"تُفرض الخدمة العسكرية على كل مصري من الذكور أتم الثامنة عشرة من عمره" من نص المادة الأولى من الباب الأول للقانون رقم 127 لسنة 1980 المتعلق بالخدمة العسكرية والوطنية، الذي يمثل أحد أسوأ كوابيس الشباب المصري على الإطلاق، فكل ما قبل فترة التجنيد وما بعدها يمكن التعامل معه، بخلافها هي؛ فلا عقل ولا منطق ولا اعتبار لظروف "العبد" المسمى بالمجنّد.
قضية التجنيد الإلزامي من الأمور المختلف في التعاطي معها من دولة لأخرى، وربما لا تمثل الإلزامية بحد ذاتها إشكالا، فالإشكال متعلق بما يتم أثناء تلك الفترة.
إذا كنت حاملا لمؤهل عالٍ ففترة تجنيدك تصير لمدة عام، إلا أنك من المغضوب عليهم دائما، فبمنطقهم أنتَ تسأل وتحاول الفهم، وهو أمر غير مطلوب، وربما كان ذلك متعلقا بطبائعهم النافرة من التفكير، ثم تأتي النظرة الثانية، وهي أنك من شباب الـ "فيسبوك" وأنك من هؤلاء "العيال الصيّع" الذين يتظاهرون، ويقال بكل صراحة "انتوا مطلعين ..... برا الجيش، وهنا هناخد حقنا منكم بالميري" وهي كلمة تتكرر في أكثر من محافظة فيما يسمى بالتلقين الأمني، فلا يمكن حملها على أنها سلوك ضابط بكتيبة أو وحدة أو قطاع بأكمله، بل هو مذهب وقناعة.
التلقين الأمني من بعد 30 يونيو/حزيران أصبح يحمل تساؤلات مثل:
• هل شاركت في "أحداث" يناير 2011؟
• هل شاركت في أحداث محمد محمود؟
• هل شاركت في اعتصام رابعة العدوية؟
• هل أصبت في أي من أحداث الاحتجاجات؟
• هل ترى أن الجيش حمى الثورة؟
• هل استجاب الجيش للنداء الشعبي؟
كل تلك الأسئلة تجيب عليها مرفقا اسمك الرباعي والرقم القومي، في أحدث وسائل الاستفتاءات لتحقيق الشفافية في الإجابة، وإذا حملت الإجابة إيجاباً بالمشاركة، فمصيرك أن تذهب إلى ج 75 وهو المكان الأكثر رعبا داخل المخابرات الحربية، ولا يخرج أحد منه على قدميه كما يقال للذاهب إليه.
الملاحظ أن المؤسسة التي تزعم أنها حمت الثورة، تعتبرها "أحداثا" لا ثورة شعبية، بل إن الأمر يتجاوز ذلك بمدح مبارك عند بعض القيادات بشكل علني وكذا الاحتفاظ بكلماته على أسوار تلك الوحدات، أما أي ثناء على مرسي - باعتباره رئيساً أيضاً وإن قامت عليه ثورة - فلن تكون عاقبته حسنة أبداً.
فترة التجنيد ترى بها انتهاكات لا حصر لها، بدءاً من دخول مركز التجنيد إلى أن يتم استلام شهادة النجاة من الجحيم الإجباري، منها مثلا عدم مراعاة الذين تزوجوا ولديهم أولاد، واستمارات التقديم الأولى بهذه البيانات، ولا يكاد يبدو معلوماً ما الذي سيضير الوطن لو ترك الذين يعولون أبناءهم دون تجنيد وأعفاهم؟ كان بعض أصدقائنا يهاتف أبناءه ويبكي لبكائهم لعدم قدرته على الوفاء بالتزاماته كرجل، لا يملك سوى بضع عشرات من الجنيهات، هي إجمالي ما يُدفع له من راتب، ولا تتم مراعاة ظروفه بالسماح له بوقت للعمل أو غير ذلك مما قد يخفف معاناته، حينها فقط تدرك معنى قول النبي "وأعوذ بك من قهر الرجال".
كل قائد صاحب أمر ونهي بحسب مستوى قيادته، وكل مرؤوسيه يخضعون لسلطاته غير المحدودة، إلا أن يكون هناك من يرقب ربه في رتبة أعلى، تلك الحالة السائلة من عدم وجود قوانين "دون ثغرات" أحالت الأوضاع داخل الوحدات لإيجاد سلطات هائلة مقابل ضعف كامل، وإذا تململت فالقانون يكفي لسحقك.
الحياة العسكرية ليست قاسية بقدر ما هي ظالمة، فالقسوة مقبولة إذا كانت لغاية، أما إذا كانت تخضع لهوى المتحكم فهي عين الظلم، وما من مفرخة لتوليد الغضب ضد المؤسسة العسكرية أكثر قدرة على تناميه من المؤسسة نفسها بممارساتها وقوانينها، وعدم مراعاتها الأحوال والإرادة الشعبية.
إن إصلاح أحوال المؤسسة في شتى الجوانب بدءاً من عزلها عن الوظيفة السياسية وانتهاء بأحوال المجندين لا الضباط فحسب، جزء هام من عملية النهضة الكلية لهذا الوطن، الذي لا يزال أفراده "لم يجدوا من يحنو عليهم".
(مصر)