مقال نصف عاطفيّ

01 فبراير 2015
+ الخط -
حين ارتفعت الأصوات الحادة، والمحقّة إلى حد بعيد، في انتقاد التعاطف والتضامن الموزّع على الضحايا بمقادير مختلّة، بعد انتشار صور شيماء الصباغ، في آخر زفراتها، ظهر اسم سندس رضا التي قضت قبلها بيوم على يد الأمن وأعوانه. حين بحثت عن صور أو أخبار عن سندس، أول ما عثرت عليه كان عبارات من قبيل: "الرجالة أخدوا حق سندس"!
يبدو أن هنالك من سئم موجات التضامن والتعاطف، وتعب من مواجهة التعتيم والتجاهل، وملّ من محاولة أخذ موقع داخل الشاشات والتنازع عليه، علّ العالم يسمع أو يتحرك. وحين نظر إلى الضحايا الذين انشغلت بهم الشاشات وملأ ذكرهم العالم بكل اللغات، لم يجد أن كل الصخب أنتج إلا صخبا مثله، وبقي "حق الضحايا" ضائعا.
لم يعد يخفى على أحد أن هنالك شباناً ينظرون إلى أيديهم، وأذهانهم تردد آخر ما قال أصدقاؤهم ورفاقهم وإخوتهم، ويستمعون، في كل مكان، إلى أصوات الراحلين. يبدو أن هنالك صورا حين تدخل إلى الدماغ لا تتحول إلى سيالات عصبية، بل إلى أرتال من القهر الممزوج بالحاجة الملحة إلى محوها بصور أخرى.
اللعب مع قدرة الجماهير على الفعل خطيئة النظام، وتبعاتها هي قدره. واستعراض النظام قدرته على الخنق والتضييق والاعتقال، يعني، بالضرورة المطلقة، اندفاع الجماهير إلى مساحات جديدة تثبت فيها قدرتها.
كما يبني النظام سطوته على أجساد الضحايا، ويحفر معالمها في حيواتهم، على ملابسهم الممزقة وأعضائهم المبتورة وأعينهم المفقوءة، وعلى أصواتهم المجروحة في الميادين الخالية، ينبني رد الجماهير على جسد النظام، على سيارات الشرطة وجدران مراكز الأمن وعلى أجساد عناصر الأمن والبلطجية.
افتراض العقلانية المفرطة في الجماهير لا يقل، في اعتسافه واعتباطه، عن افتراض غوغائيتها المطلقة، وقطيعيّتها المنفلتة وجهلها المطبق.
محزن أن نراكم مع كل تجاربنا الأخيرة نقداً متضخماً لفعل الجماهير والناس وتبعاته، ولا نراكم ما يفوقه، أو يزيد عليه بأضعاف كثيرة من نقد النظام وأعوانه، يكفي أن نتخذ من حجم أثر كل منهما، في الواقع، ميزاناً لحجم النقد والتعليق المجابه لسلوكهما.
محزن أن كثيرين ممن يتباكون على مسار جماهيري انفلت إلى غير غاياته، يغلّفون، بتباكيهم هذا، حقيقة انحيازهم للنظام وتبعيّتهم له. نقد النظام مكلف وخطير ويحمل تبعات كثيرة، أما انتقاد الجماهير فسهل ومجاني ومحفوف بالامتيازات.
لعل الميزة الموضوعية الأهم للجماهير أنها عصية على التحديد والحصر والتبني، متنوعة ومتناقضة، ولها منطقها الخاص، تقبل الوافدين بسهولة، وتطردهم بسهولة، فيها من التنظيم ومن الأفراد، وفيها من المبادرة ومن التقليد. يتمايز عنها، بعد حين، من انعجن منطق التنظيم بعقله وسلوكه، كما يتمايز من عاش فردا وحيدا من دون أي انحياز جمعي. وأول من تطرده هو من يدّعي تمثيلها، ومن يظل يؤكد على اختلافاته معها.
الانشغال بإعلان جماعات وحركات داخل الجماهير العريضة هو أول إعلان للتمايز عنها، ولا يمكن، بعد ذلك، التحدث باسمها طويلاً، وإن نسبة الفعل الجماهيري إلى تلك الحركات والجماعات مخالف للواقع، وسهل التكذيب، تماما كاعتبار كل فعل تلك الأجسام فعل الجماهير وخيارها.
تحميل النظام مسؤولية كل ما يجري، منذ الحراك الثوري، صحيح ومحقّ، إلا أن النظام لا يعني فقط الطرف القابع في الحكم منذ عقود، بل يعني، أيضاً، المعارضة التقليدية التي أصبحت، بمرور السنوات، جزءاً من تشكيلة النظام. والثورة ليست تبادل مواقع بين النظام ومعارضته التقليدية، قد تكون هذه مرحلة أولى من الثورة، أما حين نعلَق في نفق تبادل المواقع بين النظام ومعارضته التقليدية فهذا يعني أن شيئا لم يتغيّر. والأسوأ من كل هذا أن تعود المعارضة التقليدية إلى أساليبها المكرورة التي كلفت الشعوب سنوات طوال من بقاء النظام مسيطراً، راتعا بذرائع قمع أي فعل معارض.

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين