04 نوفمبر 2024
مفارقات الانقلاب في تونس
ينطوي الحديث عن الانقلابات في تونس على جملة من المفارقات الطريفة، ذلك أنه جرت العادة ألا يتحدث عن الانقلابات في الدول العربية إلا بعد نجاحها، فتصبح آنذاك "ثورةً"، يهلل لها الجميع وما أكثرها. أما إذا ما فشلت، فإن المقصلة هي أبلغ الألسنة المتكلمة عنها. لا شيء شبيه بذلك حدث في تونس في الأسابيع القليلة الماضية. ولكن يتحدث الناس عن سيناريوهات انقلابٍ كاد يحدث، حسب زعمهم، حتى غدا الأمر حديث المقاهي والتندر.
ذلك مؤشرٌ مهم إلى أمرين، أولهما حرية التعبير الفسيحة التي يتمتع بها التونسيون، وهي العدو رقم واحد للانقلابات وضحيتها في الوقت نفسه، فكلما اتسعت حرية التعبير وتمكّن الإعلاميون وعموم المواطنين من مصادر المعلومة والتعليق، واتخاذ المواقف بكل حرية، كانوا عونا للمجتمع على مقاومة الانقلابات والتصدي لها إن وقعت فعلا. أما الأمر الثاني فهو تحول أمر الانقلابات إلى موضوع رأي عام، وهذا في حد ذاته تدرب ثقافي على مناهضة الانقلابات، وجعلها من المحظورات في الثقافة السياسية، وذلك مما يذكّرنا بصمود الشارع التركي في وجه الانقلاب وإفشاله، حتى إن تواطأت أجهزة أمنية أو عسكرية وتورّطت فيه.
ليست المرة الأولى في تونس، التي يثار فيها أمر الانقلابات، فقد سبق لرئيس الجمهورية
السابق، المنصف المرزوقي، الإشارة، بصفة غامضة وغير دقيقة، إلى محاولة انقلاب، لكنه لم يعط تفاصيل. وقد طالبه بعض خصومه بفتح تحقيق في ما ادّعى. ومع ذلك عمّقت تصريحاتُه الشحيحة حالة الغموض تلك. وتكرّرت إشارات مسؤولين سابقين، ولو على سبيل المجاز، إلى محاولات انقلاب، غير أن أسطع مثال صادم في هذا السياق دعوة أحد أعضاء مجلس النواب، في برنامج إذاعي مباشر في إبريل/ نيسان الماضي، الجيش إلى القيام بانقلاب، وحثّه على إصدار البلاغ رقم واحد، طالبا منه، في الوقت نفسه، وضع حد لما سماه "عبث الطبقة السياسية". واضطر النائب في ما بعد، تحت ضغط الرأي العام واستهجان زملاء عديدين له، إلى التوضيح والاعتذار.
مع ذلك، لدى الشعب التونسي قابلية لاستقبال مثل هذه السرديات المشوقة عن انقلابات، على الرغم من أنه أقل الشعوب العربية اكتواء بها، فتاريخ تونس السياسي الحديث والمعاصر لم يعرف انقلابات عسكرية أو أمنية، فقد اختار الزعيم الراحل، الحبيب بورقيبة، منذ الاستقلال، حكما مدنيا، وكان آنذاك استثناء في محيطه العربي والأفريقي، وظلت مهمة الجيش، منذ ذلك التاريخ، في الثكنات، وعند الاقتضاء في مواقع التنمية والأشغال الكبرى. وكان بورقيبة، بطبيعة تكوينه العلمي في فرنسا، علاوة على محاولة الانقلاب المبكرة التي قادها العسكري، لزهر الشريطي، مجافيا للعسكر. وقد دفع هذا الإرث زين العابدين بن علي إلى ابتكار انقلاب طبي على بورقيبة، وهو الذي كان قد تمدّن قبل ذلك، وتولى حقائب وزارية، خلع بمقتضاها زيه العسكري، واستقر بربطة العنق في المكاتب الوثيرة، وتدرب على الوزارة، حتى بلغ رئاسة الحكومة سنة 1986. كان هذا الإخراج المدني للانقلاب نابعا من تلك الثقافة المدنية التي تشكلت في مجتمعٍ لم يستمع إلى البيان رقم واحد، ولم تعرف أجيال بأكملها دبابة تسير في الشوارع.
