لا تبدو أزمة "معهد العالم العربي" في باريس، ذات نهاية منظورة، هذا هو الانطباع من لقاء "العربي الجديد" مع مديره الجديد الباحث والأكاديمي السعودي معجب الزهراني، الذي عُيّن قبل أشهر، من قبل "مجلس السفراء العرب" في باريس، إلى جانب رئيس المعهد، الفرنسي جاك لانغ. ولم يفوّت الزهراني الفرصة لإيصال العتب إلى بعض البلدان العربية التي أخلّت بواجباتها تجاه المؤسسة المعنية بنشر الثقافة العربية كما يقول.
* عما قريب، أي سنة 2017، ستكون قد مرت 30 سنة على افتتاح معهد العالم العربي بباريس، فهل حقّق هذا المعهد في نظركم، ما أراده مؤسّسوه الأوائل، من لعب دور "تطوير العلاقات بين فرنسا والعالم العربي"؟ وما هي التحديات التي تواجهه، خصوصاً أن الظروف تغيرت، منذ سنة 1987، وعلى جميع الأصعدة؟
- أرجو ذلك وأطمح في المزيد من النجاح، بكل تأكيد. استلمت وظيفتي منذ شهرين فقط. وكلما رجعت لبعض الوثائق الأساسية عن البرامج والفعاليات إلا وتيقنت أن هذه المؤسسة الثقافية الفريدة من نوعها في عموم أوروبا قدمت صوراً مشرقة مشرفة عن الثقافة العربية بمعناها الأكثر غنى وتنوعا وامتداداً في المكان والزمان. ولو تمكنا من تحسين الوضع المالي قليلاً فالمؤكد أن الجهد سيتضاعف، وإنني، شخصياً، سأباشر تطويراً كميّاً ونوعياً للبرامج والأنشطة التي ستجذب المزيد من الزوار. فالتحدي الأول والأهم الذي نواجهه جميعاً، هنا، يتعلّق بالجانب المالي، إذ إن ميزانية المعهد السنوية متواضعة جداً بالنسبة إلى مؤسسة ثقافية كبرى تعمل منذ ثلاثة عقود وأضيفت حديثاً إلى المعالم الباريسية الأهم في القرن العشرين.
* ما الذي يتوجب على المعهد أن يفعله حتى يجذب فئات لم يستطع لحد الساعة استمالَتَها، من نُخَب فرنسية منحدرة من أصول عربية وإسلامية؟
- كان المعهد يحتل المرتبة الثالثة من حيث عدد الزوار ثم تراجع للمرتبة الرابعة، والآن هناك ارتفاع ملحوظ، إذ من المتوقع أن يتجاوز العدد مليوني شخص هذا العام. ولا أدري ما المقصود بالفئات التي يتعيّن علينا استقطابها لأن من يزور المعهد سيلاحظ أن مرتاديه كثر من كل الأجناس والأعمار والفئات الاجتماعية وإن غلب الجمهور المثقف في بعض الفعاليات الفكرية والمعرفية كما يحدث مساء كل خميس حيث تطرح قضايا ثقافية راهنة من قبل كتاب وباحثين متخصصين. أما إذا كان لبعض الأفراد مواقف شخصية أو فكرية معينة تمنعهم من زيارة المعهد فذلك حقّ لهم لكنه من قبيل الاستثناء الذي لا يقاس عليه. وفي كل حال أرحب من جهتي بأي نقد جاد يساعدنا على تعزيز الجوانب الإيجابية وتدارك بعض السلبيات التي لا تخلو منها أي مؤسسة تتوالى فعالياتها على مدار العام.
