تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة من العربية. "تبذل البلدان العربية أموالاً طائلة على ترجمة الأدب والفكر العالميَّين إلى لغة الضاد، لكنها تنسى أن دورها أوّلاً هو إيصال إنتاجها المعرفي إلى العالم"، تقول المترجمة المغربية.
■ كيف بدأت حكايتكِ مع الترجمة؟ وما أوّل كتاب ترجمتِه وكيف جرى تلقّيه؟
حكايتي مع الترجمة مرتبطةٌ بأستاذي الراحل جمال الدين بن الشيخ. التتلمذُ على يديه، وهو صاحب الترجمة الدقيقة لـ"ألف ليلة وليلة" و"الإسراء والمعراج" وغيرها، أفضى بي إلى حمل هذا التحدّي بدوري وتوظيف لغتَين أعشقهما وتتعايشان بداخلي لتمرير نصوص، بلغتها وأفكارها وبالحيوات التي تنبض فيها، من موضع تعرفه وتألفه إلى موضع مختلف تُشعل فيه مصابيح تُولَد من رحم ظلمات الجهل التي نعيشها. ترجمتي بدأت بـ"الكتاب الموشّى" أو "الظرف والظرفاء" لأبي الطيّب الوشاء البغدادي، وهو من القرن الثالث الهجري. صدرت الترجمة عن "دار غاليمار" في باريس، وقد اعتمدتها جامعاتٌ من بلدان مختلفة، وهذا يدل على أن الترجمة حافظت على الكتاب الأصل من حيث هو مرجع في الأدب القديم.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتِها، وماذا تترجمين الآن؟
آخر ترجمة لي في التراث هي كتاب "أدب النديم" لصاحبه كشاجم، وقد صدرت عن دار "آكت سود" في باريس. وفي الأدب الحديث، رواية "من قال أنا" للمغربي عبد القادر الشاوي، والتي صدرت في الشيلي، وستصدر في طبعة مغربية قريباً. أنا في انتظار صدور ترجمة "محاولة عيش" لمحمد زفزاف بمناسبة "المعرض الدولي للكتاب والنشر" في البيضاء، وأواصل ترجمة كتاب "الصداقة والصديق" لأبي حيان التوحيدي ببطء السلحفاة... السلحفاة لا تتراجع أبداً على حدّ قول بعضهم.
■ ما العقبات التي تواجهك كمترجمة من اللغة العربية؟
بالأحرى، ما هي العقبات التي لا تواجهني؟ الطريق كلّها ملغومة بالغريب والوحشي والاستعارات والإشارات والكنايات والأضداد والبلاغات... هذا في القديم أكثر حدّةً وأبلغ متعةً حين تقف على الترجمة الدقيقة. كلمةُ "هيام"، مثلاً، معضلة لوحدها. أين لك بكلمة فرنسية تحمل بين طيّاتها معاني العطش والصحراء والتيه وبلوغ المورد والورد الذي لا يزيد الناقة إلّا عطشاً حتى يُوصلها إلى حتفها؟ اسم من أسماء الحب هو.
■ نلاحظ أن الاهتمام يقتصر على ترجمة الأدب العربي وفق نظرة واهتمام معيّنَين، ولا يشمل الفكر وبقية الإنتاج المعرفي العربي، كيف تنظرين إلى هذا الأمر وما هو السبيل لتجاوز هذه الحالة؟
لا سبيل لتجاوز هذه الحالة إلّا بتنشيط حركة الترجمة ووضعها في قلب اهتمامات ومهام البلدان. تعكف البلدان العربية بدرجة ما على ترجمة الأدب العالمي إلى العربية، إلى جانب شتّى المجالات كالفلسفة والتاريخ وغيرهما، وتبذل في سبيل ذلك أموالاً طائلة، لكنها تنسى أن دورها أوّلاً هو إيصال الإنتاج المعرفي العربي إلى العالم ومن ضمنه الغرب. من المعيب ألّا نجد ترجمةً كاملة لكتاب "الصداقة والصديق" مثلاً، والذي يقع في ما يقرب خمسمئة صفحة، مع العلم أنه من الكتب النادرة التي تتوسّع في مفهوم الصداقة بمعناه الفلسفي... وهذا غيض من فيض.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
شخصياً، تفاديت هذه المشكلة باختياري لما أترجمه وترجمته دون عقد، ثمّ عرضه بعد ذلك على الناشر. ثمن الحرية باهظ، ولكن صلب الموضوع هو الدفاع عن المنتوج غير المرغوب فيه، أو الذي لا يدخل في قوالب معيّنة لدور النشر، كالحجم مثلاً. كيف يُعقَل أن نترجم وننشر شذرات من كتاب يُعتبر مرجعاً مهمّاً في هذا الموضوع أو غيره؟ في فرنسا، مثلاً، ثمّة طبعات خاصة تنشر شذرات من هذا الكتاب أو ذاك، ولكن بعد النشر الكامل للكتاب، وهذا لا يسري على الكتب العربية. بمعنى أن الكتاب العربي، وحتى التراثي منه، يظل تحت وطأة إكراهات النشر وعدد المبيعات وغيرها.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمينها، وإلى أي درجة تتوقفين عند الطرح السياسي للمادة المترجَمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
