مقاومة على مقاسات سلطة أوسلو!

16 ابريل 2015
+ الخط -

لقد واجهت القضية الفلسطينية كغيرها من قضايا التحرر في العالم المعاصر، أشكالاً كثيرة من محاولات تحييد نضالها ضد الاستعمار، من تصوير الاستعمار على أنه حالة خاصة جداً، واستثنائية، ومختلف عن كل أشكال الاستبداد والاستعمار الأخرى، فيتبنى خطاب اللاعنف في الحالة الفلسطينية هذه الرؤية، في تعزيزه لمقولاته عن الاستعمار الإسرائيلي وتصويره كحالة فوق تاريخية منسلخة عن تاريخ الاستعمار أولاً، وعن منظومة الاستعمار الكولينيالي العالمي الكلية. واستمر هذا الخطاب الذي تبنّته الرسمية الفلسطينية بشكل أو بآخر، من خلال أيقنة اللامساواة في قدرات المستعمِر والمستعمَر وتوظيفها من أجل الحفاظ على الاستقرار المرتبط بالضرورة بمصالح محددة مسبقاً، تحت مبررات العجز، والممكن السياسي، والمتاح.

ولم تقتصر حالة الاستثناء في انتقالها إلى الرؤية السياسية العامة، ولكن تم توظيفها أيضاً في صناعة خيارات المقاومة، والرأي العام المقاوم، فظهرت كما هو معروف أشكال جديدة مرتبطة باللاعنف، وبالمواجهة الدبلوماسية، وتم توظيف ذلك في التحول الذي لا يخفى، في مرجعية المشروع الوطني الفلسطيني، من كونه جزءاً من حركات التحرر في العالم الثالث، إلى صياغة جديدة لمرجعية اللاعنف، من خلال انتقاء حالات استثنائية من نماذج حركات التحرر، ونزعها من سياقها في كثير من الأحيان، فلم يكن هناك أي حديث عن المقاطعة الاقتصادية رسمياً، مع أنها كانت السياق الأول لحراكات اللا عنف المستشهد بها.

غير أن حركة المقاطعة الاقتصادية الأخيرة لست شركات إسرائيلية، والتي دعت لها مجموعات من حركة فتح مؤيدَة من السلطة الفلسطينية، أظهرت بوضوح غير مسبوق هذا التناقض بين عدم دخول السلطة الفلسطينية بشكل رسمي، في حركة لا عنف حقيقية على الأقل، تعتمد على مقاطعة اقتصادية، وبين مبرر عدم دخولها، فاتضح أنه من الممكن، اتحاد قرار رسمي ملزم للمواطنين من خلال منع دخول البضائع الإسرائيلية إلى السوق الفلسطينية، حتى ولو كان ذلك بطرق محدودة من خلال إجبار التجار ومحاسبتهم من دون أن تكون هناك حاجة للسيطرة على "الحدود" مثلاً، ما يترك أسئلة كثيرة إشكالية؛ أين كان موقف السلطة الفلسطينية قبل الآن؟ ولماذا لم تستغل قدراتها الممكنة، إذا كان شعارها استغلال الممكن، من أجل مقاطعة البضائع الإسرائيلية؟

إن كل هذه الأسئلة، ومن دون الحاجة إلى إجابتها، تكفي لاستنتاج دلالة أساسية تتمثل في أن هناك أسباباً أخرى وراء هذه الحركة الأخيرة، غير ما يتم تصويرها على أنها امتداد طبيعي وشكل نضال عادي. وهذا ليس اتهاماً، غير أنه شك لازم وضروري ليس بعيداً عن مشروع السلطة الفلسطينية العام، ويظهر تناقضاً من زاوية أخرى تماماً، إذ كيف يمكن أن يندمج الاعتراف بإسرائيل على الأرض الفلسطينية المستعمرة عام 1948، مع مقاطعة ومقاومة بالمقاطعة الاقتصادية لشركات إسرائيلية ليست شركات مستوطنات فقط وإنما شركات إسرائيلية شرعية، في منظور السلطة لإسرائيل ولنفسها وسلطتها وتعريفها للوطن والهوية.

إن استغلال الأدوات المتوفرة والمشروعة في مواجهة الاستعمار يكون الهدف المفترض منها هو حالة التحرر الكبرى، أو الأهداف المرحلية التي ترتبط به، غير أن الحالة الفلسطينية في وضعيات مختلفة أنتجتها تحولات ما بعد أوسلو، على المستويين الرسمي أو حتى الشعبي أحياناً، تم تسخير وأيقنة معظم العناصر التي ارتبطت بالمقاومة فيها، أو الهوية في خلق مشاريع مؤقتة تساهم في تحييد وتحريف المسارات المفترضة وتحويلها، بطريقة تضمن نمطاً معيناً من الاستقرار القائم على مصالح معينة. من خلال وضع مفاهيم وصيغ حياتية عامة تكون فيها المواجهة مع إسرائيل أبعد ما تكون، وسط تعايش مع الوضع القائم والرضى بشكل غير مباشر بالمستعمر، وإلغاء خطوط التماس، وصناعتها بما يتلاءم مع المصالح الخاصة جداً.

إن محاولة رسم معالم جديدة لصراع يكون سقفه راتب موظفي السلطة وأجهزتها الأمنية، أول ما يمكن به تحليل ما حدث، وما يحدث الآن، من مأسسة النضال الفلسطيني، وإعطاء شرعية أو سحبها من أشكال محددة من أشكال المقاومة.


(فلسطين)

المساهمون