معرض بيروت للكتاب: ختام الجمهورية الصغيرة

12 ديسمبر 2014
حنان الشيخ وعبّاس بيضون في المعرض (دار الجديد)
+ الخط -

التقاطع بين الطريق الرئيسية البحرية والوصلة الفرعية منها، المفضية إلى "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب"، يرسم معالم جمهورية جديدةً لن تُعمّر أكثر من أسبوعين، هي الفترة الزمنية التي شغلها المعرض في دورته الثامنة والخمسين (اختُتمت أمس)، الذي دأب "النادي الثقافي العربي" على تنظيمه منذ ما يُقارب الستة عقود.

تلك الجمهورية نموذج حيٌّ للدولة الموعودة، حيث الاختلاط والتمازج هما اللبنة الصالحة لكيان وطن تناهشت أساساته العصبيات والانقسامات السياسية، وحوّلته مناطق وكنتونات طائفية ومذهبية.

زوّار المعرض، كالعادة، لا يقتصرون على فئة عمرية محدّدة؛ نرى النساء والرجال والشيوخ والفتيان؛ يتوافدون بلا انقطاع. هذا ما جرت عليه العادة منذ 58 سنة، حتى أن الحرب، التي اشتعلت رحاها في هذا البلد الصغير سنوات طويلة، لم تحل بين هذا الحدث الثقافي وبين المداومين على حضوره الذين بات الذهاب إليه لاقتناء كتاب ما أو لحضور ندوة تقليدهم سنوياً. إنه، بكلمة أخرى، جسرٌ يصل ما انقطع بين اللبنانين ويعيد جمع ضفاف مفرّقة.

ليس لهذه الفسحة الزمنية التي شغلتها أيام المعرض مُوازٍ في يوميات اللبنانيين من ناحية ألفة المكان وحميميته رغم شساعته؛ فالحوارات والأحاديث الجانبية واللقاءات العابرة، شكّلت مشهداً يشير إلى قدرٍ من الحرّية والهدوء، تعزّزه في المقابل حرية تظهر تبعاتها في تفلُّت الكتاب من قبضة الرقابة والمنع.

البذخ والتمويل الكبير والتأنّق في إقامة معارض للكتاب في بلدان عربية كالإمارات والبحرين والكويت؛ كل ذلك لم يخطف الأضواء من معرض بيروت، فهو - رغم كل شيء - لا يزال عميد المعارض العربية، إذ يعمل على تجديد هيكليته ضمن مناخات من الحرية، تُيسّر له خصوصية قلما تحظى بها المعارض الأخرى، التي ترفع سقف الممنوعات، فتطال ليس الكتب الفكرية والعقائدية والسياسية فحسب، بل ينال كل من الشعر والرواية أيضاً نصيباً واسعاً.

اتسعت قاعات المعرض لعدد كبير من المحاضرات والندوات والأمسيات الشعرية وحفلات توقيع الكتب؛ وإن بدا بعضها هذا العام عابراً وفوضوياً، ولم ينتظم في سياق ما يُطمح اليه. لكنّ اللافت كان استعادة المعرض لأسماء لها حضورها على الساحة الثقافية.

وفي هذا السياق، برزت احتفالات التكريم لأعلام لبنانيين وعرب؛ مثل الاحتفاء بمئوية العلامة عبد الله العلايلي عبر ندوة أقيمت عنه، وتكريم الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج، والفنان نصري شمس الدين، والشاعرين المصري أحمد فؤاد نجم والفلسطيني سميح القاسم.

اللافت في هذه الدورة، المشاركة الكبيرة لدور النشر اللبنانية، التي قابتلها مشاركة ضئيلة لعدد من الدور العربية، وتقلُّص المساحة التي كانت تشغلها سابقاً؛ وإن بدا حجم مشاركة دور النشر السورية بعدد من عناوين الكتب العربية والمترجمة لافتاً. يقودنا هذا الحضور السوري إلى السؤال حول سوق الكتاب هناك في ظل جحيم الحرب الذي تعيشه البلاد، وعن النشر والتسويق اللذين يحتاجان ظروفاً ومناخات ملائمة.

لم تُجمع الدور المشاركة على رأيٍ واحد بالنسبة إلى عدد الزوار والعناوين المباعة. مدير التوزيع في "دار رياض الريس"، ناصر فليطي، قدّر نسبة التراجع بـ 50%، معيداً السبب بشكل جزئي إلى "تردّي الحالة الاقتصادية أولاً، ثم إلى الانقسام الطائفي الذي يُعطل لغة الكتاب". ويستغرب من الذين يقولون إن الثورة الإلكترونية أحدثت تراجعاً في عدد القراء، وشغلت الناس عن القراءة؛ متسائلاً: "كيف، إذاً، نفسّر ظاهرة القراءة في أوروبا التي أنتجت العوالم الإلكترونية؟".

من جهتها، بدت مسؤولة العلاقات العامة والتوزيع في "دار الساقي"، منال شمعون، أكثر تفاؤلاً بالمعرض الحالي، وقد لفتها إقبال متميز لطلاب المدارس والجامعات. وربما كانت مبادرة الدار في تهيئة لقاءات مناقشة مفتوحة حول إصدار جديد بحضور مؤلفه حافزاً للحضور.

الإحصاءات الأولية أظهرت تقدّماً في مبيعات الرواية العربية. لعلّه مؤشر جيد، يُعطي جرعة من الأمل. هذا ما تنبه إليه الناشرون، فعقدوا صفقات لنشر عدد من الروايات، رغم معرفتهم بأن داراً أخرى سبقتهم إلى نشرها. على سبيل المثال، قد يجد قُرّاء الروائي الجزائري واسيني الأعرج عناوين لروايات له منشورة عن كل من "دار الآداب" و"منشورات الجمل"، حتى أن عمله الأخير، "سيرة المنتهى"، كان قد صدر في جزأين وُزّعا مجاناً مع "مجلة دُبي الثقافية" تزامناً مع صدورها بنسخة واحدة عن "الآداب".

"أي دَور يمكن أن تلعبه دُور النشر لتعزيز سوق الكتاب ونشر الوعي الثقافي؟"، يتساءل مروان الأيوبي، عضو "النادي الثقافي العربي" وأحد المشرفين على سير أمور المعرض. ويرى: "لهذه الدور مسؤوليات مادية هي جزء من مقومات صمودها واستقرارها؛ لذا، لا نتفاجأ باختيار عناوين تجارية، تُدخلها السوق الاستهلاكية بحثاً عن الكتب التي تلقى رواجاً جماهيرياً".

ويضيف الأيوبي: "الفعل الثقافي فعل تحدٍّ، هدفه الأساسي رفع مُستوى الوعي الجمعي في ظل ما يواجهه من مخاطر وتحديات مرتبطة بقيم الحرية والديمقراطية وتأمين القدرات والإمكانات للنهوض وتأمين الاستقرار". وهذا، برأيه، لا يمكن أن نتلمّس له آفاقاً مُستقبلية بجهود فردية، بل "بتكاملٍ بين مُختلف القوى السياسية والمؤسسات الثقافية والفكرية وهيئات المجتمع المدني".

المساهمون