بصفة عامة لا. ولكن يحدث ذلك أحياناً؛ فمثلاً، اختياري ترجمة "محاولة عيش" لزفزاف غيرُ خالٍ من الطرح السياسي. بعدما هاجَمَت إحدى الصحف المغربية هذه الرواية في 2009، مستنكرةً اعتماد رواية "لا أخلاقية، تدور أحداثها في الحانات" لتلاميذ السنة التاسعة. هذه الترجمة محاولةٌ منّي للردّ على قصيري النظر الذين يتوقّفون عند القشور ويرفعون شعارات الفضيلة دون مناسبة، ويجرحون نصّاً لمجرّد أنهم رأوا فيه ما جال بخاطرهم وهو عن ذلك بعيد. "محاولة عيش" تحكي واقعاً اجتماعياً مرّاً ما زالت تُعاني منه الملايين، روايةٌ تلعن الفقر والقهر والظلم وغياب العدالة، وهذا ذنبها الوحيد؛ صدقُها.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجمين له؟
عادةً أُترجِم للأموات، فتكون علاقتنا سريالية محضة. صدقاً، لا علاقة لي بالكاتب، أمّا مع النص فنعم. أتفاعل كثيراً معه ويُصبح كأنه جزء منّي وأرتبط به حدّ الألم. أتذكّر لحظات ترجمة عصيبة حين أتوغل في القصيدة أو الرواية أو مواضع منها. النص الصادق يلبسني وألبسه. أحياناً يكون صاحبه قريباً لي أو غالباً، لأنني أبحث دائماً عن كتابة صادقة وصاحبها يشبهها وهذا نادر.
■ كثيراً ما يكون المترجِم كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتبة والمترجمة في داخلك؟
لا أشعر بأدنى تناقض بينهما... هذه تدعم الأخرى.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسيرين وفقها كمترجمة، وهل لك عادات معيّنة في الترجمة؟
مبدأ الصدق والبحث المتفاني والوصول بالنص في الترجمة إلى أقصى حدّ ممكن من المصداقية.
■ كتاب أو نص ندمتِ على ترجمته، ولماذا؟
لي مبدأ في الحياة بصفة عامة هو ألّا أندم على ما فعلت، لأنني أعتقد أنّنا نتعلّم من كل شيء. حتى الكتب التي حزنت لترجمتها علّمتني ألّا أعود لاقتراف أخطاء مماثلة وأوضحت لي زلّاتي في فترات مختلفة من حياتي. الترجمة حياة يمر عليك فيها الغث والسمين.
■ ما الذي تتمنينه للترجمة من اللغة العربية؟ وما هو حلمك كمترجمة؟
حلمي في هذا المجال أوسع من عمر. تنتظرني الترجمة الكاملة لبعض روائع أبي حيّان التوحيدي؛ ككتاب "الصداقة والصديق" و"الإشارات الإلهية"، ولابن داوود "كتاب الزهرة" بجزأيه الضخمين وكتب ورسائل من حجم أصغر، ولكنها لا تقل أهمية، وأمنيتي هي أن تنتبه البلدان العربية إلى هذا الأمر وتتحمّل مسؤوليتها من جهة التمويل. الأدب العالمي طبعاً يُغنينا، ولكن حصيلتنا المعرفية لا بد لها أن تتموقع داخل إطار عالمي عن طريق الترجمة. فكما أن هذه البلدان تساهم بكثافة في نشر المنتوج المعرفي العالمي، عليها أن تُعطي الأولوية لترويج حصيلتها المعرفية.
■ ما هي المزايا الأساسية للأدب العربي ولماذا من المهم أن يصل إلى العالم؟
أعتقد أن "الكتاب الموشّى" للوشاء يجد مكانه ضمن الأدب العالمي لكونه من أهمّ الكتب التراثية حول موضوعَي الفن والجمال. يخوض في الحب والصداقة بدقّة الفيلسوف الحكيم ويحلّل قيم الأدب والظرف والمروءة. ترجمة التراث بالنسبة إليّ مشروع حياة متواصل وبحث عن الذات وإعطاء معنى لوجودي كإنسانة تنتمي لهذه الحضارة، موجودة في الغرب وتحمل بعضاً من مسؤولية التعريف بالثقافة العربية لإخراجها من الانزواء الذي تعاني منه والصورة الظلامية المنغلقة التي تنغمس فيها ولأنها أهل لذلك، وأيضاً كإنسانة ترغب في تحقيق مبادئ سامية مستقاة من الشرق والغرب معاً. كيف أكون صديقة مخلصة إذا لم أفهم معنى الصداقة؟ وكيف أحب إذا كنت جاهلةً لمعنى العشق والجمال؟
بطاقة
لا تغفل سهام بوهلال، المترجمة والشاعرة والروائية المغربية المولودة في الدار البيضاء عام 1966، عن الإشارة إلى تأثير أستاذها ومترجم "ألف ليلة وليلة"، جمال بن الشيخ (1930 - 2005) على مسارها في أكثر من سياق، أهمّها نقل جماليات التراث الأدبي العربي إلى قارئ معاصر في ثقافات مغايرة. من بين ترجمات بوهلال إلى الفرنسية: "الكتاب الموشى" (منشورات غاليمار/ الصورة) عام 2004، و"أدب النديم" عام 2009.