مفاوضات جنوب السودان: عربة بلا حصان

05 يناير 2015

متنافسات على لقب ملكة جمال جنوب السودان (15 نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
انتهت، في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، جولة جديدة من المفاوضات بين طرفي النزاع في دولة جنوب السودان الوليدة، حكومة الجنوب التي يقودها الفريق سيلفا كير والحركة الشعبية المعارضة بقيادة الدكتور رياك مشار النائب السابق لرئيس الجمهورية، والتي تجري في أديس أبابا، بوساطة من الهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق أفريقيا (إيقاد).
لم تسفر الجولة عن شيء، ولم تتقدم المفاوضات خطوة عمّا سبق الاتفاق عليه، وهو الاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية موسعة، بمشاركة كل الأطراف، حكومة الأمر الواقع بقيادة سيلفا كير، المعارضة المسلحة بقيادة مشار، أحزاب المعارضة الداخلية، مجموعة المعتقلين السابقين من قيادة الحركة الشعبية بقيادة الأمين العام السابق، باقان أموم.
ويمكن أن ينظر لهذه الخطوة وكأنها لا تعني شيئاً، فهي ليست مجرد وضع العربة أمام الحصان، بل أكثر من ذلك، فهي عربة بلا حصان، ولن تضيف شيئاً لجهود وقف القتال وحل النزاع في جنوب السودان. فلا يزال الفصيلان الرئيسيان في الصراع يتقاتلان في مواقع كثيرة من الجمهورية الوليدة، وإن قلّت حدة الاشتباكات كثيراً. ولا يزال الطرفان يحتفظان بجيشين منفصلين، يقومان على أساس قبلي واضح، على الرغم من محاولتهما إنكار ذلك، مع وجود مجموعات وميليشيات مسلحة منتشرة في أقاليم لا تعمل بإمرة الطرفين الرئيسيين. كذلك، لا تزال فجوة عدم الثقة بين الطرفين كبيرة، وهي تتسع كل يوم، واتفاق وقف إطلاق النار الذي توصل إليه الطرفان، قبل فترة، يتعرض للانتهاك يومياً، ويتبادل الطرفان المسؤولية عن ذلك.
صحيح أن الخلاف الأساسي بدأ سياسياً بين مجموعتين، داخل حزب الحركة الشعبية الحاكم، مجموعة بقيادة الرئيس سيلفا كير، ومعه نائب رئيس الحركة الشعبية، جيمس واني إيقا، ومجموعة أخرى بقيادة نائب رئيس الجمهورية، في ذلك الوقت، الدكتور رياك مشار، ومعه الأمين العام للحركة، باقان أموم، وعدد آخر من الوزراء والقيادات ضمت دينق ألور، ألفريد لادو، تعبان دينق، كوستي مانيبي، بيتر نيابا أدوك، الدكتور مجاك أقوت والدكتور لوكا بيونق. وكانت المجموعة الأخيرة تتهم الرئيس بتهميش أجهزة الحركة الشعبية وسوء الإدارة والفساد، والاعتماد على كوادر ليست لها صلة تاريخية بالحركة الشعبية. وكان ما يميز مجموعة القيادات المعارضة أنها متنوعة قبلياً، بحيث يصعب اتهامها بالتحرك على أساس قبلي. فالدكتور رياك مشار ينتمي لقبيلة النوير، بينما ينتمي باقان أموم لقبيلة الشلك، أما دينق ألور ومجاك آقوت فهما من الدينكا، أكبر قبائل الجنوب، والتي ينتمي لها الرئيس سيلفا كير، وهناك قيادات أخرى تنتمي لقبائل الاستوائية.
وتطور الخلاف إلى درجة إبعاد الرئيس سيلفا كير كل رموز مجموعة الدكتور مشار من الحكومة ومن أجهزة الحركة الشعبية، بما في ذلك الأمين العام، باقان أموم. ثم اتهم بعضاً من هذه القيادات بالفساد وقدمها للمحاكمة. وتأزمت الأمور أكثر ووصلت إلى قمتها في
 ديسمبر من عام 2013، حين اتهم الرئيس سيلفا كير هذه المجموعة بالتخطيط للقيام بانقلاب عسكري، واعتقل عدداً منهم، في حين اختفى رياك مشار ومساعده تعبان دينق من العاصمة جوبا، ليظهرا في منطقة خارج سيطرة الحكومة.
واشتعلت المعارك داخل العاصمة جوبا بين الوحدات الموالية للرئيس سيلفا كير، ومعظمها من قبيلة الدينكا، وبين مجموعات تنتمي لقبيلة النوير التي ينتمي لها رياك مشار. وقالت تقارير المنظمات الدولية إن تلك الأيام شهدت مذابح واسعة في جوبا على الهوية للمنتمين لقبيلة النوير، وصلت إلى درجة مطاردتهم داخل معسكرات الأمم المتحدة التي لجأوا إليها. ولجأ مشار وتعبان دينق للأقاليم التي تقطنها قبيلة النوير، وبدأ الصراع المسلح يأخذ طابعاً قبلياً واضحاً، وسجلت المنظمات الدولية انتهاكات واسعة، ارتكبتها قوات الطرفين.
