الثراء يمنح رعاية طبية أفضل بكثير حتى للمصابين بكورونا، بل إنّه أيضاً يسمح لأصحابه بالهروب من الوباء ومن أيّ كارثة إلى تحصينات تحت الأرض. عدد متزايد من أصحاب المليارات يقصدون نيوزيلندا لهذا الغرض
خلال أعوام الحرب الباردة كانت الملاجئ المحصنة تحت الأرض ملاذاً لقادة الدول، ومخازن لأسلحتها وصوامع لصواريخها الاستراتيجية، ومنذ منتصف التسعينيات بدأ البعض باستغلال تلك "الحفر" كسوق عقاري. اليوم تعرض شركات متخصصة على الأثرياء "النجاة من شتاء نووي" في تحصينات في ساوث داكوتا وكنساس في الولايات المتحدة، وفي بريطانيا ودول أوروبية أخرى، فيما تنشط في روسيا أيضاً عمليات التحصين تحت الأرض للسبب نفسه.
زبائن هذا السوق ليسوا أناساً عاديين، بل هم أثرى أثرياء العالم. وتنتشر تلك الملاجئ التي يجري تحويلها إلى منازل فارهة، أشبه بقصور، مع غياب اليقين في ما سيحل "في اليوم التالي" لسيناريوهات كوارث وحروب وثورات. بل إنّ البعض يتخذها ملاذاً من احتمالات "حرب عالمية ثالثة"، يروَّج لها، وتصنف بأنّها "أماكن نجاة من يوم القيامة" بمعناه الكارثي. وتشتغل شركات متخصصة في ترويج هذا النوع من الخدمات حول العالم.
بدأت قصة تحقيق "العربي الجديد" هذا عن ظاهرة فرار أثرياء العالم، ومن بينهم أباطرة وادي السيلكون وأصحاب المليارات والسلطة، وبينهم عرب، إلى "حفر النجاة"، أو ملاجئ وتحصينات محفورة عميقاً تحت سطح الأرض، بعد إعلان منظمة الصحة العالمية أنّ فيروس كورونا الجديد بات جائحة أو وباء عالمياً، وبعد تلقي "العربي الجديد" معلومة من مصادر خاصة وموثوق بها في مدينة كرايستشيرش النيوزيلندية عن حركة مريبة لأثرياء من جنسيات عدة، في أوج انتشار الفيروس، باتجاه هذا البلد النائي المؤلف من الجزر، وتحديداً إلى الجزيرة الجنوبية منه (تسمى أيضاً أيسلندا الجنوبية، وهي واحدة من الجزيرتين الرئيستين المؤلفتين لنيوزيلندا).
مساء 26 مارس/ آذار الماضي، علمت "العربي الجديد" بهبوط طائرة سعودية خاصة في مطار نيلسون الدولي في الجزيرة الجنوبية. المسافرون على متنها، وعددهم خمسة أشخاص، استقبلهم أربعة أشخاص من الجنسية السعودية مقيمون في الجزيرة. سمحت السلطات الطبية والجمارك لهم بالمغادرة ليلاً، في موكب بحماية شركة أمن خاصة، نحو أراضٍ خالية من السكان وبعيدة عن المدن. في تلك الأراضي، وفقاً للمصادر، اشترى ويشتري الأثرياء مزارع قائمة منذ عقود، وهكتارات من الأراضي ملحقة بها، تبدو في الظاهر وكأنّها مزارع أغنام وما شابه، لكنّها في العمق شهدت أعمالاً هندسية تحت الأرض، ليبنى تحتها ما يعرف بـ"حفر النجاة".
ينشط في كرايستشيرش نيوزيلنديون تقدميون، في حركة دؤوبة لمنع هيمنة الأجانب على الأرض، وأبرزهم "حملة معارضة سيطرة الأجانب على أوتياروا" (تسمية الشعب الأصلي لنيوزيلندا). ويعمل هؤلاء على مستويات مختلفة، منها سياسية وأخرى توعوية. في المعلومات التي وردت من هؤلاء لـ"العربي الجديد"، أنّها "طائرة سعودية خاصة من نوع غولف ستريم G650، هبطت في المطار بعدما توقفت تماماً الرحلات الجوية بقرار رسمي للسلطات"، وقد أكدت الصحف ذلك لاحقاً. وكانت سلطات نيوزيلندا قد اتخذت قراراً بوقف الرحلات الجوية التجارية، ما عدا تلك التي تقل مواطنيها العالقين أو طائرات الشحن التي تنقل معدات طبية ضرورية. وبعد محاولات عدة لتقصي ما يجري في نيوزيلندا وغيرها من مناطق حول العالم، تعرفت "العربي الجديد" إلى "سوق عقارات مواز" يجري تحت الأرض وليس فوقها.
