معتقل فلسطيني سابق: ما زلت حيًّا

02 نوفمبر 2016
(جنود الاحتلال الإسرائيلي، تصوير: جويل كاريل)
+ الخط -
طرقٌ شديدٌ على الأبواب وصراخٌ متواصلٌ بلا انقطاع: "عدد عدد شباب .. عدد"، فتحتُ عينيَّ محاولًا استيعاب مكان تواجدي، ليس سقفُ غرفتي، ليس سريري.

الكل حولي نهض، وأنا ما زلت مكاني، نخزني أحدهم بقوّة، فنهضت لاإراديًا وجلست القرفصاء بالصفِّ الطويل، ورأسي بين قدمي، وكان قد همس لي أحدهم أن من يقف سينهال عليه الجنود بالضرب الشديد، وأحيانًا يُحوَّل للعزل الانفرادي.

"أنا هناك، أنا هناك" أردد في نفسي، ثم يمرّ أمام عيني شريط تلك الليلة، حينما سمعت نداء أمي يوقظني من ذاك الحُلم وقبل أن تكمل كلماتها جاء صراخ يقطع الصمت" جيش ... افتح الباب".

أذكر تاريخه جيدًا، ولا أعتقد أنني سأنساه يومًا، كان يوم الاثنين 25 من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2011 حينما اعتقلني جيش الاحتلال الإسرائيلي للمرّة الأولى، كنت طالبًا في الثانوية لم أتجاوز عامي الثامن عشر، وبعد ستة أشهر تحرّرت والتحقت بإحدى المدارس الخاصّة، أكملت مرحلة الثانوية ثم التحقت بكليّة الطيرة، ولم يمض عامٌ حتى اعتقلت مرّة أخرى.

مجددًا يقلّب السجّانون البرش السرير، يمزّقون ما تبقى من الكتب التي سلمت من أيديهم في المرّة السابقة، يفتّشون أشيائي القليلة التي أعيد ترتيبها بعناية فائقة كما كل مرّة، متخيّلا كيف بقيت أمي نهارًا كاملا وربّما أكثر وهي ترتّب الدّمار والخراب الذي ألحقه الجنود بالمنزل أثناء اعتقالي.

أتلمّس الكدمات التي تُركت على صدري، تؤلمني كثيرًا كلّما ضغطت عليها، رغم أنّني حينها لم أشعر سوى بالضربة الأولى حينما انهال علي الجنود بالضرب، من مخيّم العروب حتى مركز التوقيف عتصيون.

شعرت بأقدامهم تنغرس في صدري ثم تخرج، ثم تخترقه

مجددًا، وما زلت أشعر بتلك الضربة على رأسي، أتوقّع أنّني فقدت الوعي حينها، كما فقدت الإحساس بكل ما حولي.

وما إن وصلنا إلى مركز التوقيف، رفعت قميصي الممزّق لضابط المخابرات، وصرخت "كل هذا من ضرب الجنود" كان وجهي ينقط دماء، إلا أن الضابط أدار ظهره وهو يضحك، "غير صحيح ... جنودنا لا يخالفون الأخلاق".

تسعة أيام وما زلت في عتصيون، والذي يصنّف كأسوأ مركز توقيفٍ وتحقيق، قبل أن أُحوّل للتحقيق في سجن عوفر حيث وُجهت لي لائحة اتّهام اعتقالي السابق، ورغم اعتراف قاضي محكمة الاحتلال بذلك، إلا أن المخابرات حوَّلوني للتحقيق مرّة أخرى، ليتبيّن لي أني وكباقي محرّري صفقة "وفاء الأحرار" أعيدت لنا الأحكام السابقة.

لم أكن أتوّقع أن أزجّ في السجن مجددًا، كان لديّ أمل أن ينتهي التحقيق بالإفراج عنّي، إلا أنني حُوّلت لأقسام سجن عوفر، مجددًا ها أنا أستلم ملابس السجن، مواد التنظيف، وعددًا من السجائر.