وقدمت حكومة سيلفا كير القيادات المعتقلة في جوبا، وهم 11 شخصاً، وفيهم باقان أموم ومجاك أقوت وكوستي مانيبي وأوياي دينق، للمحاكمة بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري، لكن اضطرت، في النهاية، لوقف المحاكمة وإطلاق سراحهم، لضعف الأدلة وتكاثر الضغوطات الدولية. ولم يكن الموقف الذي أعلنته هذه المجموعة، بعد إطلاق سراحها، مفاجئاً، فقد رفضت الانضمام للدكتور رياك مشار، على الرغم من أنها أعلنت اتفاقها معه في المطالب التي يرفعها، لكنها ترفض استخدام السلاح، وتفضّل المقاومة المدنية السلمية. لهذا، شكلت ما سمّته الطريق الثالث. ويبدو هذا الموقف مبرراً، بحسب تكوين هذه المجموعة، المتنوعة في انتماءاتها القبلية، بحيث يصعب عليها أن تتخذ موقفاً في الصراع القبلي بين سيلفا كير ومشار. كذلك فإن معظم القيادات، وإن كانت في الماضي جزءاً من الجيش الشعبي، إلا أنها ليست ذات خلفية عسكرية، وليس لها مجموعات مسلحة، ولا نفوذ كبير داخل الجيش الشعبي. لذا، يبدو العمل المدني السلمي الأكثر ملاءمة لها ولخبراتها.
من ناحية أخرى، نجح سيلفا كير، في البداية، بكسب أحزاب المعارضة الداخلية إلى جانبه، بل وضم ممثليها للوفد الحكومي في الجولات الأولى للمفاوضات التي شارك فيها رئيس حزب الحركة الشعبية ـ التغيير الديمقراطي، الدكتور لام أكول. لكن، سرعان ما تململت هذه الأحزاب، وقررت المشاركة في المفاوضات بطريقة مستقلة، وفوجئ وفدها حين حاول مغادرة العاصمة جوبا، متجهاً إلى مقر المفاوضات في أديس ابابا، بمنعه من السفر، بقرار من الرئيس سيلفا كير.
هكذا، صارت هناك أربعة أطراف تتحرك في ساحة التفاوض، وفد حكومة سيلفا كير برئاسة نيال دينق، وفد الحركة الشعبية المعارضة برئاسة مشار، ينوب عنه تعبان دينق، وفد مجموعة الطريق الثالث بقيادة باقان أموم، ووفد أحزاب المعارضة الداخلية الذي يتغيّر ممثلوه بين حين وآخر. على الرغم من هذا، يقول تقرير لمجموعة الأزمات الدولية إن هذه المجموعات، وحدها، لا تمثل الحراك الحادث على الأرض، وإن هناك ميليشيات قبلية في عدد من الأقاليم لديها وجود ونفوذ، وتحتاج إشراكها في حوارات التفاوض، ولو على المستوى المحلي.
هكذا يبدو المشهد معقداً، تختلط فيه المواقف السياسية والولاءات التنظيمية بالانتماءات القبلية، تظلله مرارات كثيرة وخلافات تاريخية، عمّقتها الانتهاكات الواسعة التي حدثت خلال عام من الحرب الأهلية، في دولة وليدة، لم تستقر أركانها بعد. وفوق هذا وذاك، تحيطها المطامع الإقليمية والدولية والتدخلات الأجنبية، ليس عبر وجود وحدات للجيش الأوغندي، تقاتل إلى جانب قوات سيلفا كير فقط، ولكن، هناك مؤشرات على وجود أصابع أخرى، تلعب في الخفاء وفي العلن.
لهذا، يبدو الاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية بمشاركة واسعة، قبل حلحلة قضايا معلقة كثيرة، ووضع الأساس لبناء جديد، مثل الرسم على الماء، لن يترك أثراً أو يضيف جديداً. ولا يبدو منطقياً تصور أن كل هذه الجماعات يمكن أن تشارك بوضعها الحالي في حكومة واحدة، وتنجز شيئاً، فما بينها من الخلافات والعداءات أكبر من كل تصور.
تحتاج قضية جنوب السودان لمدخل مختلف ورؤية جديدة، تخاطب جذور النزاع، وتطرح تصورات جديدة لحكم فيدرالي واسع، يرضي الأقاليم المختلفة، وربما أيضاً قيادات جديدة، تقود البلاد في هذه المرحلة الحرجة.
دلالات
E69D475A-C646-467F-AF79-E645475CAAF5
فيصل محمد صالح

كاتب وصحفي سوداني، ومحاضر جامعي. يعمل مديرا لمركز طيبة برس للخدمات الإعلامية، وكانب عمود يومي في صحيفة الخرطوم. حاصل على الماجستير من جامعة كارديف. تولى رئاسة تحرير صحيفة الأضواء. حاصل على جائزة بيتر ماكلر الأميركية للنزاهة والشجاعة الصحفية.