01 فبراير 2019
ملك المغرب وأسئلة الواقع
وسط ترقب شعبي واسع في المغرب، ألقى الملك محمد السادس خطاب العرش. وقد غذّت عناصرَ الترقب الشديد تطلعاتٌ معلنةٌ لرأي عام مغربي، يتطلع إلى مخرج سياسي مأمول لمتتاليات سياق عام مطبوع بالتردّد والانتظارية، وبأثر المعالجات القضائية للحراك الاجتماعي الذي شهدته منذ سنتين مناطق متفرّقة من البلاد. ولذلك، لم يكن خطاب الأحد الماضي هو فقط النص الذي يلقيه الملك في محطة مركزية ضمن يوميات الزمن السياسي الرسمي، عادة ما تخصص لاستعراض حصيلة السياسة العامة وعناصر تشخيص المستقبل، بل كان كذلك ما أحاط هذا الخطاب من رموز وإشارات، وما تلاه من إجراءات وتدابير.
في تفصيل ذلك، لا بد من التقاط دلالات المكان، إذ لأول مرة سيلقى خطاب العرش من قلب مدينة الحسيمة التي شكلت، منذ سنتين، بؤرةً للاحتجاج الاجتماعي، وهو ما تمت قراءته تغليبا حكيما واستئنافا ضروريا لمنطق المصالحة في تدبير علاقة المركز والسلطة في منطقةٍ تحمل في ذاكرتها جراحا وندوبا كثيرة. ويفرض تحليل العناصر الموازية للخطاب كذلك الوقوف على كثافةٍ في الأجندة السياسية السابقة واللاحقة لزمن الخطاب، إذ فضلا عن الترتيبات المراسيمية التقليدية التي تسم الاحتفالية الرسمية لعيد العرش، نقلت وسائل الإعلام أخبارا عن ترؤس الملك محمد السادس اجتماعا خُصّص لتفعيل التدابير التي تضمنها خطاب العرش، بحضور رئيس الحكومة والوزراء المعنيين. وإذا كان "اجتماع التفعيل" قد عُقد بعيد الخطاب، فإن استقبالات مهمةً كانت قد جرت قبيله، أساسا والي بنك المغرب ورئيس المجلس الأعلى للحسابات.
دلالة هذه الكثافة لا تخطئها عين المراقب خصوصا في علاقةٍ مباشرةٍ بمضمون الخطاب، ذلك أن الأمر يحيل على ما سيسميه بيان للديوان الملكي، صدر في أعقاب "اجتماع التفعيل"
المذكور، "منهجية جديدة، تقوم على الرفع من وتيرة الإنجاز وعلى الجدية والالتزام في العمل، مع تحديد مواعيد دورية لتقديم النتائج الملموسة"، وحرصا على المتابعة الملكية الشخصية للأعمال المتعلقة بالورش المعلنة في الخطاب. وفي تحليل مضمون المتن الذي توجد بؤرته البلاغية المركزية في عبارة "شيءٌ ما ينقصنا"، دلالة على العجز الاجتماعي، يحفل الخطاب بتدابير ومبادرات عملية عديدة، على صعيدي القضية الاجتماعية ودعم الاستثمار، منها:
إعطاء دفعة قوية لبرامج دعم التمدرس، ومحاربة الهدر المدرسي، ابتداء من الدخول الدراسي المقبل. إطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتعزيز مكاسبها، وإعادة توجيه برامجها للنهوض بالرأسمال البشري للأجيال الصاعدة. تصحيح الاختلالات التي يعرفها تنفيذ برنامج التغطية الصحية، بموازاةٍ إعادة النظر، جذريا، في المنظومة الوطنية للصحة. الإسراع بإنجاح الحوار الاجتماعي، ودعوة مختلف الفرقاء إلى بلورة ميثاق اجتماعي متوازن ومستدام. إصدار ميثاق اللاتمركز الإداري، داخل أجلٍ لا يتعدى نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، بما يتيح للمسؤولين المحليين اتخاذ القرارات اللازمة للتنمية. الإسراع بإخراج الميثاق الجديد للاستثمار، وبتفعيل إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار، وتمكينها من الصلاحيات اللازمة للقيام بدورها. اعتماد نصوص قانونية، تنص على تسريع (وتبسيط) تفاعل الإدارات مع الرد على الطلبات المتعلقة بالاستثمار.