المعلومات التي تأكدت حول الطائرة السعودية أنّها "طائرة يملكها الثري المقرب من الأسرة الحاكمة في المملكة، رجل الأعمال ناصر الرشيد"، بحسب مصدرنا في كرايستشيرش. وفي البحث عن حقيقة الشخصية، تبيّن أنّ الصحافي الاستقصائي النيوزيلندي مات نيبرت، أكد في تقارير مختلفة قصة ذلك السوق الموازي، وكتب في "ذا نيوزيلاند هيرالد" اسم الرشيد وعلاقته بالأسرة الحاكمة السعودية.
بعيداً عن الأضواء، كان هاجس "النجاة" وما زال يهيمن على تفكير طبقات الثراء الفاحش وأباطرة المال والأعمال، وأرستقراطيات حاكمة عدة، في أكثر من مكان، من خلال تملك أقبية الملاجئ المحصنة. وبحسب مراجعة ما يجري خلال السنوات الأخيرة، يمكن الكشف أنّها سنوات شهدت ازدياد فرار تلك الطبقات نحو بيوت وأجنحة ملكية محفورة عميقاً تحت سطح القشرة الأرضية، أو تلك التي كانت ملاجئ ومخابئ لأسلحة وصواريخ الحرب الباردة.
فالسوق الموازي الذي يخشاه بعض النيوزيلنديين هو أوسع من جزيرتهم، ففي أكثر من مكان حول العالم تعمل إحدى الشركات المتخصصة في "مساكن النجاة" على إغراء أثرى أثرياء العالم لامتلاك ملاجئهم (مساكن) على أمل "النجاة والبقاء على قيد الحياة" بعد عرض سيناريوهات "حروب عالمية وثورات"، بل سيناريو "يوم القيامة".
ومن بين أكثر الشركات نشاطاً في هذا المجال شركة "فيفوس"، التي تستغل مخاوف طبقات أرستقراطية ومليارديرات العالم للهروب إلى منتجعاتها على شكل أبنية تحت الأرض، ومحصنة بشكل كبير، وموزعة حول القارات، وإن كانت نيوزيلندا الوجهة الأفضل هذه الأيام.
اقــرأ أيضاً
بعض هؤلاء الأثرياء الذين يدفعون مبالغ طائلة للنجاة يؤمنون "على طريقة فيلم 2012، بخرافات كثيرة كلما حدث شيء مؤثر حول العالم، خصوصاً التوقعات بالأسوأ حول حرب عالمية ثالثة أو ثورات وتمردات مسلحة في بعض القارات، أو يوم القيامة على شكل كارثة تصيب الكرة الأرضية"، بحسب المصادر. ونيوزيلندا تبدو خياراً مفضلاً لهؤلاء الذين يشترون أرضاً أو مزارع خراف ليجري بناء التحصينات تحتها، فهي بلد بعيد عن الأحداث ومن الصعب وصول أحداث عالمية إليه، خصوصاً جزيرته الجنوبية التي تصل مساحتها إلى نحو 150 ألف كيلومتر مربع ولا يقطنها أكثر من مليون إنسان. وحين تحدثت "العربي الجديد" مع الأمين العام لـ"حملة معارضة سيطرة الأجانب على أوتياروا"، والمعروفة اختصارا بـ"كافكا"، موراي هورتون، يتبين أنّ عمليات شراء الأراضي باتت خلال السنوات الماضية رائجة بشكل كبير. ويقول: "بالطبع، هؤلاء لا يأخذون الصحافيين في جولات لإظهار ما يعملونه تحت الأرض ولا يظهرون تحصيناتهم للناس".
