يخشى المواطنون الجزائريون من الاضطرار إلى الاستعانة بحرفي ما لتصليح الأدوات والتجهيزات في المنزل. فهناك ندرة في هؤلاء العمال المعروفين شعبياً باسم "الصنايعية" بعد ارتباط معظم السكان بالوظائف والتجارة
يزخر الأدب الشعبي الجزائري بنخبة من الأمثال والحكم والمرويات التي تشيد بالعمل كقيمة إنسانية وحضارية، وتحبّبه إلى الناس وتعلي من شأن أصحابه. من ذلك مثل: "اخدم بالفلس وحاسب البطّال". ظلّ هذا المخيال الشعبي متحكّماً في علاقة الجزائريين بالعمل، خصوصاً في مجال الحرف والصناعات اليدوية، إلى نهاية العقد الثالث الموالي للاستقلال الوطني، 1962، إذ بدأت تظهر ملامح استقالة معنوية للجزائريين من الإقبال عليها، والاهتمام بالوظائف الحكومية والتجارات الاستهلاكية.
أدّى التحوّل غير المدروس في علاقة الجزائري بالحرف والصناعات والمهن اليدوية، إلى فراغ أثّر سلباً في الحياة اليومية، بالنظر إلى ندرة "الصنايعية" و"دلال" من بقي منهم، حتى أنّ بعض الحرف توشك على الانقراض تماماً، لارتباطها بالجيل القديم، مع بقاء الحاجة الاجتماعية إليها. يقول العمّ مسعود، صانع القفاف من السعف، إنّه فشل في إقناع أحد أولاده أو أحفاده بأن يأخذ عنه الصنعة، فالجيل الجديد يراها من مظاهر التخلف: "ذلك بالرغم من أنّ أولادي وأحفادي من بعدهم لاحظوا أنني أنشأت أسرة بعائداتها، ودرّستهم وكسوتهم وأطعمتهم منها".
يستغلّ العمّ مسعود وجود "العربي الجديد"، فيقرر أن يقيم الحجّة على ولده الأصغر. يسأله: "ما الأفضل؟ أن تتعلّم حرفة تجدها إلى جانبك وقت الحاجة، أم البطالة التي تهدر وقتك وأعصابك؟". يردّ الشاب (26 عاماً، خرّيج كلّية التاريخ)، أنّه لا يحتقر مهنة أبيه، لكنّه يدرك أن لا مستقبل لها في ظلّ التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية. يقول: "قبل أن نتباكى على الصناعات التقليدية علينا أن نراعي عدد السائحين الأجانب الذين يزورون البلاد، إذ ما كنت لأرفض مرافقة أبي لو كنت تونسياً أو مغربياً، إذ يقترب عدد السائحين في البلدين من عدد السكان".
اقــرأ أيضاً
لا يخلو تجمّع سكني في الجزائر من مكان، قد يكون مقهى أو عتبة مسجد، يُعرف بتجمّع "الصنايعية" فيه، من سبّاكين وكهربائيين ودهانين وبنّائين ومصلحي حليّ وأوان. يلتمسهم من يحتاجهم هناك، ليقضي حاجته لدى أحدهم في عين المكان أو يصحبه إلى البيت. يقول صالح السبّاك إنّها عادة موروثة من العهد الفرنسي، وهي توفّر الجهد على المواطن والفرصة للصنايعي.
في هذا الإطار، عاينت "العربي الجديد" هذه الأماكن في قلب الجزائر العاصمة وفي مدن عنّابة شرقاً، ومعسكر غرباً، وفي بشار جنوباً، ووقفت على وضعية جديدة هي ندرة هؤلاء الصنايعية. يقول عزّ الدّين تومي، وهو موظف في وزارة الموارد المائية، إنّه يبحث، منذ ثلاثة أسابيع، عن سبّاك يصلح له مجرى الماء في المطبخ، من غير أن يعثر له على أثر "وها قد قصدت المكان الذي يشهد تجمّعاً للصنايعية، فلم يظهر سبّاك منذ ساعتين". يسأل: "هل هذا معقول؟ لماذا يشكو الشباب الجزائريون من البطالة إذاً؟".
