يقترب الجزائري الحاج علّاوة من الثمانين من عمره، وما زالت ذاكرته متّقدة، هو الذي وصل إلى فرنسا قبل خمسين عاماً. يقول: "نتيجة رغبة ملحّة من والدتي، وصلتُ إلى أوروبا بهدف استعادة جثمان والدي الذي مات ودفن في بلجيكا، وبذلتُ جهداً كبيراً من أجل تحقيق ذلك، ونجحت". بعدها، استقرّ في ضاحية باريسيّة حيث توجد جالية جزائرية كبيرة.
يتحدّث بحزن عن ظاهرة إغلاق الكثير من المقاهي العربية في مدينة مونتروي، إحدى أكبر مدن الضاحية الباريسية، أبوابها. "البعض باعوا محالهم وتحولت إلى متاجر"، لافتاً إلى أن عدداً من العرب باعوا المقاهي إلى الجالية الآسيوية، و"هي أكثر نشاطاً"، على حد قوله.
يضيف: "صار أفراد هذه الجالية يصلون إلى أماكن جديدة، ويتوسعون بشكل كبير".
ويبدو حزن الحاج علّاوة على هذا المصير صادقاً، فقد اختبر الأمر بنفسه. هذا المتقاعد الجزائري الذي يقيم الآن في بيت متواضع مع زوجته الفرنسية، ويتقاضى راتباً تقاعدياً متواضعاً، يقول: "كنت أملك مقهى وفندقاً، وبعتهما بعد سنوات. لم أعرف سوى العمل في الفندق. ثم اشتريت مقهى ثانياً وبعته بعد سنوات". ويبرّر اضطراره إلى البيع بالقول: "كان العمال يسمحون لأنفسهم بأخذ الأموال، ما جعلني أعمل من أجل لا شيء تقريباً".
بقي أبناء علّاوة في الجزائر. يقول: "كنتُ أعارض إحضار الزوجة والأبناء إلى فرنسا. لكنني أتصور الآن أنهم لو كانوا معي حينها، لساعدوني، وربما لكانوا ما زالوا يعملون فيها حتى اليوم".
اقــرأ أيضاً
من جهة أخرى، الكثير من أصحاب المقاهي كانوا قد قدموا مع عائلاتهم، وقلّة منهم وجدوا أبناءهم إلى جانبهم في وقت لاحق. هنا، يقول صادق، الذي باع مقهاه قبل أشهر فقط: "أبناء الجيل الأول لم يجدوا بُدّاً من العمل مع آبائهم في المقاهي والفنادق، إذ لم يتابعوا دراستهم الجامعية، وكان من الصعب أن يجدوا عملاً خارج المؤسسات العائلية". يضيف: "الأمر تغيَّر مع الجيل الثالث. هل تتوقّع أن تجد طبيباً أو مدرّساً يَقبل أن يساعد أباه في مقهى؟
أسباب كثيرة أخرى ساهمت في انحسار هذه المقاهي مع وصول مالكين جدد من أصول آسيوية. ويقول أستاذ علم الاجتماع قدور زويلاي، الذي يقيم في مدينة مونتروي منذ أكثر من ثلاثة عقود: "لم يعرف أصحاب المقاهي العرب التطور مع الزمن. كانوا يتعايشون مع زبائن نوعيّين، أي عمال مهاجرين بإمكانيات مادية محدودة. وكانت المقاهي لا تقدم غير القهوة والشاي والنبيذ الرديء. أما تلك التي كانت تقدّم الطعام، فلم تكن ضمن المستوى المطلوب".
ولأنّهم لم يتطوّروا مع تطوُّر المقاهي، لم يتغيّر جمهورها. ونادراً ما ترى أشخاصاً جدداً باستثناء أولئك الذين ألفوا المكان، أي المهاجرين والعرب، ما يعني أن مالِكي هذه المقاهي لم يُحقّقوا ثروات كبيرة، عدا بعض ما حققوه في بلدانهم الأصلية. لهذا، فإن تخليهم عنها لم يكن مصحوباً بمآسٍ كبيرة وندم شديد، كما يعترف الحاج علّاوة.
المقاهي الجديدة التي يشرف عليها الآسيويّون يقصدها جمهور مختلف ومختلط من فرنسيين ومهاجرين. وما يعزّز الإقبال على هذه المقاهي الجديدة، هو الرهانات وأوراق اليانصيب وسباق الخيول. ولا يقتصر الإقبال على الجمهور الآسيوي، بل تجد الأمر لدى آخرين. لهذا، يمكن رؤية عرب وأفارقة وغيرهم وهم يحملقون في شاشات التلفزيون، جاحظة عيونُهم، أملاً في رؤيةِ خيول رهانهم في الصدارة.