* منذ سنة 2011 تعيش بعض الدول العربية ثورات شعبية، أطلق عليها الربيع العربي، هل تتصورون أن المعهد كان على موعد مع التاريخ أم أن ثمة تقصيراً في التعامل معها، والتماهي معها، كما يرى كثير من المثقفين العرب في باريس؟
- ليس من شأن المعهد في ظني أن يخوض في الأحداث السياسية لأنه مؤسسة ثقافية أولاً وقبل كل شيء. ومن هذا الباب يمكن أن يصاحب الحدث فينظم بعض الفعاليات الفنية والفكرية المتصلة بتحديات الراهن والمستقبل كما حصل قبل أسابيع، حين نظّمنا أمسية كاملة للفنانين السوريين في المنفى وشارك فيها عدد من الأسماء البارزة في مجال الرسم والتمثيل والموسيقى. ولعلها فرصة ثمينة لي كي أذكّر الجميع بحقيقة تستحق أن نلحّ عليها جميعاً، فسياسات الدول والأنظمة ليست متجانسة دائماً، بل إنها كثيراً ما تولد الخلافات وقد تفرق الناس شيعاً وأحزاباً متخاصمة أو متحاربة حتى داخل البلد الواحد. أما الثقافة بمعناها الواسع والخلاق فالمفترض أن توحد وتجمع وتختلق المزيد من الفرص لتعزيز مختلف أشكال التفاهم والتعاون بين الناس بغض النظر عن الجنس والمعتقد والتوجه الفكري. قلت في أول مقابلة بعد تعييني، وأكرر، الآن، وغداً، إن ثقافتنا العربية الغنية العريقة هي سفينة نوح بالنسبة إلينا جميعاً، خاصة أن الواقع الراهن مليء بأحداث مؤلمة ستولد تحديات خطيرة لن نتمكن من مجابهتها إلا في المستوى القومي العام. وثقافتنا المشتركة، التي أضاءت العالم على مدى قرون بالأمس، قادرةٌ على رسم الأهداف الحضارية الكبرى للأمة وتوجيه الطاقات البشرية والمادية نحوها، وفيما فوق كل الانتماءات الضيقة والهويات الفقيرة أو القاتلة.
* باعتباركم درستم في فرنسا وأقمتم فيها خلال بعض الوقت، لا بد أنكم لاحظتهم ارتفاعاً، غير مسبوق، في معدلات العنصرية والإسلاموفوبيا والقلق من الآخر، فما الذي فعله المعهد، حتى الآن، لتصحيح صورة العرب وفي التقريب بين العرب المسلمين والفرنسيين والغرب، إجمالاً، وما الذي يمكنه أن يفعله، مستقبلاً؟
- تزايد الظواهر التي تشير إليها يكاد يشكل ظاهرة عالمية، اليوم، ولسوء حظنا جميعاً. لكني واثق تماماً أن منطق التاريخ العام في عصر العولمة لم يعد يسمح لخطابات الكراهية والعنف تجاه الآخر المختلف بأن تتحول إلى إيديولوجيا رسمية لأي دولة، لأن عواقب الخيار ستخرج حتماً عن سيطرة أي حزب أو جماعة سياسية. والمعهد، كغيره من المؤسسات الثقافية المشابهة في العالم كله، لا يمتلك حلولاً سحرية للخلاص من خطابات العنف والقبح والتوحش، لكنه يسعى جاهداً لتعزيز خيارات أكثر جمالاً ونبلاً لأنها تنمّي أسباب التعارف والتعاون والاحترام المتبادل سواء بين الوطن العربي وفرنسا أو بيننا وبين والعالم الحاضر دائما في مدينة كبرى كباريس.
* لم يعد سرّاً أنّ كثيراً من الدول العربية، بعد ثورات "الربيع العربي"، بل قبله، لا تفي بواجباتها المالية في ميزانية المعهد، فهل لكم أن تحدثونا عن وضعية المعهد المالية؟ وكيف يتم تمويل المشاريع الثقافية والمعارض الضخمة؟
- الوضعية المالية للمعهد هي فعلاً هشة ولا شك لدي في أنها مصدر المعاناة الأول والأهم لنا جميعا هنا. الحقيقة أنني جد مصدوم من تخلّي بعض الدول العربية عن أبسط واجباتها، ومنذ عقود، تجاه مؤسسة أنشئت من أجل التعريف بثقافتنا وحضارتنا ونشر كل صورة مشرقة عنها من مدينة النور. ولولا التزام الطرف الفرنسي بما يخصه وكرم دول عربية أخرى، قليلة جداً، والعوائد البسيطة لبعض الفعاليات لربما أعلنَ المعهدُ إفلاسه وخسرنا فرصة تحلم بها شعوب كثيرة. ومما يزيد من الدهشة والمرارة أن في كل بلد عربي شخصيات رسمية وأهلية كريمة مقتدرة باستطاعتها أن تعزز ميزانية المعهد فقط، بل وأن تضاعفها فيما لو أدركت أهميته وقررت دعمه بمبالغ سنوية بسيطة جدا. وفي كل حال ليثق الجميع أنني سأبذل جهدي لتحسين الوضع وأتفاءل خيراً عسى أن نرى هذا الصرح الثقافي الكبير يكبر وتتطور برامجه باستمرار.
