24 أكتوبر 2024
مطلوب دولة مؤسسات في العالم العربي
تعمل بنية الدولة الداخلية كتنظيم رسمي معقد، فهي مؤلفة من أجهزة يعتمد بعضها على بعض. وهي ليست، في أي حال، مواقع مستقلة ذاتياً في اتخاذ القرارات والسيطرة، وتنفيذ السياسة التي تتحدّد مجالاتها ومواردها وأشكال عملها خارجياً من الأجهزة الفوقية. وكل جهاز يتألف من مجموعة من المكاتب المختلفة التي يتمم بعضها بعضاً، حيث تنظم على نحو متسلسل. وينظم إشغال هذه المكاتب بمقاييس عمومية، تحدّد بدورها للشاغل، الصلاحيات والمسؤوليات "الحكومية" الموضوعية. وتعمل المكاتب استناداً إلى معايير اتخذت قراراتٍ عامة موافق عليها ومقاييس موضوعية، فالدولة مصممة إجمالاً لكي تعمل كما آلة، كل أجزائها منسجمة، آلة تدفعها الطاقة وتوجهها المعلومات المتدفقة من مركز واحد، في سبيل خدمة عدة أعمال منسّقة. فالدولة الحديثة لا بد أن تظهر بنية مؤسساتية، موجهة من أجل خدمة غايات واضحة، تسعى إلى تنشيط العملية الاجتماعية داخل الدولة.
في تجربة الدولة العربية، يتم توزيع المواقع والمناصب السياسية كإقطاعيات على المقرّبين، ليس حصصاً سياسية فحسب، بل مردوداً اقتصاديا أيضاً. وفي تجربة الدولة الفاسدة، حدّث ولا حرج، فالاقتصادات الوطنية تنهب في وضح النهار، ولا أحد يحاسب أحداً، ما دام من ينهب مرضيّاً عليه من شاغل مركز السلطة. ليس هذا وحسب، بل وكما أن الهيمنة أحادية الجانب على السلطة، كذلك يتم توظيفها للحصول على المردود الاقتصادي أيضا، حيث تعود ملكية الشركات الكبيرة إلى أقطاب هذه السلطة، وهناك من يحتكر موادّ بعينها ووكالات وتوريدات وخدمات... أصحابها مرتبطون بمركز السلطة، وهي التي تمنحهم هذه الامتيازات والتسهيلات التي لا يمكن أن يتمتع بها شخصٌ، لا يدور في فلك الشاغل الأول للسلطة، وهو ما يُفقد الدولة أي معايير موضوعية في أدائها. وبغياب الرقابة عليها، حيث يتم تهميش المؤسسات التي كان يمكن أن تلعب دور الرقابة، مثل المجالس التمثيلية التي تعتمد ديكوراً شكلياً في التجربة السياسية العربية، حيث مؤسسة الرئاسة، أو ما يقوم مقامها، تسيطر على كل شيء.
لترسيخ البنية المؤسساتية الحديثة، لا بد للدولة أن تعتمد المشاركة السياسية التي تنشط العملية
الاجتماعية ضمن الدولة، وهي حاجةٌ تاريخيةٌ تسعى إلى تحقيق نوع من إمكانية التعبير عن المصالح المتضاربة، بحيث يسعى كل طرفٍ من أطراف المصالح المتضاربة إلى التأثير على قرارات الدولة، ضمن الصيغة القانونية التي تدعمها الدولة. ما يسمح للدولة بتنظيم الصراع داخلها وفق أسس ومعايير قانونية ديمقراطية، تضمن المشاركة السياسية، بوصفها النشاطات الطوعية التي يسهم بها أعضاء مجتمع ما لاختيار أصحاب السلطة، واتخاذ القرارات العامة، سواء حدث ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويصبح على الدولة أن تقوم، على مستوى التطبيق، بتنشيط بناء مجتمع مدني، مع سعيها إلى التزود طوعاً بشركاء في الحوار، يُفترض أنهم يجسّدون مختلف المصالح الاجتماعية، ويسمون بذلك "فوق الخصوصيات الجمعية"، حسب تعبير برتران بادي. وتحتاج هذه المشاركة قوانين وحقوقاً تضمنها، وعلى قدر ما تعكس هذه القوانين الأوضاع الموضوعية الكامنة في العلاقات الاجتماعية العامة، بقدر ما تنجح في ضبط الصراع ضمن الأسس الديمقراطية. ويملك الأفراد، ضمن هذه الصيغة حقوقاً، وعليهم واجبات والتزامات يجب أن يخضعوا لها ويحدّدوا التكيفات في علائقهم المتبادلة. والواضح أنها جميعاً تعبر عن سلطة الدولة إزاء مواطنيها، لكنها صممت لدعم بحث الفرد والسيطرة عليه في سبيل منفعته، وذلك بجعل علائقه مع الآخرين مضبوطة، من الممكن التنبؤ بها، وبالتالي، فإنها تجعل تفاعل "الأعضاء المتخاصمين" جلياً وقابلاً للحسبان ومسموحاً به.