مصادر أخرى في كرايستشيرش تؤكد أنه "في البداية حضر الأميركيون، تحديداً أباطرة وادي السيليكون، ثم جاء الصينيون، وحضر سعوديون وأثرياء عرب آخرون مع بداية وباء كورونا". وبالفعل زادت عمليات تملك الأراضي في الجزيرة الخلابة. ويشير الصحافي مات نيبرت إلى توسع بناء الملاجئ بشكل لافت فيها، حتى قبل أزمة كورونا، ولأسباب واضحة وغريبة في آن واحد. تلك المصادر تشير إلى أنّ عام 1999 شهد حركة نشطة على خلفية انتشار خرافة عن أحداث عالمية ضخمة في عام 2000، أي بالانتقال إلى ألفية جديدة، وأنّه بعيد انتخاب الرئيس دونالد ترامب كان أثرياء أميركيون "يفضلون نيوزيلندا على الملاجئ الموجودة في أميركا نفسها". ليس ذلك فحسب، فنيوزيلندا أصبحت ملجأ "لنصابين ومتحرشين أثرياء، كلجوء الصحافي التلفزيوني الأميركي مات لاور، إليها بعدما فضحته حملة "مي تو" عام 2017.
ولاور يصرف بسخاء كي لا يجري تسليمه للولايات المتحدة ومحاكمته بتهم اغتصاب نساء أثناء عمله الصحافي. هذا بالإضافة مثلاً إلى النصاب الألماني كيم شميتز، الذي يحتوي سجله على عشرات قضايا الاحتيال أثناء عمله كخبير في عالم التكنولوجيا، والذي غير اسمه إلى كيم دوتكوم، وحاول أن يغري الأحزاب النيوزيلندية في كرايستشيرش لتضمه إليها. ويمكن أيضاً الإشارة إلى أنّ الجزيرة الجنوبية هذه كانت قبل نحو عقدين ملجأ لتومي سوهارتو (ابن الرئيس الإندونيسي الأسبق محمد سوهارتو الذي حكم بقبضة حديدية منذ 1967 وحتى 1998 وتوفي في 2018)، الذي اشترى مزرعة في الجزيرة واختبأ فيها بعيداً عن اتهامات موجهة إليه بارتكاب جرائم قتل وتفجيرات عدة في إندونيسيا.
ووفقاً لمعلومات خاصة بـ"العربي الجديد"، فإنّ نيوزيلندا تعتبر ملاذاً مفضلاً "لأنّ البعض يحصل على جنسيتها سريعاً بفضل ثروته، ومن دون أن يكون مقيماً على الأرض النيوزيلندية لفترة يتطلبها القانون". وكانت تقارير وزارة الداخلية النيوزيلندية قد أشارت إلى أنّه في اليومين التاليين لانتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة في 2016 زاد عدد الأميركيين الذين زاروا موقع الوزارة بشكل ملحوظ للاستفسار عن إمكانية الحصول على الجنسية النيوزيلندية. وتتحول نيوزيلندا مع الوقت إلى ملاذ لنخبة وادي السيليكون، إذ تزايدت عمليات شراء تلك النخبة لمنازل في هذا البلد النائي، وفقاً لما نشرت "نيويوركر" في يناير/ كانون الثاني 2017.
وبالرغم من أنّ الأثرياء الصينيين عادوا بطائراتهم الخاصة من مطار نيلسون، في كرايستشيرش، بعيد إعلان سلطات بكين السيطرة على الوباء، فإنّ هذا العالم السري من تسخير أموال الثراء الفاحش، وبمصادر مختلفة، لتشييد مساكن محصنة تحت الأرض، لم يتراجع، "بل زاد الطلب على المساكن مع جائحة كورونا". ويستثمر أحد المقربين من ترامب في هذه التجارة، وهو بيتر ثيل، الذي اشترى مزرعة في نيوزيلندا وشيّد تحتها تحصينه الخاص. وكغيره يحضر ثيل إلى الجزيرة مع اندلاع أزمات عالمية لتفقد مسكنه الحصين.