في حومة ميسونييه بالجزائر العاصمة، كان الصنايعي الوحيد المتوفّر مؤجر الأدوات الخاصة بالحياكة. يقول إنّ وجوده هو ثمرة لندرة الإقبال على خدماته، وهذا وجه آخر من أوجه أزمة الصناعات اليدوية والحرفية في البلاد "أمّا الكهربائيون والدهانون والسبّاكون، فنادراً ما يبقى الواحد منهم في عين المكان أكثر من خمس دقائق". يضيف: "لقد بات ممكناً أن تجد طبيباً جراحاً أو مهندساً معمارياً بسهولة، لكنّك ستتعب في العثور على صنايعي يقضي لك حاجة ضرورية في البيت".
في الأثناء، ظهر كهل متخصّص في تلحيم أنابيب الغاز، فوجد نفسه محاطاً بمجموعة من الزبائن. كان كلّ واحد منهم يغريه بأن يبدأ به، ويسرد معاناته مع تسرّب الغاز في بيته وإمكانية أن يتعرّض إلى حريق، وهو يطلب منهم أن ينتظروا حتى "يقعّد رأسه" بسيجارة. تسأله "العربي الجديد" عن تفسيره لـ"تكبّر" المهنيين، فيقول إنّه تاجر بالدرجة الأولى ومن حقّه أن يختار الزبون الأقرب والأقدر على الدفع أكثر. ويلفت إلى حقيقة اجتماعية "لماذا لا يفرض الجزائري على ولده أن يلتحق بمراكز التكوين المهني (المدارس المهنية) التي تعلّم هذه التخصّصات النّادرة عوض الإنفاق عليه وتشجيعه على النوم والبطالة؟".
تنقل "العربي الجديد" هذا الهاجس إلى قويدر مصطفاوي، مدير التكوين والتعليم المهنيين، في محافظة سيدي بلعباس (500 كيلومتر إلى الغرب من الجزائر العاصمة)، فيقول إنّ الحكومات الجزائرية المتعاقبة لم تخلُ يوماً من وزارة متخصّصة في التكوين المهني مجاناً، وهي تسعى دوماً إلى إدراج تخصّصات جديدة تنسجم مع حاجات المجتمع.
يستقبل قطاع التكوين المهني على مستوى محافظة سيدي بلعباس، بحسب مصطفاوي، 5400 متكوّن في 18 شعبة، منها خمس شعب جديدة في التشغيل الآلي للمنازل وتشغيل الآلات الميكانيكية للدباغة والتجليد الصناعي وتصليح أنظمة الضغط الهوائي. يضيف: "لكنّ الجزائريين في حاجة إلى تغيير نظرتهم السلبية إلى الحرف والحرفيين".
ينسب الباحث في علم الاجتماع عمّار بن طوبال هذه النظرة إلى طبيعة سياسة النظام الحاكم، التي تقوم، بحسب حديثه إلى "العربي الجديد"، على ثقافة الدولة المانحة، بجعل المواطنين مرتبطين بها من خلال الرواتب والوظائف والامتيازات والهبات والدعم الحكومي. يقول: "كان الجزائريون يسمّون صاحب الحرفة بالمعلّم اعترافاً بمكانته التي تفرضها خدمته لمحيطه، غير أنّ تلك النظرة بدأت تنكسر مع بداية اعتماد الخيار الاشتراكي المغلّف بسوء التسيير". يشرح بن طوبال فكرته: "لم ينظر النظام الحاكم يوماً إلى الدولة إلّا بوصفها مؤسسة ريعية توزّع العطايا على مواطنيها. وهو ما كسر تدريجياً مكانة الحرفة وقذف بالمعاليم إلى ذيل التراتبية الاجتماعية، عكس ما حصل في أوروبا، حيث أعيد الاعتبار للخبّاز والإسكافي والميكانيكي والفلّاح، فبات موضوع اهتمام ودراسة للدور الذي يقوم به".