إن ظاهرة انحسار هذه المقاهي العربية مستمرة، ما يمكن رؤيته في الوقت الراهن في حي باربيس، حيث يستمر خروج العرب منها في اتجاه الضواحي، ويستمر إغواء من يصمد منهم بمبالغ مالية كبيرة لن يصمدوا أمامها طويلاً. بالفعل، بدأ حي باربيس يُغيّر جلده، ويتقلص وجود العرب فيه.
وإذا كان حي باربيس ما زال يحتفظ بمقاهٍ عربية، فإن أحياء أخرى في العاصمة تكاد تخلو منها، على غرار ساحة الإيطاليين في قلب العاصمة. ويقول المهاجر المغربي محمد زروليت الذي وصل إلى باريس في عام 1974: "حين أقمت في هذا الحي، كانت المقاهي والفنادق العربية منتشرة، وكانت الأغاني العربية والأمازيغية تنبعثُ منها". يضيف: "ها أنت ترى الآن. أصبحت أثراً بعد عين".
اقــرأ أيضاً
إضافة إلى الأسباب المذكورة سابقاً، والتي تفسّر المصير المأساوي للمقاهي في هذه المنطقة الباريسية، يتحدث محمد زروليت عن الموقف الشخصي للرئيس فاليري جيسكار ديستان، الذي لم يكن يحمل في أعماقه ودّاً للعرب، وكان يفضّل الصينيين، إضافة إلى موقف جاك توبون، الذي كان عمدة في هذه المنطقة خلال فترة طويلة، وكانت علاقاته حميمة بالآسيويّين. وقد ساهموا، عبر تصويت جماعي، في إعادة انتخابه في هذا المنصب. في مقابل هذا الدعم، فتح العمدة أبواب هذا الحي الكبير أمامهم، وأصبح الآن يشبه "تشاينا تاون" باريس.
ماذا عن أصحاب المقاهي العرب؟ يؤكد زروليت: "البعض قرّر التخلّص من هذه المهنة، فيما قرر آخرون معاودة الكرّة في ضواحي العاصمة، حيث التجمّعات العربية". يختم: "هذه ليست سوى تنهيدات العربي الأخيرة، لأنّ اندماج الأجيال الجديدة مسألة لا مفرّ منها. حينها، سنقول عن هذه المقاهي إنّها سادت ثم بادت".
يتحدّث بحزن عن ظاهرة إغلاق الكثير من المقاهي العربية في مدينة مونتروي، إحدى أكبر مدن الضاحية الباريسية، أبوابها. "البعض باعوا محالهم وتحولت إلى متاجر"، لافتاً إلى أن عدداً من العرب باعوا المقاهي إلى الجالية الآسيوية، و"هي أكثر نشاطاً"، على حد قوله.
يضيف: "صار أفراد هذه الجالية يصلون إلى أماكن جديدة، ويتوسعون بشكل كبير".
ويبدو حزن الحاج علّاوة على هذا المصير صادقاً، فقد اختبر الأمر بنفسه. هذا المتقاعد الجزائري الذي يقيم الآن في بيت متواضع مع زوجته الفرنسية، ويتقاضى راتباً تقاعدياً متواضعاً، يقول: "كنت أملك مقهى وفندقاً، وبعتهما بعد سنوات. لم أعرف سوى العمل في الفندق. ثم اشتريت مقهى ثانياً وبعته بعد سنوات". ويبرّر اضطراره إلى البيع بالقول: "كان العمال يسمحون لأنفسهم بأخذ الأموال، ما جعلني أعمل من أجل لا شيء تقريباً".
بقي أبناء علّاوة في الجزائر. يقول: "كنتُ أعارض إحضار الزوجة والأبناء إلى فرنسا. لكنني أتصور الآن أنهم لو كانوا معي حينها، لساعدوني، وربما لكانوا ما زالوا يعملون فيها حتى اليوم".