ليست نيوزيلندا الوحيدة، فتجارة التحصينات تحت الأرض، وما تشمله من تقديم حراسات أمنية خاصة وعيادات طبية ومزارع سمك وحتى ملاعب غولف وشاشات عرض ضخمة تعرض شروق وغروب الشمس ومناظر الطبيعة، تشمل أيضاً مناطق أخرى حول العالم. ففي القارة الأوروبية ثمة منشأة تسمى "أوروبا واحد (Europa One)"، وهي تحصينات نازية ضخمة، حفرت في جبال روثنشتاين في ألمانيا الشرقية، واستخدمت أثناء الحرب الباردة لتخزين الأسلحة. ومنذ عام 2015 جرى العمل في تلك التحصينات لتتحول في 2019 إلى منشأة 5 نجوم ومحمية من القنابل. وتقدم المنشأة "شققاً سكنية تحت الأرض، محمية من هجمات صاروخية"، بحسب العروض، يصل ثمن بعضها إلى 2 مليون يورو. ومن خلال شركة "فيفوس"، يتضح أنّها تعرض "خططاً احتياطية للبشرية: قم بتأمين الفضاء الخاص بك في مأوى تحت الأرض توفره فيفوس للبقاء على قيد الحياة بعد أيّ كارثة".
اقــرأ أيضاً
وفي كنساس الأميركية، جرى تحويل صومعة صواريخ إلى مساكن تحت الأرض. وقد كشف تقرير لـ"نيويورك تايمز"، في 3 أغسطس/ آب الماضي، عن التوجه الرأسمالي نحو تجارة مساكن "بونكرز (المخابئ)" في كنساس. ويطلق على تلك المساكن هناك اسم "الأرستقراطي"، وهي تحصينات تحتوي أيضاً، إلى جانب المنازل، على مكتبة عامة مشتركة وقاعة سينما وميدان رماية وحمام سباحة مع ساونا، وصالة ألعاب رياضية وقاعة ألعاب بلياردو. وتتوسع أعمال شركة "فيفوس" للحفر تحت الأرض، وبناء مساكن محصنة تحت الأرض في بعض مدن آسيا وفي ماربيا الإسبانية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الجزر البريطانية تشهد نشاطاً محموماً في مجال تسويق وبناء شركات متخصصة بالملاجئ التي "تحمي أسرتك من الانفجارات النووية"، وهو ما تؤكده بعض مواقع تلك الشركات التي يتوسع عملها ليشمل بريطانيا وبعض دول أوروبا وجنوب الولايات المتحدة.
خلال أعوام الحرب الباردة كانت الملاجئ المحصنة تحت الأرض ملاذاً لقادة الدول، ومخازن لأسلحتها وصوامع لصواريخها الاستراتيجية، ومنذ منتصف التسعينيات بدأ البعض باستغلال تلك "الحفر" كسوق عقاري. اليوم تعرض شركات متخصصة على الأثرياء "النجاة من شتاء نووي" في تحصينات في ساوث داكوتا وكنساس في الولايات المتحدة، وفي بريطانيا ودول أوروبية أخرى، فيما تنشط في روسيا أيضاً عمليات التحصين تحت الأرض للسبب نفسه.
زبائن هذا السوق ليسوا أناساً عاديين، بل هم أثرى أثرياء العالم. وتنتشر تلك الملاجئ التي يجري تحويلها إلى منازل فارهة، أشبه بقصور، مع غياب اليقين في ما سيحل "في اليوم التالي" لسيناريوهات كوارث وحروب وثورات. بل إنّ البعض يتخذها ملاذاً من احتمالات "حرب عالمية ثالثة"، يروَّج لها، وتصنف بأنّها "أماكن نجاة من يوم القيامة" بمعناه الكارثي. وتشتغل شركات متخصصة في ترويج هذا النوع من الخدمات حول العالم.
بدأت قصة تحقيق "العربي الجديد" هذا عن ظاهرة فرار أثرياء العالم، ومن بينهم أباطرة وادي السيلكون وأصحاب المليارات والسلطة، وبينهم عرب، إلى "حفر النجاة"، أو ملاجئ وتحصينات محفورة عميقاً تحت سطح الأرض، بعد إعلان منظمة الصحة العالمية أنّ فيروس كورونا الجديد بات جائحة أو وباء عالمياً، وبعد تلقي "العربي الجديد" معلومة من مصادر خاصة وموثوق بها في مدينة كرايستشيرش النيوزيلندية عن حركة مريبة لأثرياء من جنسيات عدة، في أوج انتشار الفيروس، باتجاه هذا البلد النائي المؤلف من الجزر، وتحديداً إلى الجزيرة الجنوبية منه (تسمى أيضاً أيسلندا الجنوبية، وهي واحدة من الجزيرتين الرئيستين المؤلفتين لنيوزيلندا).
