حين يتعلّق الأمر بثيمة المرأة، يبدو بعض الارتباك على منجز الفنان العربي؛ ذلك أن إرثاً ثقيلاً من هاجس الستر يضغط عليه، فيما تتنازع المبدع تجاذبات، ما يترك لوحته حبيسة شقّين في الغالب: تهويم متعمّد لملامح الجسد ومحاولات متوترة لستره بجماليات الطبيعة ومزيج الألوان، أو الخروج من حساسية التناول من خلال التركيز على الوجه وتحميله عبئاً جمالياً ثقيلاً في ظلّ غياب الجسد.
ولعل ما سبق، يعدّ انعكاساً لما تفعله غالبية النسوة العربيات على أرض الواقع من جنوح نحو إخفاء معالم الجسد وسترها بأردية فضفاضة مزخرفة ومورّدة، بطريقة مفتعلة في بعض المرات، وتشتيت نظر الآخرين، ونظرها هي نفسها، عن الجسد برمّته، والاستعاضة عن هذه الجزئية بمحاولة جذب عين الناظر نحو الوجه تحديداً.
يبدو ما ذكرناه جلياً في المعرض الاستعادي "المرأة في اللوحة"، الذي ينظّمه "غاليري رؤى" في عمّان، وانطلق في التاسع من الشهر الجاري ويستمر حتى الـ 30 منه، مستحضراً لوحاتٍ كان رسّاموها الستة عشر قد شاركوا من خلالها في معارض سابقة أقامتها الدار على امتداد عشرين عاماً، لتشمل طيفاً واسعاً من بلاد عربية وأجنبية، مثل سورية والأردن ومصر والعراق ولبنان وكندا وجورجيا وإسبانيا.
من بين ما استطاع المعرض لفت نظر الزائر إليه، فروقات تناول المرأة بين الفنان العربي والغربي؛ ذلك أنه في الوقت الذي يصرّ فيه الأول، ربما مُرغَماً، على حصرها في خانة الوجه الحائر والخائف والمترقّب والجزِع، كما في لوحات الفنان السوري نذير نبعة، فإن الغربيّ يُظهرها بحالاتها كافة، لا سيما تلك المتعلقة بالإبداع والعاطفة، فتظهر عازفة وراقصة وعاشقة ومغوية، كما في لوحات الكندي جوسيه فنتورا.
فاتح المدرّس، 74 × 49 سم، زيت على قماش، 1994 |
لا يزال جسد المرأة في جزء كبير من اللوحات العربية يقف هزيلاً متردِّداً، أو يحتمي بطفل يحتضنه، فيما يحضر واثقاً ومحتفياً بجماليات الحياة في لوحات الفنان الغربي، بل إن طيف الألوان واسع ومتدرّج ومتعدّد في أعمال مثل تلك التي رسمها فنتورا، بينما ينحصر غالباً بدرجات طينية ترابية، يكتنفها بعض الاخضرار الباهت أحياناً، لدى الفنان العربي، كما في لوحات العراقي فاروق حسن، على سبيل المثال لا الحصر، بل يتم تسخير اللون الباهت بعض الأحيان، بهدف تخفيف حدّة العاطفة الظاهرة في اللوحة، وهو ما ظَهَرَ جلياً لدى المصري جميل شفيق، الذي اختار الرمادي والأسود الباهتين لمشهد المرأة العاشقة.
يُلاحَظ أيضاً، من خلال لوحات المعرض، أن المرأة في اللوحة العربية تقف من دون متعلّقات أنوثة في الغالب، إنها تبدو صوفية زاهدة كما في لوحة اللبنانية رنا شلبي، أو ذات جسد محارب كما في لوحة المصري حلمي التوني، أو في أحسن الأحوال راقدة على كنبة بجسد ممتلئ يقترب من السمنة في لوحات العراقي حسن عبد علوان، فيما أوانيها ومزروعاتها المنزلية وهيئتها الكاملة تظهر في لوحة الجورجي روسدان خيزنشيفيلي.
حين يتعلق الأمر بتفاصيل الجسد، ترى الفنان العربي وهو يتحايل على ذلك بمزيج لوني ساتر ومموّه للمعالم، كما في لوحة الأردنية ريم أبو زيد والسوريّين فاتح المدرّس وغسان السباعي، أو من خلال التركيز على الوجه والجزء العلوي فحسب، كما في لوحة الأردني هاني الحوراني والعراقي إبراهيم العبدلي، أو من خلال سترها بأوراق الأشجار وبتلات الزهور وبعض الأسماك كما يظهر لدى السورية شلبية إبراهيم، بينما لا يكتفي الإسباني ألبرت كوما باو برسم الانحناءات فحسب، بل والأوضاع الجسدية المرنة كذلك.
حسن عبد علون، 45 × 60 سم، زيت على قماش (العراق) |
تعلّق القائمة على "غاليري رؤى"، الفنانة سعاد العيساوي، قائلة: "تنعكس البيئة والتربية على الفنان بشكل خاص؛ ذلك أنه مرآة لمجتمعه؛ لذا فالمرأة في أعمال الفنانين أعلاه منخرطة في قضايا وطنية ونضالية سياسياً واجتماعياً، بل ومندمجة بتكوين الأرض في أحيان كثيرة".
تسوق مثالاً عن إحدى لوحات نبعة، التي تعرف ملابسات صورة المرأة فيها، قائلة: "هي شاهدة على مذبحة قانا وويلاتها، لذا ظهرت بكل هذا الذعر والجزع. وهذا ما قصدته. ما من مناص من أن تطفو الأوضاع السياسية والاجتماعية المعيشة على لوحة الفنان".
تستذكر العيساوي، أثناء حديثها عن احتفاء اللوحة الغربية بقيمة المرأة جمالياً، عبارة لبيكاسو، وَرَدَت في كتاب "حياتي مع بيكاسو" لفرانسواز جيلو، يقول فيها: "المرأة إما أن تكون ملاكاً أو ممسحة"، وهو ما ظهر جلياً في لوحاته، بحسبها.
لعل قبول المتلقي للوحات فنانين غربيين، وهو يراهم إلى جانب مجموعة من الفنانين العرب، يشير إلى أن مساحة سوف تقطع قريباً على مستوى اللوحة العربية. فالنواقص التي تحدثنا عنها بخصوص حضور المرأة في اللوحة العربية، هي موجودة في المكان نفسه ضمن لوحة فنان غربي حاضر في المعرض. ولا شك أن ظهور المرأة أكثر فأكثر مع الحراك الذي تشهده المجتمعات العربية، سيغيّر من حضورها في اللوحة.