يطوي زمن الفن الجميل صفحة أخرى، مع رحيل "الموسيقار" اللبناني ملحم بركات، ابن المدرسة الرحبانية، والثائر عليها.
رحل ملحم بركات، السبعيني الذي توفي بعد أسابيع قليلة من إصابته بالتهابات حادة في العمود الفقري، وخضوعه لعلاج لم يسعفه، فغادر الحياة تاركاً مجموعة كبيرة من الألحان والأغنيات له ولزملائه المطربين الذين تعاونوا معه.
منذ بداياته في عالم الموسيقى والألحان، لم يكن ملحم بركات تلميذاً نجيباً، ولم يتصف يوماً بالخضوع، كان طالباً مختلفاً عن كل زملائه في المدرسة وبعدها في المعهد الوطني للموسيقى، ورغم سلاطة لسانه منذ شبابه إلّا أنه كان يخاف اللوم ويهرب من الواجبات.
على الرغم من معارضة والده لدخوله عالم الفن والموسيقى إلّا أنه ثار على قرار الأهل واستطاع الالتحاق بالمعهد الوطني للموسيقى، ودراسة العزف والغناء، وكان إلى جانبه في تلك الفترة الموسيقار الراحل زكي ناصيف، الذي عُرف بـ"أب الأغنية اللبنانية"، ومن الواضح تأثر بركات بزكي ناصيف طوال تلك الفترة. والواضح أيضاً أن ذلك التأثر غلب على حياته المهنية والموسيقية من بداياته وحتى سنوات قبل رحيله، إذ حمل بركات بعصبية وجدية شديدين هموم الأغنية اللبنانية، رغم تناوله اللهجة المصرية ملحناً ومؤدياً في بعض الأعمال التي قدمها "أبوكي مين يا صبية" لوليد توفيق، وغيرها. ورغم التأثر الواضح لألحانه بالمدرسة المصرية، مدرسة الموسيقار محمد عبد الوهاب تحديداً، لكن ألحانه خرجت إلى الجمهور بكلام لبناني خالص.
بعد دخوله المعهد الوطني، تعرّف ملحم بركات إلى الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، اللذين شكلا حالة فنية رائدة في تلك الحقبة، امتدت من خمسينيات القرن الماضي وحتى الثمانينيات، قبل رحيل عاصي الرحباني، 1986. لكن بركات الذي دخل يافعاً المدرسة الرحبانية حاول الاستفادة من خبرة الرحابنة فقط، في مدة زمنية لم تتجاوز السنوات الأربع، ووظف ذلك لمصلحته، فكانت ثورته الثانية بعد دخوله المعهد الوطني للموسيقى ومعاندة قرار الأهل بأن أعلن استقلاله عن الرحابنة، وبدأ يعدّ العدة للعمل الفني منفرداً، مع مجموعة ثانية كانت تنافس الرحابنة، فشكّل برفقة مجموعة أخرى من الفنانين وقتها، بينهم نور الملاح، حالة لبنانية مقابلة للحالة الرحبانية، متمردة عليها، وتحاول تقديم موسيقى لبنانية خارج عباءة عاصي ومنصور الرحباني.
ظهر بركات الشاب اليافع مع روميو لحود، الذي قدم في فترة السبعينيات أجمل أعماله الموسيقية والمسرحية للفنانة اللبنانية الراحلة سلوى القطريب، وآخرين، وبدأت شهرة بركات تكبر على صعيد الألحان التي كان يقوم بتسجيلها لفنانين من الصفّ الأول، كصباح، وفيروز، ونزهة يونس، ووليد توفيق، وتابع إضافة إلى هذا، مسيرته في الغناء، وأصبح واحداً من أفضل المطربين الشباب في تلك الفترة، والتي كان إنتاجها يقتصر على الحفلات والتسجيلات الإذاعية.
أضرّت فترة الحرب الأهلية اللبنانية ملحم بركات، كثيراً، وتراجع الإنتاج المسرحي والإذاعي، ثم بدأ عصر الصورة والميديا والتلفزيون الذي ساهم في انقلاب فني كبير، فحضر بركات نجماً في البرنامج التلفزيوني الشهير "ساعة وغنية".
عاش ملحم بركات سنوات عجاف قبل مرحلة التسعينيات، وبعد أن حطت الحرب رحالها، اتخذ خطاً فنياً يماشي العصر بعد صعود نجم جيل الثمانينيات من المغنين الشباب، وأصبح اسم ملحم بركات كمغن نجم، مع المجموعة الثانية التي ولدت في تلك الحقبة، ومنهم جورج وسوف وراغب علامة ونجوى كرم، ودون شك تلك المرحلة الزمنية شهدت عصراً ذهبياً لهؤلاء مع فترة التسعينيات التي كرستهم نجوماً لا زالوا حتى اليوم.
كانت تجارب ملحم بركات في فترة ما بعد الحرب غنيّة جداً، وساهمت في الكشف عن مخزون موسيقار عُرف بمشاكسته ومشاكله وغضبه وانفعاله وحبّه للآخرين، لكنه لم يُفرط يوماً بلحن أو يقدم عملاً دون المستوى.