مساء 26 مارس/ آذار الماضي، علمت "العربي الجديد" بهبوط طائرة سعودية خاصة في مطار نيلسون الدولي في الجزيرة الجنوبية. المسافرون على متنها، وعددهم خمسة أشخاص، استقبلهم أربعة أشخاص من الجنسية السعودية مقيمون في الجزيرة. سمحت السلطات الطبية والجمارك لهم بالمغادرة ليلاً، في موكب بحماية شركة أمن خاصة، نحو أراضٍ خالية من السكان وبعيدة عن المدن. في تلك الأراضي، وفقاً للمصادر، اشترى ويشتري الأثرياء مزارع قائمة منذ عقود، وهكتارات من الأراضي ملحقة بها، تبدو في الظاهر وكأنّها مزارع أغنام وما شابه، لكنّها في العمق شهدت أعمالاً هندسية تحت الأرض، ليبنى تحتها ما يعرف بـ"حفر النجاة".
ينشط في كرايستشيرش نيوزيلنديون تقدميون، في حركة دؤوبة لمنع هيمنة الأجانب على الأرض، وأبرزهم "حملة معارضة سيطرة الأجانب على أوتياروا" (تسمية الشعب الأصلي لنيوزيلندا). ويعمل هؤلاء على مستويات مختلفة، منها سياسية وأخرى توعوية. في المعلومات التي وردت من هؤلاء لـ"العربي الجديد"، أنّها "طائرة سعودية خاصة من نوع غولف ستريم G650، هبطت في المطار بعدما توقفت تماماً الرحلات الجوية بقرار رسمي للسلطات"، وقد أكدت الصحف ذلك لاحقاً. وكانت سلطات نيوزيلندا قد اتخذت قراراً بوقف الرحلات الجوية التجارية، ما عدا تلك التي تقل مواطنيها العالقين أو طائرات الشحن التي تنقل معدات طبية ضرورية. وبعد محاولات عدة لتقصي ما يجري في نيوزيلندا وغيرها من مناطق حول العالم، تعرفت "العربي الجديد" إلى "سوق عقارات مواز" يجري تحت الأرض وليس فوقها.
المعلومات التي تأكدت حول الطائرة السعودية أنّها "طائرة يملكها الثري المقرب من الأسرة الحاكمة في المملكة، رجل الأعمال ناصر الرشيد"، بحسب مصدرنا في كرايستشيرش. وفي البحث عن حقيقة الشخصية، تبيّن أنّ الصحافي الاستقصائي النيوزيلندي مات نيبرت، أكد في تقارير مختلفة قصة ذلك السوق الموازي، وكتب في "ذا نيوزيلاند هيرالد" اسم الرشيد وعلاقته بالأسرة الحاكمة السعودية.
بعيداً عن الأضواء، كان هاجس "النجاة" وما زال يهيمن على تفكير طبقات الثراء الفاحش وأباطرة المال والأعمال، وأرستقراطيات حاكمة عدة، في أكثر من مكان، من خلال تملك أقبية الملاجئ المحصنة. وبحسب مراجعة ما يجري خلال السنوات الأخيرة، يمكن الكشف أنّها سنوات شهدت ازدياد فرار تلك الطبقات نحو بيوت وأجنحة ملكية محفورة عميقاً تحت سطح القشرة الأرضية، أو تلك التي كانت ملاجئ ومخابئ لأسلحة وصواريخ الحرب الباردة.
فالسوق الموازي الذي يخشاه بعض النيوزيلنديين هو أوسع من جزيرتهم، ففي أكثر من مكان حول العالم تعمل إحدى الشركات المتخصصة في "مساكن النجاة" على إغراء أثرى أثرياء العالم لامتلاك ملاجئهم (مساكن) على أمل "النجاة والبقاء على قيد الحياة" بعد عرض سيناريوهات "حروب عالمية وثورات"، بل سيناريو "يوم القيامة".
