جمهوره ليس كبيرًا. من يتابعون أعماله منقسمون بآرائهم بين حبّ وكره لكل جديد يُقدّمه. رغم هذا، ليست موهبة المخرج اليوناني يورغوس لانتيموس (1973) محل شك بتاتًا من قِبَل الجميع. بُعيد الإعلان عن جديده "المُفَضَّلة"، المنتمي إلى فئة الأفلام التاريخية (البعيدة كل البُعد عن أفلام لانتيموس وأفكارها وحواراتها وحداثيتها المُتخطّية كثيرًا للسائد)، مال كثيرون إلى أنه فيلم عابر في تاريخ المخرج. يجوس عبره نمطًا ليس له. مجرّد تجربة تقليدية كلاسيكية سيطويها النسيان.
مشاركة "المُفَضَّلة" في المسابقة الرسمية للدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" لم تكن مُفاجئة، نظرًا إلى اسم يورغوس لانتيموس. التكهنات السابقة للعرض مائلة إلى التشكيك بأهمية الفيلم، قياسًا إلى المسيرة السينمائية للمخرج. بعد العرض وعند توزيع الجوائز، لم يكن مُفاجئًا أبدًا فوزه بجائزتي "الأسد الفضي ـ الجائزة الكبرى للتحكيم" وأفضل ممثلة لأوليفيا كولمان. مع ذلك، ظلّ الانقسام على حاله بين حُبّ الفيلم وكرهه، وبين قوّته وعدمها، إلى درجة اتهام لانتيموس بتخريب ذاك النوع من الأفلام، والتجرّؤ على تاريخه الرصين وقواعده.
"المُفضّلة" ليس أقوى أفلامه، مُقارنة بنتاجاته السابقة. الاستمتاع به محتاج إلى مرور نصفه تقريبًا. لكنه سيحظى باستقبال كبير لأسباب عديدة تتعلّق بسهولته وبساطته. فهو يُثبت أصالة المخرج وما يُقدّمه. المدهش أنه لم يحد فيه عن نهجه وأسلوبه وشخصيته، وعن كلّ ما يُميِّزه، وعمّا تتفرّد به أفلامه. لذا، لم يكن غريبًا أن يصنع فيلمًا تاريخيًا مغايرًا تمامًا للمُعتاد، إلى درجة وصفه بانتهاك هذا النوع السينمائي. هنا يكمن سرّ تفرّد "المُفضَّلة" وجماله، فلولا جرأة لانتيموس وانتهاكه النوع التاريخي، لأصبح الفيلم رتيبًا ومُملاً، ولا جديد فيه. هكذا يأتي الإبداع، وهنا يكمن التحدّي: خروج عن المألوف، وتجاوز للسائد، وتجريب من دون خوف.
لكن الأمر ليس مجرّد خروج وتجاوز وتجريب فقط، بل إضفاء بصمة جديدة. هكذا يتّضح سرّ إخراج الفيلم، وممارسة التجريب داخل النوع. في النهاية، لانتيموس يترك بصمته الخاصة من دون أن يسمح لتاريخ النوع بالتأثير عليه أو على فيلمه، كي لا يكون الأخير تقليديًا باهتًا. فنقطة انطلاقه كامنة في ضربه الحائط بكثيرٍ مما هو تاريخي ومعروف عن الملكة البريطانية آن، وهذا ليس سهلاً، لأن الملكة حكمت 18 عامًا، صارت إنكلترا خلالها، بعد اتحاد الدول، تُعرف بـ"بريطانيا العُظمى". يورغوس لانتيموس ليس مؤرّخًا، ولا يصنع فيلم سيرة حياتية عن الملكة وعهدها. لذا، هناك ما هو مختلفٌ عن الحقيقة والتاريخ والواقع. مثلاً: عدد أولاد الملكة (الفيلم يُحدّده بـ 17 والتاريخ بـ4)؛ أو مثلية الملكة (شائعة لا مجال لإثبات صحتها). هذا بخلاف شخصيتها (على حافة البارانويا) وأمراضها وتصرّفاتها شبه المُختلّة وغير المسؤولة.
أبرز جماليات الفيلم اللافتة للانتباه مُتمثلة في الحوار. تميّزت الأفلام السابقة للانتيموس بقوة حواراتها وتفرّدها (يكتبها بالاشتراك مع السيناريست الأثير لديه أفثيموس فيليبو). رغم أن "المُفضَّلة" هو أول عمل لا يُشارك في كتابته، معتمدًا فيه على كاتبي سيناريو جديدين هما ديبورا ديفيز وتوني ماكنمارا، لكن الحوار "يورغوسيًا" بامتياز. مُدهشٌ الاستماع إلى حوار فيلم تاريخي مليء بمفردات مُعاصرة للغاية، وألفاظ جريئة جدّا، وأحيانًا خادشة للحياء. في الوقت نفسه، الاقتناع بأنها تدور في أروقة البلاط أو في مجلس الشيوخ الإنكليزي في القرن الـ18.