ربما هذه الأسباب جعلت من الثورة التونسية سنة 2010 ثورة سلمية مدنية، وقف فيها الجيش على شكلٍ من الحياد الإيجابي. وما زالت أسرار هذا الموقف غامضة، ولكن تصرف الجيش بكثيرٍ من الاستقلالية والروح الوطنية العالية، ولم ينقضّ على السلطة، فقد كرر رئيس أركان القوات المسلحة التونسية، رشيد عمار، في مواقع عديدة "لقد وجدنا السلطة ملقاة في الشارع، ورفضنا تسلمها، وآثرنا الحفاظ على الوطن وسلامته". وعلى الرغم من تلك التصريحات، مازالت تلاحق الرجل بعض الاتهامات، وهو الذي أقاله الرئيس المرزوقي في ظروف وملابسات لا تزال غامضة.
ومع ذلك، عاد الحديث بقوة عن محاولة انقلاب، على أثر ما أورده صحافي فرنسي ممن اشتهروا بالكتابة عن تونس إبّان النظام السابق، وخصوصا فيما تعلق بإمبراطورية المصاهرة، ودور زوجة بن علي تحديدا. وما زالت التفاصيل في معظم ما كتب تثير أسئلة محيرة بشأن صحتها ومصادرها. ولكن يبدو أن الرجل كان يمتلك شبكة دقيقة من المتواطئين، وخيالا بوليسيا يجعل من التحقيقات الصحافية تلك أفلاما لا تخلو أيضا من التشويق والدهشة. وجاء تقريره المنشور أخيرا، على أثر إقالة وزير الداخلية، لطفي براهم، في الخامس من يونيو/ حزيران الجاري، وهو أول وزيرٍ بعد الثورة يأتي من خلفية مهنية أمنية، في مخالفة لتقاليد سياسية تونسية استبعدت هذا المسلك، فالوحيد الذي اتبع هذا المسلك، وأشرف على وزارة الداخلية وهو أمني، هو الرئيس المخلوع السابق، زين العابدين بن علي، الذي أقدم على انقلاب "أمني طبي"، وقد يكون هذا جزءا من التحفظات التي واجهت وزير الداخلية المقال، إذ تنهض الشائعات على تحفظات الرأي العام عموما، كما أن موجة الإقالات والتسميات التي تجاوزت المائتين، والتي أعقبت مباشرة إقالته، في ظل شح المعلومات المتعلقة بأسبابها، غذّت تلك الإشاعات، وعلى الرغم من تكذيب رئاسة الحكومة ووزيري الدفاع والداخلية، فإنها ظلت تلاحق وزير الداخلية هذا.
ما تفسير ذلك؟ لا يتعلق الأمر بأي محاولة انقلابٍ قد تكون حدثت، بل يعود ذلك إلى سياقٍ
خاص تعرفه تونس منذ ثورتها، يشعر التونسيون أنهم مستهدفون، بسبب ثورتهم تلك، من محيط عربي معادٍ لتلك التجربة، على الرغم من أنهم لم يصدّروها، وليسوا معنيين أصلا بذلك، فهم يعتقدون أنها "بضاعة محلية" لا تستهوي غيرهم. ظل هذا الاستثناء التونسي مزعجا، يتربص به الجميع تقريبا، وقد تعمقت تلك المشاعر بعد انقلاب مصر، فهذا السيناريو المصري دعم هذا الرهاب الجماعي من الانقلاب، حتى لدى النخب، وخصوصا لدى حركة النهضة.