ومن بين أكثر الشركات نشاطاً في هذا المجال شركة "فيفوس"، التي تستغل مخاوف طبقات أرستقراطية ومليارديرات العالم للهروب إلى منتجعاتها على شكل أبنية تحت الأرض، ومحصنة بشكل كبير، وموزعة حول القارات، وإن كانت نيوزيلندا الوجهة الأفضل هذه الأيام.
بعض هؤلاء الأثرياء الذين يدفعون مبالغ طائلة للنجاة يؤمنون "على طريقة فيلم 2012، بخرافات كثيرة كلما حدث شيء مؤثر حول العالم، خصوصاً التوقعات بالأسوأ حول حرب عالمية ثالثة أو ثورات وتمردات مسلحة في بعض القارات، أو يوم القيامة على شكل كارثة تصيب الكرة الأرضية"، بحسب المصادر. ونيوزيلندا تبدو خياراً مفضلاً لهؤلاء الذين يشترون أرضاً أو مزارع خراف ليجري بناء التحصينات تحتها، فهي بلد بعيد عن الأحداث ومن الصعب وصول أحداث عالمية إليه، خصوصاً جزيرته الجنوبية التي تصل مساحتها إلى نحو 150 ألف كيلومتر مربع ولا يقطنها أكثر من مليون إنسان. وحين تحدثت "العربي الجديد" مع الأمين العام لـ"حملة معارضة سيطرة الأجانب على أوتياروا"، والمعروفة اختصارا بـ"كافكا"، موراي هورتون، يتبين أنّ عمليات شراء الأراضي باتت خلال السنوات الماضية رائجة بشكل كبير. ويقول: "بالطبع، هؤلاء لا يأخذون الصحافيين في جولات لإظهار ما يعملونه تحت الأرض ولا يظهرون تحصيناتهم للناس".
مصادر أخرى في كرايستشيرش تؤكد أنه "في البداية حضر الأميركيون، تحديداً أباطرة وادي السيليكون، ثم جاء الصينيون، وحضر سعوديون وأثرياء عرب آخرون مع بداية وباء كورونا". وبالفعل زادت عمليات تملك الأراضي في الجزيرة الخلابة. ويشير الصحافي مات نيبرت إلى توسع بناء الملاجئ بشكل لافت فيها، حتى قبل أزمة كورونا، ولأسباب واضحة وغريبة في آن واحد. تلك المصادر تشير إلى أنّ عام 1999 شهد حركة نشطة على خلفية انتشار خرافة عن أحداث عالمية ضخمة في عام 2000، أي بالانتقال إلى ألفية جديدة، وأنّه بعيد انتخاب الرئيس دونالد ترامب كان أثرياء أميركيون "يفضلون نيوزيلندا على الملاجئ الموجودة في أميركا نفسها". ليس ذلك فحسب، فنيوزيلندا أصبحت ملجأ "لنصابين ومتحرشين أثرياء، كلجوء الصحافي التلفزيوني الأميركي مات لاور، إليها بعدما فضحته حملة "مي تو" عام 2017.
ولاور يصرف بسخاء كي لا يجري تسليمه للولايات المتحدة ومحاكمته بتهم اغتصاب نساء أثناء عمله الصحافي. هذا بالإضافة مثلاً إلى النصاب الألماني كيم شميتز، الذي يحتوي سجله على عشرات قضايا الاحتيال أثناء عمله كخبير في عالم التكنولوجيا، والذي غير اسمه إلى كيم دوتكوم، وحاول أن يغري الأحزاب النيوزيلندية في كرايستشيرش لتضمه إليها. ويمكن أيضاً الإشارة إلى أنّ الجزيرة الجنوبية هذه كانت قبل نحو عقدين ملجأ لتومي سوهارتو (ابن الرئيس الإندونيسي الأسبق محمد سوهارتو الذي حكم بقبضة حديدية منذ 1967 وحتى 1998 وتوفي في 2018)، الذي اشترى مزرعة في الجزيرة واختبأ فيها بعيداً عن اتهامات موجهة إليه بارتكاب جرائم قتل وتفجيرات عدة في إندونيسيا.