كذلك ما يتعلّق بصراع ثلاثي، في السلطة والنفس والجسد والجنس. مُثلث، ذكوري عادةً في السينما أو الأدب، تشكلت أضلاعه من 3 نساء. بقدر ما كان الشدّ والجذب والاستحواذ والسيطرة والتحكّم والتسلّط على أشدّه بينهنّ، كان التنافس التمثيلي بالغ القوة والإثارة على أشدّه هو أيضًا بين أوليفيا كولمان في دور الملكة آن، وراشيل ويز في دور الليدي سارة، وإيما ستون في دور أبيغيل ماشام، التي انضمّت أخيرًا إلى القصر لإشعال الصراع.
الثُلاثي هذا، بخلاف المُبارزات المُلتهبة، يتلاعب برجال القصر والسياسة والجيش ومجلس الشيوخ وحزبي اليمين والمحافظين ونظام الضرائب، وهذا كلّه بشكلٍ مغاير للمُعتاد أيضًا في هذا النوع من الأفلام الدائرة أحداثها في أروقة البلاط، والتي يصعب وصفها كلية بـ"التاريخية".
نزع يورغوس لانتيموس كلّ قداسة وهيبة وأرستقراطية رسّخها ذاك النوع السينمائيّ. لم ينحطّ بها، لكنه كَسَر أنماطًا وقواعد راسخة كثيرة، حتى داخل النوع نفسه. هناك سُخرية وإثارة وخيانة وتشويق ودسائس ومكائد وعمق وغيرها داخل السياق، وكلّها غير مُقْحَمَة فيه البتّة. ونظرًا إلى براعة أداء الممثلات الـ3، ورشاقة الحوار وجرأته اللاذعة، والحبكة المسلّية والمشوّقة وجمال الصورة والإضاءة الخلابة للمَشَاهد، لم يشعر المرء بالملل، ولا بغرقه في مُشاهدة فيلم ينتمي إلى ذاك النوع التاريخيّ، ولا بأن الفيلم برمّته جرى تصويره في القصر، باستثناء مشاهد خارجية قليلة.
لم يكن ممكنًا بالنسبة إلى مخرج كيورغوس لانتيموس أن يكون التصوير عاديًا وغير لافت للانتباه، بذريعة مُراعاة المُعتاد غالبًا في تصوير هذا النوع السينمائيّ. ففي تصويره "المُفضّلة" مع مُصَوِّره الأيرلندي روبي ريان، حريصٌ على توظيف عدسات عديدة، والتنويع في استخدامات الكاميرا، وأحجام اللقطات وزواياها بطريقة أسلوبية حديثة للغاية، منحت جمالاً كبيرًا لمَشَاهد كثيرة، إلى منحها الشعور بمدى رحابة القصور وعظمتها وأبّهتها وديكوراتها وتصميماتها وإبراز الملابس وغيرها. كذلك توظيف تقنيات مُونتاجية، قديمة أو حديثة.
لا يعني ما سبق أن يورغوس لانتيموس صنع فيلمًا تاريخيًا جنح بالكامل ضد السائد. على عكس ذلك، فإنّ الديكورات والملابس والاكسسوارات الأخرى وغيرها المتعلّق بالحبكة والشخصيات التاريخية ضاربة بجذورها في صميم هذا النوع من الأفلام.
بخلاف الفنّيات والتقنيات الأسلوبية، لا يخلو "المُفَضَّلة" من حبكة. فهي، رغم بساطتها ومألوفيتها، تتّسم بالعمق، دراميًا ونفسيًا. كما أنه لا يخلو من عناصر سياسية متينة تشير إلى الواقع العالمي الراهن، وإنْ يكن العنصر النفسي أبرز، فهو محرّك درامية الأحداث ودوافع الشخصيات، وأوّلها الانتهازية والنرجسية، ما أكسب الفيلم عمقه على مستوى دواخل النفس البشرية عامة والنساء بصفة خاصة، لا سيما عندما تكون امرأة أخرى هي العدو. والعمق حاضرٌ أيضًا عندما يكون للحبّ أو السلطة أو الشهوة الدور الأكبر، وللفشل الشخصي للحاكم تأثير بالغ على الوضع العام للبلد.
الأكثر إثارة مما سبق قوله كامنٌ في أن إحكام السيطرة والفوز في تلك المباراة الثلاثية، في انقلاب ختامي مفاجئ للأحداث الدرامية، متأتٍ من طرف غير مُتوقَّع، في خاتمة قوية التأثير تُذكّر بأننا نُشاهد، فعليًا، فيلمًا ليورغوس لانتيموس.