ثورة القرن الجديد في الغناء، وصعود عارضات الأزياء، أغضبت ملحم بركات كثيراً في سرّه على الرغم من زواجه الثاني بمي حريري، والتي أصبحت مغنية، وسمح لها بإعادة تسجيل أغنياته.
قدم ملحم بركات في السنوات الأخيرة مجموعة مقبولة من الأعمال التي وجدت طريقها إلى النجاح، وكان أبرز إنتاجه في فترة التسعينيات من خلال التعاون مع المطربة اللبنانية ميشلين خليفه في "أنا والقمر والنجوم"، التي كتبها الصحافي الراحل جورج إبراهيم الخوري، وعرّفت بركات على جيل جديد من الجمهور، واستتبعها في ما بعد بمسرحية غنائية استعراضية قدمها بركات مع الراقصة اللبنانية الراحلة داني بسترس حملت اسم "ومشيت بطريقي".
رفض ملحم بركات دخول عالم شركات الإنتاج، ومات فقيراً، بعد عدة عروض تقدمت بها شركة روتانا لبركات، وكذلك شركات أخرى، لكن إنتاجه حافظ على مستوى موسيقي محدد وجد أنه الأقوى بالنسبة له، وأبرز أغنياته كانت تُسجل في حفلاته الجماهيرية أو من خلال برامج تلفزيونية، وتنجح. لم يكن ملحم بركات يوماً مطرب "استديو"، على العكس حاول أن يكون بسيطاً في تقديمه لأي جديد غنائي بصوته وألحانه البسيطة والتي اعتمدت على مزيج من الألوان البيزنطية ونفحات من أجواء الموسيقار المصري محمد عبدالوهاب الفنية، لتأثره به في بداياته والقليل من نكهة الرحابنة.
اقــرأ أيضاً
قبل سنوات أعاد بركات تجاربه التلحينية مع آخرين، فقدم لماجدة الرومي "اعتزلت الغرام"، التي أعادتها إلى تألقها ونجاحها، و تعاون مع نجوى كرم في أغنيتين لم يُكتب لهما النجاح الشعبي.
رحل ملحم بركات، صياد السمك الماهر، الذي لطالما ردد أن هذه الهواية كانت تبعث فيه الصبر وتقويه. رحل بركات تاركاً إرثاً موسيقياً جيداً، عاش فقيراً ورحل فقيراً، لكنه انتُقد سياسياً لمؤازرته الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وكذلك مناصرته للعماد ميشال عون.
رحل ملحم بركات، السبعيني الذي توفي بعد أسابيع قليلة من إصابته بالتهابات حادة في العمود الفقري، وخضوعه لعلاج لم يسعفه، فغادر الحياة تاركاً مجموعة كبيرة من الألحان والأغنيات له ولزملائه المطربين الذين تعاونوا معه.
منذ بداياته في عالم الموسيقى والألحان، لم يكن ملحم بركات تلميذاً نجيباً، ولم يتصف يوماً بالخضوع، كان طالباً مختلفاً عن كل زملائه في المدرسة وبعدها في المعهد الوطني للموسيقى، ورغم سلاطة لسانه منذ شبابه إلّا أنه كان يخاف اللوم ويهرب من الواجبات.
على الرغم من معارضة والده لدخوله عالم الفن والموسيقى إلّا أنه ثار على قرار الأهل واستطاع الالتحاق بالمعهد الوطني للموسيقى، ودراسة العزف والغناء، وكان إلى جانبه في تلك الفترة الموسيقار الراحل زكي ناصيف، الذي عُرف بـ"أب الأغنية اللبنانية"، ومن الواضح تأثر بركات بزكي ناصيف طوال تلك الفترة. والواضح أيضاً أن ذلك التأثر غلب على حياته المهنية والموسيقية من بداياته وحتى سنوات قبل رحيله، إذ حمل بركات بعصبية وجدية شديدين هموم الأغنية اللبنانية، رغم تناوله اللهجة المصرية ملحناً ومؤدياً في بعض الأعمال التي قدمها "أبوكي مين يا صبية" لوليد توفيق، وغيرها. ورغم التأثر الواضح لألحانه بالمدرسة المصرية، مدرسة الموسيقار محمد عبد الوهاب تحديداً، لكن ألحانه خرجت إلى الجمهور بكلام لبناني خالص.