ووفقاً لمعلومات خاصة بـ"العربي الجديد"، فإنّ نيوزيلندا تعتبر ملاذاً مفضلاً "لأنّ البعض يحصل على جنسيتها سريعاً بفضل ثروته، ومن دون أن يكون مقيماً على الأرض النيوزيلندية لفترة يتطلبها القانون". وكانت تقارير وزارة الداخلية النيوزيلندية قد أشارت إلى أنّه في اليومين التاليين لانتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة في 2016 زاد عدد الأميركيين الذين زاروا موقع الوزارة بشكل ملحوظ للاستفسار عن إمكانية الحصول على الجنسية النيوزيلندية. وتتحول نيوزيلندا مع الوقت إلى ملاذ لنخبة وادي السيليكون، إذ تزايدت عمليات شراء تلك النخبة لمنازل في هذا البلد النائي، وفقاً لما نشرت "نيويوركر" في يناير/ كانون الثاني 2017.
وبالرغم من أنّ الأثرياء الصينيين عادوا بطائراتهم الخاصة من مطار نيلسون، في كرايستشيرش، بعيد إعلان سلطات بكين السيطرة على الوباء، فإنّ هذا العالم السري من تسخير أموال الثراء الفاحش، وبمصادر مختلفة، لتشييد مساكن محصنة تحت الأرض، لم يتراجع، "بل زاد الطلب على المساكن مع جائحة كورونا". ويستثمر أحد المقربين من ترامب في هذه التجارة، وهو بيتر ثيل، الذي اشترى مزرعة في نيوزيلندا وشيّد تحتها تحصينه الخاص. وكغيره يحضر ثيل إلى الجزيرة مع اندلاع أزمات عالمية لتفقد مسكنه الحصين.
ليست نيوزيلندا الوحيدة، فتجارة التحصينات تحت الأرض، وما تشمله من تقديم حراسات أمنية خاصة وعيادات طبية ومزارع سمك وحتى ملاعب غولف وشاشات عرض ضخمة تعرض شروق وغروب الشمس ومناظر الطبيعة، تشمل أيضاً مناطق أخرى حول العالم. ففي القارة الأوروبية ثمة منشأة تسمى "أوروبا واحد (Europa One)"، وهي تحصينات نازية ضخمة، حفرت في جبال روثنشتاين في ألمانيا الشرقية، واستخدمت أثناء الحرب الباردة لتخزين الأسلحة. ومنذ عام 2015 جرى العمل في تلك التحصينات لتتحول في 2019 إلى منشأة 5 نجوم ومحمية من القنابل. وتقدم المنشأة "شققاً سكنية تحت الأرض، محمية من هجمات صاروخية"، بحسب العروض، يصل ثمن بعضها إلى 2 مليون يورو. ومن خلال شركة "فيفوس"، يتضح أنّها تعرض "خططاً احتياطية للبشرية: قم بتأمين الفضاء الخاص بك في مأوى تحت الأرض توفره فيفوس للبقاء على قيد الحياة بعد أيّ كارثة".
وفي كنساس الأميركية، جرى تحويل صومعة صواريخ إلى مساكن تحت الأرض. وقد كشف تقرير لـ"نيويورك تايمز"، في 3 أغسطس/ آب الماضي، عن التوجه الرأسمالي نحو تجارة مساكن "بونكرز (المخابئ)" في كنساس. ويطلق على تلك المساكن هناك اسم "الأرستقراطي"، وهي تحصينات تحتوي أيضاً، إلى جانب المنازل، على مكتبة عامة مشتركة وقاعة سينما وميدان رماية وحمام سباحة مع ساونا، وصالة ألعاب رياضية وقاعة ألعاب بلياردو. وتتوسع أعمال شركة "فيفوس" للحفر تحت الأرض، وبناء مساكن محصنة تحت الأرض في بعض مدن آسيا وفي ماربيا الإسبانية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الجزر البريطانية تشهد نشاطاً محموماً في مجال تسويق وبناء شركات متخصصة بالملاجئ التي "تحمي أسرتك من الانفجارات النووية"، وهو ما تؤكده بعض مواقع تلك الشركات التي يتوسع عملها ليشمل بريطانيا وبعض دول أوروبا وجنوب الولايات المتحدة.