كما أن من شأن الشكوك المتنامية بشأن اختراق لوبيات ومصالح متنفذة أجهزة الدولة، بما فيها الأكثر حساسيةً، على غرار وزارات الداخلية والدفاع والقضاء، أن تدعم هذه الفرضية، خصوصا في ظل حصانة "أمنية قضائية" لبعض الشخصيات المتورّطة، على غرار وزير للداخلية سابق ظل متحصنا بالفرار منذ أشهر. وهذا من دون إغفال صراع الأجنحة والخلافات الحادة بين الفرقاء السياسيين، على خلفية بقاء رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، أو رحيله، فهذا العامل بدوره يغذّي منسوب هذا المناخ الخانق الذي من شأنه أن يروّج إشاعة الانقلاب، في ظل مشاعر جماعيةٍ، ترى أن الطبقة السياسية (المدنية) برمتها قد أخفقت في حل مشكلات البلاد، ما يجعل الجيش مطلب بعضهم للخلاص والإنقاذ.
لا شيء يوحي بأن انقلابا قد حدث أو سيحدث في تونس. ولكن يبدو أن مناخ انعدام الثقة في الطبقة السياسية، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والتحرّش الإقليمي بالتجربة التونسية، قد غذّى هذا كله تلك المخاوف. ومع ذلك، ليس لدى المجتمع التونسي قابلية لأن تقود انقلابات.
ذلك مؤشرٌ مهم إلى أمرين، أولهما حرية التعبير الفسيحة التي يتمتع بها التونسيون، وهي العدو رقم واحد للانقلابات وضحيتها في الوقت نفسه، فكلما اتسعت حرية التعبير وتمكّن الإعلاميون وعموم المواطنين من مصادر المعلومة والتعليق، واتخاذ المواقف بكل حرية، كانوا عونا للمجتمع على مقاومة الانقلابات والتصدي لها إن وقعت فعلا. أما الأمر الثاني فهو تحول أمر الانقلابات إلى موضوع رأي عام، وهذا في حد ذاته تدرب ثقافي على مناهضة الانقلابات، وجعلها من المحظورات في الثقافة السياسية، وذلك مما يذكّرنا بصمود الشارع التركي في وجه الانقلاب وإفشاله، حتى إن تواطأت أجهزة أمنية أو عسكرية وتورّطت فيه.
ليست المرة الأولى في تونس، التي يثار فيها أمر الانقلابات، فقد سبق لرئيس الجمهورية
مع ذلك، لدى الشعب التونسي قابلية لاستقبال مثل هذه السرديات المشوقة عن انقلابات، على الرغم من أنه أقل الشعوب العربية اكتواء بها، فتاريخ تونس السياسي الحديث والمعاصر لم يعرف انقلابات عسكرية أو أمنية، فقد اختار الزعيم الراحل، الحبيب بورقيبة، منذ الاستقلال، حكما مدنيا، وكان آنذاك استثناء في محيطه العربي والأفريقي، وظلت مهمة الجيش، منذ ذلك التاريخ، في الثكنات، وعند الاقتضاء في مواقع التنمية والأشغال الكبرى. وكان بورقيبة، بطبيعة تكوينه العلمي في فرنسا، علاوة على محاولة الانقلاب المبكرة التي قادها العسكري، لزهر الشريطي، مجافيا للعسكر. وقد دفع هذا الإرث زين العابدين بن علي إلى ابتكار انقلاب طبي على بورقيبة، وهو الذي كان قد تمدّن قبل ذلك، وتولى حقائب وزارية، خلع بمقتضاها زيه العسكري، واستقر بربطة العنق في المكاتب الوثيرة، وتدرب على الوزارة، حتى بلغ رئاسة الحكومة سنة 1986. كان هذا الإخراج المدني للانقلاب نابعا من تلك الثقافة المدنية التي تشكلت في مجتمعٍ لم يستمع إلى البيان رقم واحد، ولم تعرف أجيال بأكملها دبابة تسير في الشوارع.