بعد دخوله المعهد الوطني، تعرّف ملحم بركات إلى الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، اللذين شكلا حالة فنية رائدة في تلك الحقبة، امتدت من خمسينيات القرن الماضي وحتى الثمانينيات، قبل رحيل عاصي الرحباني، 1986. لكن بركات الذي دخل يافعاً المدرسة الرحبانية حاول الاستفادة من خبرة الرحابنة فقط، في مدة زمنية لم تتجاوز السنوات الأربع، ووظف ذلك لمصلحته، فكانت ثورته الثانية بعد دخوله المعهد الوطني للموسيقى ومعاندة قرار الأهل بأن أعلن استقلاله عن الرحابنة، وبدأ يعدّ العدة للعمل الفني منفرداً، مع مجموعة ثانية كانت تنافس الرحابنة، فشكّل برفقة مجموعة أخرى من الفنانين وقتها، بينهم نور الملاح، حالة لبنانية مقابلة للحالة الرحبانية، متمردة عليها، وتحاول تقديم موسيقى لبنانية خارج عباءة عاصي ومنصور الرحباني.
ظهر بركات الشاب اليافع مع روميو لحود، الذي قدم في فترة السبعينيات أجمل أعماله الموسيقية والمسرحية للفنانة اللبنانية الراحلة سلوى القطريب، وآخرين، وبدأت شهرة بركات تكبر على صعيد الألحان التي كان يقوم بتسجيلها لفنانين من الصفّ الأول، كصباح، وفيروز، ونزهة يونس، ووليد توفيق، وتابع إضافة إلى هذا، مسيرته في الغناء، وأصبح واحداً من أفضل المطربين الشباب في تلك الفترة، والتي كان إنتاجها يقتصر على الحفلات والتسجيلات الإذاعية.
أضرّت فترة الحرب الأهلية اللبنانية ملحم بركات، كثيراً، وتراجع الإنتاج المسرحي والإذاعي، ثم بدأ عصر الصورة والميديا والتلفزيون الذي ساهم في انقلاب فني كبير، فحضر بركات نجماً في البرنامج التلفزيوني الشهير "ساعة وغنية".
عاش ملحم بركات سنوات عجاف قبل مرحلة التسعينيات، وبعد أن حطت الحرب رحالها، اتخذ خطاً فنياً يماشي العصر بعد صعود نجم جيل الثمانينيات من المغنين الشباب، وأصبح اسم ملحم بركات كمغن نجم، مع المجموعة الثانية التي ولدت في تلك الحقبة، ومنهم جورج وسوف وراغب علامة ونجوى كرم، ودون شك تلك المرحلة الزمنية شهدت عصراً ذهبياً لهؤلاء مع فترة التسعينيات التي كرستهم نجوماً لا زالوا حتى اليوم.
كانت تجارب ملحم بركات في فترة ما بعد الحرب غنيّة جداً، وساهمت في الكشف عن مخزون موسيقار عُرف بمشاكسته ومشاكله وغضبه وانفعاله وحبّه للآخرين، لكنه لم يُفرط يوماً بلحن أو يقدم عملاً دون المستوى.
ثورة القرن الجديد في الغناء، وصعود عارضات الأزياء، أغضبت ملحم بركات كثيراً في سرّه على الرغم من زواجه الثاني بمي حريري، والتي أصبحت مغنية، وسمح لها بإعادة تسجيل أغنياته.
قدم ملحم بركات في السنوات الأخيرة مجموعة مقبولة من الأعمال التي وجدت طريقها إلى النجاح، وكان أبرز إنتاجه في فترة التسعينيات من خلال التعاون مع المطربة اللبنانية ميشلين خليفه في "أنا والقمر والنجوم"، التي كتبها الصحافي الراحل جورج إبراهيم الخوري، وعرّفت بركات على جيل جديد من الجمهور، واستتبعها في ما بعد بمسرحية غنائية استعراضية قدمها بركات مع الراقصة اللبنانية الراحلة داني بسترس حملت اسم "ومشيت بطريقي".
رفض ملحم بركات دخول عالم شركات الإنتاج، ومات فقيراً، بعد عدة عروض تقدمت بها شركة روتانا لبركات، وكذلك شركات أخرى، لكن إنتاجه حافظ على مستوى موسيقي محدد وجد أنه الأقوى بالنسبة له، وأبرز أغنياته كانت تُسجل في حفلاته الجماهيرية أو من خلال برامج تلفزيونية، وتنجح. لم يكن ملحم بركات يوماً مطرب "استديو"، على العكس حاول أن يكون بسيطاً في تقديمه لأي جديد غنائي بصوته وألحانه البسيطة والتي اعتمدت على مزيج من الألوان البيزنطية ونفحات من أجواء الموسيقار المصري محمد عبدالوهاب الفنية، لتأثره به في بداياته والقليل من نكهة الرحابنة.
قبل سنوات أعاد بركات تجاربه التلحينية مع آخرين، فقدم لماجدة الرومي "اعتزلت الغرام"، التي أعادتها إلى تألقها ونجاحها، و تعاون مع نجوى كرم في أغنيتين لم يُكتب لهما النجاح الشعبي.
رحل ملحم بركات، صياد السمك الماهر، الذي لطالما ردد أن هذه الهواية كانت تبعث فيه الصبر وتقويه. رحل بركات تاركاً إرثاً موسيقياً جيداً، عاش فقيراً ورحل فقيراً، لكنه انتُقد سياسياً لمؤازرته الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وكذلك مناصرته للعماد ميشال عون.