارث) كما الأب اللاهوتي، مبحرا باستمرار بحثا عن المفارقات المتشابكة التي تشكل شرنقة الوجود الراهن. فمنذ أن قام، في أواسط التسعينيات، في منجزة مشهودة بحرق أعماله التشكيلية الأولى (التي لا تزال بعضها تظهر بين الحين والآخر في المزادات ودور البيع)، تعبيرا منه عن الدخول الحاسم في ما بعد الحداثة الفنية، ألفينا الرجل يخط له مسارا بحثيا يبني تفاصيله ومضامينه ومؤدياته بشكل دقيق وفْقا لرؤية تتوضّح من معرض لآخر ومن منشأة بصرية لأخرى.
منير الفاطمي من طينة الأسماء العالمية الكبرى التي تتعامل مع الفن ومع الواقع بلا هوادة. يملك قدرة خلاقة على رمينا في لجّة المشاكل الكبرى الراهنة التي تؤرق مضجعه برؤية ذاتية لا تني تتجدّد. يلاحق تلك التحولات كأنه لها بالمرصاد، ويجدّد فيها النظر، مانحا لمفهوم الفن المعاصر كامل امتداداته الأخطبوطية، باعتباره فنا من أجل الذات والواقع والعالم والإنسان. لهذا، وفي ظرف عقدين من الزمن ألفينا هذا الفنان الرحال يراكم التجربة تلو الأخرى، مستغلا كافة الوسائط التي تمنحها له الممارسة الفنية المعاصرة، من تشكيل وفوتوغرافيا وفيديو وفضاء وكيان جسدي شخصي.
في معرضه الحالي الذي تحتضنه مدينة مراكش هذه الأيام، نعيش مع منير الفاطمي بناء الهوية البشرية بشكل جديد، من خلال منشآت فوتوغرافية تفكك المتناقضات وتلعب على المفارقات وتركب المختلف، كما من خلال فيديوهات تبني وتحكي في الآن نفسه. استوقفتني في المعرض الطريقة التي بها يناهض الفنان العنصرية، من خلال تحويل بورتريه رجل أبيض (هوارد
هذا المعرض درس في التركيب والتوليف، الذي صار الفنان أحد المتخصصين فيه بلا منازع، وبالكثير من الخيال والأكثر من الانفتاح الفكري والعمق الأنطولوجي. وهو يطور تحولات انفتاحية دأب الفنان على القيام بها منذ مدة. يتعلق الأمر بتوفير فضاء حرّ يمارس فيه الفنان بمعية الجمهور أسئلته المشاكسة. هنا كان السؤال البسيط العميق والأولي هو: ما هو الفن؟ وهكذا يغدو المتفرج مطالبا بشكل ضمني بالمساهمة لا فقط في تأثيث الفضاء بكتاباته وأجوبته وإنما أيضا بصياغة لوحة جماعية يترك فيه المارون كلهم أثرا من آثارهم. إنها اللعبة التي تشكل موضوع المنشأة التي أتاح لي عرضها في السنة الماضية في متحف بنك المغرب، في المعرض الذي خصصته للفن المعاصر. وهي تتشكل من سبورة قديمة سوداء بكافة مكوناتها أثبت في بعض جوانبها مصابيح طويلة كتب عليها بعض عباراته المسائلة. ووضع الطباشير والممسحة كي يمكّن الجمهور من الكتابة باللغة التي يريد، مساهما بذلك في تحويل هذه اللوحة إلى لوح محفوظ يسجل سيولة التواصل الكوني.
في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حضرت لافتتاح معرض برواق فني جديد في سيدي بوسعيد بتونس شارك فيه منير الفاطمي (والفنانة المرحومة الشابة ليلى العلوي) بمنشأة من اللوحات التركيبية المدهشة. فلقد استطاع الفنان المزاوجة في لويْحاته بين أغلفة المجلات المعروفة بالفرنسية والإنجليزية، كالفيغارو والتايمز ولونوفيل أوبسرفاتور وغيرها، وبين اللوحات الإشهارية. إنها منشأة ساخرة ومدروسة بعناية فائقة وتتلاعب بالمدلولات الظاهرة والباطنة للإعلام السياسي، وتمنحنا درسا في القراءة المواربة للمشهد السياسي المعاصر.
وللفاطمي عشق كبير للسياسة. إنه عشق تحليلي، يمنح للفن المعاصر هوية جديدة قلما استطاع الفن الحديث (عدا الفن الغرافي والنحت) أن يتنطع لها في شموليتها وتعقدها وتحولاتها اللامتناهية. فقد أثارت منشأته النقدية عن الربيع العربي (الربيع الضائع) حين عرضها في أحد متاحف الخليج الكثير من النقاش، ما جعلها تُمنع من العرض. وفيها كانت نظرته واضحة لتلك التحولات. كما أن نظرته السياسية تتبدى في إمساكه بهذه المنعرجات نفسها التي تجعل الأشياء تصير تكنولوجيا منتهية الصلاحية، أي جثثا أفناها الزمن كالكاسيت فيديو التي عوضتها الأقراص، فيجعل منها الفنان منشأة فنية مسترسلة الأوصال تعوي بالذاكرة الميتة.
"لست أرغب في الجذور، أنا بحاجة إلى ذاكرة". هذه الجملة تغدو أشبه بشعار استراتيجي إبداعي لدى الفنان، يسير به كي يستعيد جسده ورأسه ولغته. وقد كان منير الفاطمي وراء تحيين اللغة العربية ضمن مشروع كبير يحاور فيه الديانة والتديّن وعنف اللغة. وهذه الاستعادة الذكية والناقدة تبدو وكأنها تحرر اللغة من مدار الحروفية المستهلك وتجرها لعلاقاتها العميقة بكيان الإنسان. وهكذا من منحوتة شعار قناة الجزيرة إلى "الأزمنة الحديثة"، صارت اللغة العربية تسكن الدماغ وتنطبع أو تنحفر على دوائر منشارية تتحول إلى آلة منتجة لحروف تتراكم كما لو كان يعوزها المعنى.
إذا كان من الصعب الإحاطة بهذه التجربة الغنية، فمن الممكن تعيين ثوابتها المتحولة. وهي تتمثل بالأساس في تعددية الأسندة التعبيرية وتعدد المنظور والانتقالات التراكمية. وبذلك، إذا كان الكثير من الفنانين الشباب المعاصرين يثيرون السؤال حول جدوى الفن المعاصر وتقنياته وأساليبه، فإن تجربة منير الفاطمي تضع في الواجهة كل ما يشكل قوة هذا الفن وقدراته اللامحدودة ووعيه التدخلي المباشر في الحدث. ولا أدل على ذلك من متابعة المسير الذي انتهجه الفنان من أواخر التسعينيات، والذي يُبين عن نقد سياسي عميق لهيمنة المخابرات الأميركية، كما لقوة وهشاشة الربيع العربي، وللهجانة الهمجية للتكنولوجيا، كما للعديد من القضايا، كالعنصرية، والتفاوتات التي خلقها البترول... إنه مسير لا يزال حافلا بالأسئلة النابضة والأجوبة الحارقة...