ربما هذه الأسباب جعلت من الثورة التونسية سنة 2010 ثورة سلمية مدنية، وقف فيها الجيش على شكلٍ من الحياد الإيجابي. وما زالت أسرار هذا الموقف غامضة، ولكن تصرف الجيش بكثيرٍ من الاستقلالية والروح الوطنية العالية، ولم ينقضّ على السلطة، فقد كرر رئيس أركان القوات المسلحة التونسية، رشيد عمار، في مواقع عديدة "لقد وجدنا السلطة ملقاة في الشارع، ورفضنا تسلمها، وآثرنا الحفاظ على الوطن وسلامته". وعلى الرغم من تلك التصريحات، مازالت تلاحق الرجل بعض الاتهامات، وهو الذي أقاله الرئيس المرزوقي في ظروف وملابسات لا تزال غامضة.
ومع ذلك، عاد الحديث بقوة عن محاولة انقلاب، على أثر ما أورده صحافي فرنسي ممن اشتهروا بالكتابة عن تونس إبّان النظام السابق، وخصوصا فيما تعلق بإمبراطورية المصاهرة، ودور زوجة بن علي تحديدا. وما زالت التفاصيل في معظم ما كتب تثير أسئلة محيرة بشأن صحتها ومصادرها. ولكن يبدو أن الرجل كان يمتلك شبكة دقيقة من المتواطئين، وخيالا بوليسيا يجعل من التحقيقات الصحافية تلك أفلاما لا تخلو أيضا من التشويق والدهشة. وجاء تقريره المنشور أخيرا، على أثر إقالة وزير الداخلية، لطفي براهم، في الخامس من يونيو/ حزيران الجاري، وهو أول وزيرٍ بعد الثورة يأتي من خلفية مهنية أمنية، في مخالفة لتقاليد سياسية تونسية استبعدت هذا المسلك، فالوحيد الذي اتبع هذا المسلك، وأشرف على وزارة الداخلية وهو أمني، هو الرئيس المخلوع السابق، زين العابدين بن علي، الذي أقدم على انقلاب "أمني طبي"، وقد يكون هذا جزءا من التحفظات التي واجهت وزير الداخلية المقال، إذ تنهض الشائعات على تحفظات الرأي العام عموما، كما أن موجة الإقالات والتسميات التي تجاوزت المائتين، والتي أعقبت مباشرة إقالته، في ظل شح المعلومات المتعلقة بأسبابها، غذّت تلك الإشاعات، وعلى الرغم من تكذيب رئاسة الحكومة ووزيري الدفاع والداخلية، فإنها ظلت تلاحق وزير الداخلية هذا.
ما تفسير ذلك؟ لا يتعلق الأمر بأي محاولة انقلابٍ قد تكون حدثت، بل يعود ذلك إلى سياقٍ
كما أن من شأن الشكوك المتنامية بشأن اختراق لوبيات ومصالح متنفذة أجهزة الدولة، بما فيها الأكثر حساسيةً، على غرار وزارات الداخلية والدفاع والقضاء، أن تدعم هذه الفرضية، خصوصا في ظل حصانة "أمنية قضائية" لبعض الشخصيات المتورّطة، على غرار وزير للداخلية سابق ظل متحصنا بالفرار منذ أشهر. وهذا من دون إغفال صراع الأجنحة والخلافات الحادة بين الفرقاء السياسيين، على خلفية بقاء رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، أو رحيله، فهذا العامل بدوره يغذّي منسوب هذا المناخ الخانق الذي من شأنه أن يروّج إشاعة الانقلاب، في ظل مشاعر جماعيةٍ، ترى أن الطبقة السياسية (المدنية) برمتها قد أخفقت في حل مشكلات البلاد، ما يجعل الجيش مطلب بعضهم للخلاص والإنقاذ.
لا شيء يوحي بأن انقلابا قد حدث أو سيحدث في تونس. ولكن يبدو أن مناخ انعدام الثقة في الطبقة السياسية، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والتحرّش الإقليمي بالتجربة التونسية، قد غذّى هذا كله تلك المخاوف. ومع ذلك، ليس لدى المجتمع التونسي قابلية لأن تقود انقلابات.