* السيد جاك لانغ، رئيس المعهد أكّد، في لقاء مع صحيفة "العربي الجديد"، أن الدولة الفرنسية لم تتأخر، يوماً، في الوفاء بالتزاماتها المالية مقابل تقصير من الجانب العربي، وتحدَّث عن تمويل ذاتيّ للمَعارض في المعهد (معرض أوزيريس، مثلاً)، ألا توجد مخاطر من غياب تأثير الجانب العربي في اختيار ثيمات المعارض والأنشطة الثقافية، مما يهدد بأفول التأثير العربي في المعهد؟ ثم ألا يؤثّر التمويل وغيابه على التوازن الهشّ بين الطرفين الفرنسي والعربي؟
- لن أكرر ما قلت، لكن هناك مثل فرنسي معروف يقول "من يعط يأمر"، وهو ما يعزّز وجاهة التساؤل، ولن نفقد الأمل أبداً.
* بمعنى ما، كيف يتم الحسم في اختيار المَعارض والأنشطة، خصوصاً حين نرى التركيز على بعض الدول وغياب دول عربية أخرى؟
- المعهد مؤسسة حديثة تعمل وفق أنظمة وقوانين معتبرة بحيث لا يكون للأفراد الدور الحاسم في أي مجال حتى ولو كان رئيس المعهد أو مديره العام. وأعني بذلك أن هناك أقساماً مختلفة يختص كل منها بأنشطة فنية وثقافية محددة، وما إن يتبلور المشروع أو البرنامج ضمن خطة محددة حتى يبدأ التنسيق مع الأقسام الأخرى لتنفيذها على أفضل وجه ممكن. فنحن نستقبل يومياً عديد الطلبات والاقتراحات من جهات متنوعة نناقشها بكل جدية وعلى أرفع مستوى، وحين نقتنع بأهميتها يُحال كل منها إلى القسم المعني لتتحول الفكرة إلى برامج عمل ثم إلى أنشطة منتظمة على مدى قصير أو متوسط أو طويل. في ما يخص الشق الثاني من السؤال، لا شك أن لبعض الجهات حضوراً أكثر من غيرها، وقد قلت، من قبل، أن هذا أمر منطقي تماماً، لأنّ التواصل اللغوي والثقافي بين بلداننا وفرنسا لم يحدث في الفترة ذاتها ولم يتخذ شكلاً واحدا. ومع هذا كله سأعمل جاهدا على تحقيق التوازن بين مختلف الجهات من دون قفز على منطق الجغرافيا ومنطق التاريخ، كما قلت من قبل.
* يشكو كثير من المثقفين العرب في فرنسا من غياب تأثير المجلات والمنشورات التي يصدرها المعهد في الساحة الثقافية الفرنسية وفي الجدل المجتمعي والفكري الدائر في فرنسا والغرب. ولا يتردد كثيرون في انتقاد الطابع الاستشراقيّ لمجلة "قنطرة"، التي تنشر نصوصا ًوملفات ماضوية لا تخلو من حنين إلى ماض استيهامي، فما هو ردكم؟
- كل نقد جدي مفيد ومطلوب دائماً، لكني آمل من كل مثقف عربي منشغل فعلا بأنشطة المعهد أن يتكرم ويزور ويحاور ويقترح ويشارك بغض النظر عن المواقف من الأشخاص في المعهد. فهناك عدد كبير من المبدعين والباحثين العرب البارزين في فرنسا وأوروبا، ولو شارك بعضهم بالكتابة المنتظمة في "قنطرة"، مثلاً، لتغير الوضع بالاتجاه الذي يراه وانتهى الأمر. نعم أيها الأعزاء، علينا أن نتحول من منطق القول إلى منطق الفعل، وسيكون المعهد كلّه قنطرة عبور وتواصل ترحب بالجميع.
* سؤال أخير، ما هو تصوركم عن وظيفة المعهد القادمة وجدواه، في ظلّ العولمة؟
- الاستمرارية مع التطوير، هذه هي الطريقة المثلى للعمل الخلاق الفعال في أي مؤسسة حديثة تسعى لتحقيق هدف نبيل مفتوح على الأفق الأوسع والأجمل.