"أنا سوري يانيّالي"... اليوم، لا يتجرّأ سوري على قولها إلّا إذا كان مُصاباً بمسّ من جنون، أو كان من الموالين المنتفعين من النهب، إرضاءً لنظام ينشد البقاء ولو فوق الخراب وتعاسة الناس. فالحرب التي قاربت على الانتهاء، منحت الأمل بالحياة، لكنهم لم يتصوروا أنه، إضافةً إلى الموت الذي ما زال مخيّماً، سيستمرون في معاناة الغلاء والجوع والبرد، فالأزمات الحالية والقادمة أيضاً تتفنّن في إذلالهم، والنظام ليس بوسعه مدّ يد العون إليهم. لديه أولويات عاجلة تمنعه حتى من التخفيف عنهم.
الأولوية العاجلة في المدى المنظور، إعادة تشكيل الشعب من جديد، ليس من ناحية إعادة تثقيفه بشعارات المقاومة والممانعة، ورفع لواء سحق المعارضة تحت غطاء القضاء على الإرهاب فقط، بل السعي لتنفيذ فكرة التجانس المعلَن عنها، وذلك بالعمل على تأمين النقاء بين طبقات الشعب وأفراده، ما يساعد على الانسجام بين جميع الأديان والمذاهب في دين واحد، هو دين الولاء للنظام.
التصوُّر المتكامل لهذا التجانس، ينظر إلى الشعب كقوّة عمياء لا عقل لها، خاصة بعدما أصبح كتلة من المنهكين والجائعين التوّاقين للعيش بأمان، وبالحد الأدنى من تأمين المواد الضرورية للبقاء على قيد الحياة. هذا ما سيدفع النظام إلى تنفيذ أفكاره وبالشكل النموذجي، فالأجواء مهيّأة بعد الانتصار العظيم الذي حقّقه في حربه الكونية، وبالتالي لن يرضى من الشعب بأقل من الموالاة المطلقة التي أُجبر عليها في الحرب، وحَصد نتائجها بكلفة ضئيلة، مائة ألف قتيل من مؤيّديه، ومعهم المضطرّون لتأييده، لم يقدّم لأهاليهم شيئاً يُذكر.
يواجه العملُ على فكرة التجانس بعض الصعوبات، فهي أشبه بإعطاء الشعب جنسية جديدة، وُلدت من ظروف الحرب، تحقيقُها يعتمد على إدراج الشعب في قالب واحد، موحّد ومتماسك، خطّة لا يمكن إنجاحها إلّا بإخفاء التنوُّع والاختلافات وإلغاء تعدُّد الآراء، بادعاء إعادة تأهيل سورية العظيمة الخارجة من الموت، يحف بها الخراب، وما هذا الخراب سوى الرماد الذي تصنع منه معادن الرجال والأوطان.
تنبع أهمية فكرة التجانس أنها، من ناحية إيجابية، اعترافٌ بتنوّع الشعب السوري، وإلّا لما كانت الدعوة إلى التجانس، تحتمها الحرب التي صهرت الجميع في بوتقة واحدة، ولفظت المختلف إلى ما وراء الحدود، سواء إلى الخيام أو إلى بلدان الاغتراب، وأبقت على المؤهّلين للتجانس.
إن العقبة التي ستنشأ هي أن المختلفين غير القابلين للتجانس في مفهوم النظام يُعدّون بالملايين، ما دام أن الدولة وضعت كل من تظاهر واحتج أو شارك في الإغاثة والمساعدة، في خانة التآمر أو الخيانة؛ المهمّة فوق طاقتها، ولو كانت ستوكل إلى الأجهزة الأمنية، بينما الذين حملوا السلاح وما يزالون داخل البلد، ولو تصالحوا مع النظام، فالتعامل معهم أسهل، سيكون باستئصالهم.
أمّا اللاجئون في الخارج، فلا ضمانات تمنحهم أية حصانة مقابل عودتهم إلى الوطن. الدولة ستطبِّق عدالتها تلك التي ستهتدي بفكرة التجانس، وهي أن على السوريّين كافة أن يكونوا نسخة طبق الأصل عن أنموذج مُودَع لدى أجهزة الأمن.