أيامٌ قليلة ويُسرّب لي نبأ اعتقال شقيقي الصغير عبد الكريم، ونقله إلى قسم الأشبال في سجن عوفر، بينما اعتقل شقيقي عبد القادر وحُوِّل إلى سجن إيشيل، طالبنا كثيرًا أن نجتمع معًا إلا أن إدارة السجون بقيت تتعنّت وترفض، قبل تنقلي بعد سبعة شهور إلى سجن إيشيل، وفي عام 2014 زُجَّ بشقيقي شامخ وعلاء في السجن أيضًا.

عذاب آخر هو النقل من سجن إلى آخر، عبر ما تسمى "البوسطة"؛ وهي حافلة بمقاعد حديدية باردة، رائحة قذرة، حشرات وصراصير في كل مكان، والقيود لساعات طويلة تعيق حركة قدميّ ويديّ التي ما عدت أشعر بهما.

ها قد حان الخروج إلى الفورة "ساحة السجن"، بعد العدّ والتفتيش الأوّل لهذا اليوم، لنرى الشمس والهواء المتسلّل من السياج العالي الذي يحصِّن المكان.

ساعتان متواصلتان لم أكن أتوقّف خلالهما عن ممارسة الرياضة، كنت أشعر بالحياة، أستمتع بسماع دقات قلبي تتسارع، أردد "ما زلت حيًا .. ما زلت حيًا" وأقهقه لوحدي مجددًا.

سريعًا مضى الوقت، الساعة أتمت العاشرة صباحًا، إنه العد الثاني الآن والفحص الأمني سنعود لغرف الاعتقال مجددًا، الأمر المشجّع أني بدأت أشعر بالجوع، ووجبة الإفطار اقتربت، فيما بدأ يُهيأ لي أني أشمّ رائحة إفطار أمي، قلاية البندورة الحارقة، صحن البطاطا والبيض، الحمص والفلافل الذي كنت أحبه ولكن أتكاسل على شرائه من مطعم المخيّم.

أصفع نفسي لتتذكّر أنّها في السجن، لا تطمع بأكثر من بيضة مسلوقةٍ باردةٍ ومحروق صفارها، أو ربّما صحن فولٍ قليل الملح، لا ليمون عليه ولا طحينية.

اقترب الفرج، الساعة الثالثة أبواب الغرف تُفتح مجددًا، سأركض في الفورة مرّات ومرّات حتى يصرخون "إلى الغرف"، سأتدرّب كيف أركض إلى أمي أقبّلها، وأنحني وأقبل قدميها التي تعبت وهي تتنقل كل هذه السنين، مرّة تزورني، ومرّة تزور أحد أشقائي المعتقلين.

يمضي الوقت سريعًا وأحيانا ببطءٍ شديد. أيّامٌ قليلةٌ وسأعود للمنزل بعد أربع سنين من الاعتقال، إلّا أن العودة لن تكون عاديّة، فقد قرّرت خوض الإضراب عن الطعام مع الدفعة الثانية في الثامن من آب/ أغسطس مساندةً للأسير بلال كايد، والذي حُوِّل للاعتقال الإداري بدل الإفراج عنه بعد 14 عامًا ونصف من الاعتقال.

قرارٌ لن يكون صعبًا اتّخاذه، كلّنا تسابقنا على خوض الإضراب رغم علمنا بتبعاته، ليس على أجسادنا فقط؛ وإنما بما سيلحق بنا من عقوبات، ولكنها خطوة لا بد منها لاختصار معركة بلال، وحتى لا أقع أنا وباقي الأسرى في الفخّ ذاته الذي يُحاول الاحتلال نصبه لنا.

هي ليست تجربةً عابرةً فقط، بل تطبيقٌ واقعي لقناعتنا بعدالة قضيّتنا وحتميّة انتصارنا، يومٌ بعد يوم وإدارة السجن تضاعف تضييقها علينا، وفي كل مرّة كنت وزملائي نشعر بنشوة الانتصار، فهي تخشانا ونحن أسرى.

اليوم في بيتنا بمخيم العروب في مدينة الخليل ولأوّل مرة منذ عام 2002، اجتمع وأشقائي حول أمّي، وقد حقّقنا انتصارنا الخاص.

المساهمون