في العمق، إذاً، تقدّم الملكية جوابا اجتماعيا عن أسئلة المرحلة، وهو ما يعني أنها تنتصر لتأويل للوقائع والأحداث، لا ينحاز، في عنوانه العريض، إلى ما ظلت تردّد أطياف مختلفة من الفاعلين أنه أزمة في السياسة. وفي مقابل مفردات الأزمة، يحفل خطاب العرش بخلفيةٍ عامةٍ، تحيل على تاريخ طويل من القدرة على التعايش مع "المراحل الصعبة" و"التهديدات" و"التحديات" و"تقلبات الظروف"، وهو ما يجعل من معالجة الاختلالات ومواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية جزءا عاديا من حياة سياسية طبيعية.
وتسمح هذه الخلفية بتنسيب النظر إلى القضايا موضوع النقاش العمومي، وبتجاوز المقاربات الدراماتيكية المنتجة حولها، وهو ما يشكل واحدة من استراتيجيات خطابٍ يريد الطمأنة، وبث مضامين الثقة داخل محيطٍ تتقاذفه خطابات اللايقين. وفي المضمون، يبصم خطاب العرش على انزياح ملحوظ من سجل النقد القاسي، ليعود إلى سجل التوجيه والتأطير. ويقود التفكير في
فرضيات هذا الانزياح إلى التساؤل عمّا إذا كان يستبطن تقديرا ملكيا لفشل باقي الفاعلين في النهوض بمسؤولياتهم، واستعادة لزمام المبادرة في المستويات الاستراتيجية والتنفيذية؟
توجيه الحكومة والبرلمان، وتأطير الفعل العمومي وإعادة تأطيره، ورسم أجندة السياسات الاجتماعية والاقتصادية ذات الأولوية. ولكن، كذلك الإعلان عن تدابير بنفس إجرائي، وبأفقٍ زمني قصير، وبأهداف وغايات واضحة. إنه تثبيت لموقع المؤسسة الملكية، مشرفة على الزمن الإستراتيجي، بل وقائدة فعلية للعمل التنفيذي، حيث لن يعني التخلي الإرادي للحكومة عن مساحاتها الدستورية، أو عجزها الذاتي، عن ممارسة صلاحياتها، ترسيما للفراغ. وفي المعنى نفسه، يعيد خطاب العرش تعريف قضية الدعم الاجتماعي، باعتباره مشروعا اجتماعيا استراتيجيا أكبر من أن يبقى رهينا للزمن الانتخابي القصير والمتقلب.
يتقمص خطاب العرش ملامح نص حول السياسات العمومية، إذ يتضمن حزمة من الإجراءات ذات الصيغة الاستعجالية المقترنة بآجال التنفيذ، في ميادين موزعة بين دعم التمدرس والتغطية الصحية والدعم الاجتماعي والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية والاستثمار، ويضع أمام السياسة الحكومية غايات وأهدافا تهمّ منظومة الحماية الاجتماعية وأسسا لتعاقد اجتماعي جديد. ولكن، وراء سطور المتن تكمن رؤية جديدة/ قديمة لملكيةٍ أكثر انخراطا في التدبير العمومي، تنطلق من مدخل الإشراف الاستراتيجي وصلاحية تحديد السياسة العامة، لكي تصل إلى مشارف التتبع الإجرائي والتنفيذي للسياسات، مستندة إلى مفارقة توازي الطلب الواسع على الدولة الاجتماعية المتدخلة، مع "الزهد" الإرادي لباقي المؤسسات في مباشرة اختصاصاتها، وتراكم مظاهر هشاشة عامة في التدبير الحكومي.
في تفصيل ذلك، لا بد من التقاط دلالات المكان، إذ لأول مرة سيلقى خطاب العرش من قلب مدينة الحسيمة التي شكلت، منذ سنتين، بؤرةً للاحتجاج الاجتماعي، وهو ما تمت قراءته تغليبا حكيما واستئنافا ضروريا لمنطق المصالحة في تدبير علاقة المركز والسلطة في منطقةٍ تحمل في ذاكرتها جراحا وندوبا كثيرة. ويفرض تحليل العناصر الموازية للخطاب كذلك الوقوف على كثافةٍ في الأجندة السياسية السابقة واللاحقة لزمن الخطاب، إذ فضلا عن الترتيبات المراسيمية التقليدية التي تسم الاحتفالية الرسمية لعيد العرش، نقلت وسائل الإعلام أخبارا عن ترؤس الملك محمد السادس اجتماعا خُصّص لتفعيل التدابير التي تضمنها خطاب العرش، بحضور رئيس الحكومة والوزراء المعنيين. وإذا كان "اجتماع التفعيل" قد عُقد بعيد الخطاب، فإن استقبالات مهمةً كانت قد جرت قبيله، أساسا والي بنك المغرب ورئيس المجلس الأعلى للحسابات.