ولضمان مشاركة فعالة، يركز دستور الدول الحديثة على الحقوق العامة للمواطنين، سواء الحقوق الفردية، بما يسمى الحقوق العامة (حرية التعبير عن الرأي وحرية التجمع وإقامة الجمعيات والأحزاب.. إلخ) أو تلك المتصلة بالامتيازات السياسية للأفراد (حق الانتخاب، وحق الترشيح، وحق تقديم العرائض... إلخ)، ومنع أي إجراء من شأنه أن يقضي على الحرية الفردية (عدم انتهاك حرمة المسكن، والمراسلات... إلخ) ومنع أي إجراءٍ يقضي على الحرية الشخصية أو الاعتداء على الملكية الشخصية (كالمساواة أمام القانون، والتحرّر من السيطرة، وحماية الملكية الشخصية... إلخ). وليكون لهذه الحزمة المتكاملة من الحقوق مضامين إيجابية، يجب أن تلزم هذه القوانين سلطة الدولة ذاتها، وألا تخرقها. ولا معنى لكل هذه الحقوق، إذا نصت عليها الدساتير، ولم تلتزم الدول قانونياً بقوانينها، حتى تكون الدول مقنعة لمواطنيها.
صممت الديمقراطية أساساً للدولة الحديثة، بوصفها حصناً أميناً للأفراد ضد السلطة، ضد عسفها وتجاوزاتها. وبإخراج السلطة السياسية من الشخصنة، يمكن الحديث عن تداول السلطة.
ويصبح العنوان الأبرز للمشاركة السياسية هو الأحزاب السياسية، وهي قوىً لا يمكن الاستغناء عنها في الدول الحديثة. أما في التجربة العربية، فتعمل النخبة المتحكمة بالسلطة على استبعاد الشعب من المشاركة، سواء على مستوى أحزاب أو على مستوى قطاعات اجتماعية، ما أنتج استبعاداً مزدوجاً، من الاستفادة من الخيرات المادية للمجتمع، ومن المشاركة في العمل السياسي فرصة وممارسة. التهديم الفعلي للمشاركة السياسية هو مسيرة الدولة العربية بعد الاستقلال، وهو صيرورة أخذت بها النخب السياسية والاجتماعية في هذه الدول، لتوطد بواسطتها مواقعها الخاصة. ما عمل على إنتاج الانحطاط السياسي الذي عزته هذه النخبة إلى تخلف الشعب بالدرجة الأولى، بحجّة عدم امتلاكه المعرفة الكافية لآليات عمل النظام الديمقراطي. في وقتٍ يجب أن يُعزى هذا الانحطاط إلى خيارات السلطات الاستبدادية في العالم العربي، حيث تصبح "المؤسسات" لها وظيفة واحدة، هي حماية امتيازات الاستبداد، وتحاول النخبة التي تستفيد من هذه المؤسسات إضفاء طابع شرعي على الاستبداد، من خلال اقتراع شعبي صوري.
وفي ظل المؤشرات السلبية التي أعطتها تجربة الدولة العربية من إمكانية قيام سلطة تحترم القانون والمواطن. وفي ظل الانهيارات التي تشهدها دول المنطقة ذاتها بحكم تخريب الاستبداد لها، وتفريغها من مضامينها، على أكثر من صعيد. وفي ظل الانقسامات غير الممأسسة التي أدت إلى انفجاراتٍ واسعة في دولٍ عربية عديدة. كل هذا لا يجعل الدولة الديمقراطية الحديثة فائضةً عن الحاجة، بل تصبح ضرورة ملحة، لأنها وحدها القادرة على تنظيم الصراعات داخل المجتمع، ومنعها من الانفجارات الدموية التي نشهدها اليوم، وقد نشهدها أوسع في المرحلة المقبلة.