من جهة أخرى، الكثير من أصحاب المقاهي كانوا قد قدموا مع عائلاتهم، وقلّة منهم وجدوا أبناءهم إلى جانبهم في وقت لاحق. هنا، يقول صادق، الذي باع مقهاه قبل أشهر فقط: "أبناء الجيل الأول لم يجدوا بُدّاً من العمل مع آبائهم في المقاهي والفنادق، إذ لم يتابعوا دراستهم الجامعية، وكان من الصعب أن يجدوا عملاً خارج المؤسسات العائلية". يضيف: "الأمر تغيَّر مع الجيل الثالث. هل تتوقّع أن تجد طبيباً أو مدرّساً يَقبل أن يساعد أباه في مقهى؟
أسباب كثيرة أخرى ساهمت في انحسار هذه المقاهي مع وصول مالكين جدد من أصول آسيوية. ويقول أستاذ علم الاجتماع قدور زويلاي، الذي يقيم في مدينة مونتروي منذ أكثر من ثلاثة عقود: "لم يعرف أصحاب المقاهي العرب التطور مع الزمن. كانوا يتعايشون مع زبائن نوعيّين، أي عمال مهاجرين بإمكانيات مادية محدودة. وكانت المقاهي لا تقدم غير القهوة والشاي والنبيذ الرديء. أما تلك التي كانت تقدّم الطعام، فلم تكن ضمن المستوى المطلوب".
ولأنّهم لم يتطوّروا مع تطوُّر المقاهي، لم يتغيّر جمهورها. ونادراً ما ترى أشخاصاً جدداً باستثناء أولئك الذين ألفوا المكان، أي المهاجرين والعرب، ما يعني أن مالِكي هذه المقاهي لم يُحقّقوا ثروات كبيرة، عدا بعض ما حققوه في بلدانهم الأصلية. لهذا، فإن تخليهم عنها لم يكن مصحوباً بمآسٍ كبيرة وندم شديد، كما يعترف الحاج علّاوة.
المقاهي الجديدة التي يشرف عليها الآسيويّون يقصدها جمهور مختلف ومختلط من فرنسيين ومهاجرين. وما يعزّز الإقبال على هذه المقاهي الجديدة، هو الرهانات وأوراق اليانصيب وسباق الخيول. ولا يقتصر الإقبال على الجمهور الآسيوي، بل تجد الأمر لدى آخرين. لهذا، يمكن رؤية عرب وأفارقة وغيرهم وهم يحملقون في شاشات التلفزيون، جاحظة عيونُهم، أملاً في رؤيةِ خيول رهانهم في الصدارة.
إن ظاهرة انحسار هذه المقاهي العربية مستمرة، ما يمكن رؤيته في الوقت الراهن في حي باربيس، حيث يستمر خروج العرب منها في اتجاه الضواحي، ويستمر إغواء من يصمد منهم بمبالغ مالية كبيرة لن يصمدوا أمامها طويلاً. بالفعل، بدأ حي باربيس يُغيّر جلده، ويتقلص وجود العرب فيه.
وإذا كان حي باربيس ما زال يحتفظ بمقاهٍ عربية، فإن أحياء أخرى في العاصمة تكاد تخلو منها، على غرار ساحة الإيطاليين في قلب العاصمة. ويقول المهاجر المغربي محمد زروليت الذي وصل إلى باريس في عام 1974: "حين أقمت في هذا الحي، كانت المقاهي والفنادق العربية منتشرة، وكانت الأغاني العربية والأمازيغية تنبعثُ منها". يضيف: "ها أنت ترى الآن. أصبحت أثراً بعد عين".
إضافة إلى الأسباب المذكورة سابقاً، والتي تفسّر المصير المأساوي للمقاهي في هذه المنطقة الباريسية، يتحدث محمد زروليت عن الموقف الشخصي للرئيس فاليري جيسكار ديستان، الذي لم يكن يحمل في أعماقه ودّاً للعرب، وكان يفضّل الصينيين، إضافة إلى موقف جاك توبون، الذي كان عمدة في هذه المنطقة خلال فترة طويلة، وكانت علاقاته حميمة بالآسيويّين. وقد ساهموا، عبر تصويت جماعي، في إعادة انتخابه في هذا المنصب. في مقابل هذا الدعم، فتح العمدة أبواب هذا الحي الكبير أمامهم، وأصبح الآن يشبه "تشاينا تاون" باريس.
ماذا عن أصحاب المقاهي العرب؟ يؤكد زروليت: "البعض قرّر التخلّص من هذه المهنة، فيما قرر آخرون معاودة الكرّة في ضواحي العاصمة، حيث التجمّعات العربية". يختم: "هذه ليست سوى تنهيدات العربي الأخيرة، لأنّ اندماج الأجيال الجديدة مسألة لا مفرّ منها. حينها، سنقول عن هذه المقاهي إنّها سادت ثم بادت".