دلالة هذه الكثافة لا تخطئها عين المراقب خصوصا في علاقةٍ مباشرةٍ بمضمون الخطاب، ذلك أن الأمر يحيل على ما سيسميه بيان للديوان الملكي، صدر في أعقاب "اجتماع التفعيل"
إعطاء دفعة قوية لبرامج دعم التمدرس، ومحاربة الهدر المدرسي، ابتداء من الدخول الدراسي المقبل. إطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتعزيز مكاسبها، وإعادة توجيه برامجها للنهوض بالرأسمال البشري للأجيال الصاعدة. تصحيح الاختلالات التي يعرفها تنفيذ برنامج التغطية الصحية، بموازاةٍ إعادة النظر، جذريا، في المنظومة الوطنية للصحة. الإسراع بإنجاح الحوار الاجتماعي، ودعوة مختلف الفرقاء إلى بلورة ميثاق اجتماعي متوازن ومستدام. إصدار ميثاق اللاتمركز الإداري، داخل أجلٍ لا يتعدى نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، بما يتيح للمسؤولين المحليين اتخاذ القرارات اللازمة للتنمية. الإسراع بإخراج الميثاق الجديد للاستثمار، وبتفعيل إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار، وتمكينها من الصلاحيات اللازمة للقيام بدورها. اعتماد نصوص قانونية، تنص على تسريع (وتبسيط) تفاعل الإدارات مع الرد على الطلبات المتعلقة بالاستثمار.
في العمق، إذاً، تقدّم الملكية جوابا اجتماعيا عن أسئلة المرحلة، وهو ما يعني أنها تنتصر لتأويل للوقائع والأحداث، لا ينحاز، في عنوانه العريض، إلى ما ظلت تردّد أطياف مختلفة من الفاعلين أنه أزمة في السياسة. وفي مقابل مفردات الأزمة، يحفل خطاب العرش بخلفيةٍ عامةٍ، تحيل على تاريخ طويل من القدرة على التعايش مع "المراحل الصعبة" و"التهديدات" و"التحديات" و"تقلبات الظروف"، وهو ما يجعل من معالجة الاختلالات ومواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية جزءا عاديا من حياة سياسية طبيعية.
وتسمح هذه الخلفية بتنسيب النظر إلى القضايا موضوع النقاش العمومي، وبتجاوز المقاربات الدراماتيكية المنتجة حولها، وهو ما يشكل واحدة من استراتيجيات خطابٍ يريد الطمأنة، وبث مضامين الثقة داخل محيطٍ تتقاذفه خطابات اللايقين. وفي المضمون، يبصم خطاب العرش على انزياح ملحوظ من سجل النقد القاسي، ليعود إلى سجل التوجيه والتأطير. ويقود التفكير في
توجيه الحكومة والبرلمان، وتأطير الفعل العمومي وإعادة تأطيره، ورسم أجندة السياسات الاجتماعية والاقتصادية ذات الأولوية. ولكن، كذلك الإعلان عن تدابير بنفس إجرائي، وبأفقٍ زمني قصير، وبأهداف وغايات واضحة. إنه تثبيت لموقع المؤسسة الملكية، مشرفة على الزمن الإستراتيجي، بل وقائدة فعلية للعمل التنفيذي، حيث لن يعني التخلي الإرادي للحكومة عن مساحاتها الدستورية، أو عجزها الذاتي، عن ممارسة صلاحياتها، ترسيما للفراغ. وفي المعنى نفسه، يعيد خطاب العرش تعريف قضية الدعم الاجتماعي، باعتباره مشروعا اجتماعيا استراتيجيا أكبر من أن يبقى رهينا للزمن الانتخابي القصير والمتقلب.
يتقمص خطاب العرش ملامح نص حول السياسات العمومية، إذ يتضمن حزمة من الإجراءات ذات الصيغة الاستعجالية المقترنة بآجال التنفيذ، في ميادين موزعة بين دعم التمدرس والتغطية الصحية والدعم الاجتماعي والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية والاستثمار، ويضع أمام السياسة الحكومية غايات وأهدافا تهمّ منظومة الحماية الاجتماعية وأسسا لتعاقد اجتماعي جديد. ولكن، وراء سطور المتن تكمن رؤية جديدة/ قديمة لملكيةٍ أكثر انخراطا في التدبير العمومي، تنطلق من مدخل الإشراف الاستراتيجي وصلاحية تحديد السياسة العامة، لكي تصل إلى مشارف التتبع الإجرائي والتنفيذي للسياسات، مستندة إلى مفارقة توازي الطلب الواسع على الدولة الاجتماعية المتدخلة، مع "الزهد" الإرادي لباقي المؤسسات في مباشرة اختصاصاتها، وتراكم مظاهر هشاشة عامة في التدبير الحكومي.