في تجربة الدولة العربية، يتم توزيع المواقع والمناصب السياسية كإقطاعيات على المقرّبين، ليس حصصاً سياسية فحسب، بل مردوداً اقتصاديا أيضاً. وفي تجربة الدولة الفاسدة، حدّث ولا حرج، فالاقتصادات الوطنية تنهب في وضح النهار، ولا أحد يحاسب أحداً، ما دام من ينهب مرضيّاً عليه من شاغل مركز السلطة. ليس هذا وحسب، بل وكما أن الهيمنة أحادية الجانب على السلطة، كذلك يتم توظيفها للحصول على المردود الاقتصادي أيضا، حيث تعود ملكية الشركات الكبيرة إلى أقطاب هذه السلطة، وهناك من يحتكر موادّ بعينها ووكالات وتوريدات وخدمات... أصحابها مرتبطون بمركز السلطة، وهي التي تمنحهم هذه الامتيازات والتسهيلات التي لا يمكن أن يتمتع بها شخصٌ، لا يدور في فلك الشاغل الأول للسلطة، وهو ما يُفقد الدولة أي معايير موضوعية في أدائها. وبغياب الرقابة عليها، حيث يتم تهميش المؤسسات التي كان يمكن أن تلعب دور الرقابة، مثل المجالس التمثيلية التي تعتمد ديكوراً شكلياً في التجربة السياسية العربية، حيث مؤسسة الرئاسة، أو ما يقوم مقامها، تسيطر على كل شيء.
لترسيخ البنية المؤسساتية الحديثة، لا بد للدولة أن تعتمد المشاركة السياسية التي تنشط العملية
ولضمان مشاركة فعالة، يركز دستور الدول الحديثة على الحقوق العامة للمواطنين، سواء الحقوق الفردية، بما يسمى الحقوق العامة (حرية التعبير عن الرأي وحرية التجمع وإقامة الجمعيات والأحزاب.. إلخ) أو تلك المتصلة بالامتيازات السياسية للأفراد (حق الانتخاب، وحق الترشيح، وحق تقديم العرائض... إلخ)، ومنع أي إجراء من شأنه أن يقضي على الحرية الفردية (عدم انتهاك حرمة المسكن، والمراسلات... إلخ) ومنع أي إجراءٍ يقضي على الحرية الشخصية أو الاعتداء على الملكية الشخصية (كالمساواة أمام القانون، والتحرّر من السيطرة، وحماية الملكية الشخصية... إلخ). وليكون لهذه الحزمة المتكاملة من الحقوق مضامين إيجابية، يجب أن تلزم هذه القوانين سلطة الدولة ذاتها، وألا تخرقها. ولا معنى لكل هذه الحقوق، إذا نصت عليها الدساتير، ولم تلتزم الدول قانونياً بقوانينها، حتى تكون الدول مقنعة لمواطنيها.
صممت الديمقراطية أساساً للدولة الحديثة، بوصفها حصناً أميناً للأفراد ضد السلطة، ضد عسفها وتجاوزاتها. وبإخراج السلطة السياسية من الشخصنة، يمكن الحديث عن تداول السلطة.
وفي ظل المؤشرات السلبية التي أعطتها تجربة الدولة العربية من إمكانية قيام سلطة تحترم القانون والمواطن. وفي ظل الانهيارات التي تشهدها دول المنطقة ذاتها بحكم تخريب الاستبداد لها، وتفريغها من مضامينها، على أكثر من صعيد. وفي ظل الانقسامات غير الممأسسة التي أدت إلى انفجاراتٍ واسعة في دولٍ عربية عديدة. كل هذا لا يجعل الدولة الديمقراطية الحديثة فائضةً عن الحاجة، بل تصبح ضرورة ملحة، لأنها وحدها القادرة على تنظيم الصراعات داخل المجتمع، ومنعها من الانفجارات الدموية التي نشهدها اليوم، وقد نشهدها أوسع في المرحلة المقبلة.