اقــرأ أيضاً
يزخر الأدب الشعبي الجزائري بنخبة من الأمثال والحكم والمرويات التي تشيد بالعمل كقيمة إنسانية وحضارية، وتحبّبه إلى الناس وتعلي من شأن أصحابه. من ذلك مثل: "اخدم بالفلس وحاسب البطّال". ظلّ هذا المخيال الشعبي متحكّماً في علاقة الجزائريين بالعمل، خصوصاً في مجال الحرف والصناعات اليدوية، إلى نهاية العقد الثالث الموالي للاستقلال الوطني، 1962، إذ بدأت تظهر ملامح استقالة معنوية للجزائريين من الإقبال عليها، والاهتمام بالوظائف الحكومية والتجارات الاستهلاكية.
أدّى التحوّل غير المدروس في علاقة الجزائري بالحرف والصناعات والمهن اليدوية، إلى فراغ أثّر سلباً في الحياة اليومية، بالنظر إلى ندرة "الصنايعية" و"دلال" من بقي منهم، حتى أنّ بعض الحرف توشك على الانقراض تماماً، لارتباطها بالجيل القديم، مع بقاء الحاجة الاجتماعية إليها. يقول العمّ مسعود، صانع القفاف من السعف، إنّه فشل في إقناع أحد أولاده أو أحفاده بأن يأخذ عنه الصنعة، فالجيل الجديد يراها من مظاهر التخلف: "ذلك بالرغم من أنّ أولادي وأحفادي من بعدهم لاحظوا أنني أنشأت أسرة بعائداتها، ودرّستهم وكسوتهم وأطعمتهم منها".
يستغلّ العمّ مسعود وجود "العربي الجديد"، فيقرر أن يقيم الحجّة على ولده الأصغر. يسأله: "ما الأفضل؟ أن تتعلّم حرفة تجدها إلى جانبك وقت الحاجة، أم البطالة التي تهدر وقتك وأعصابك؟". يردّ الشاب (26 عاماً، خرّيج كلّية التاريخ)، أنّه لا يحتقر مهنة أبيه، لكنّه يدرك أن لا مستقبل لها في ظلّ التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية. يقول: "قبل أن نتباكى على الصناعات التقليدية علينا أن نراعي عدد السائحين الأجانب الذين يزورون البلاد، إذ ما كنت لأرفض مرافقة أبي لو كنت تونسياً أو مغربياً، إذ يقترب عدد السائحين في البلدين من عدد السكان".
في هذا الإطار، عاينت "العربي الجديد" هذه الأماكن في قلب الجزائر العاصمة وفي مدن عنّابة شرقاً، ومعسكر غرباً، وفي بشار جنوباً، ووقفت على وضعية جديدة هي ندرة هؤلاء الصنايعية. يقول عزّ الدّين تومي، وهو موظف في وزارة الموارد المائية، إنّه يبحث، منذ ثلاثة أسابيع، عن سبّاك يصلح له مجرى الماء في المطبخ، من غير أن يعثر له على أثر "وها قد قصدت المكان الذي يشهد تجمّعاً للصنايعية، فلم يظهر سبّاك منذ ساعتين". يسأل: "هل هذا معقول؟ لماذا يشكو الشباب الجزائريون من البطالة إذاً؟".
في حومة ميسونييه بالجزائر العاصمة، كان الصنايعي الوحيد المتوفّر مؤجر الأدوات الخاصة بالحياكة. يقول إنّ وجوده هو ثمرة لندرة الإقبال على خدماته، وهذا وجه آخر من أوجه أزمة الصناعات اليدوية والحرفية في البلاد "أمّا الكهربائيون والدهانون والسبّاكون، فنادراً ما يبقى الواحد منهم في عين المكان أكثر من خمس دقائق". يضيف: "لقد بات ممكناً أن تجد طبيباً جراحاً أو مهندساً معمارياً بسهولة، لكنّك ستتعب في العثور على صنايعي يقضي لك حاجة ضرورية في البيت".
في الأثناء، ظهر كهل متخصّص في تلحيم أنابيب الغاز، فوجد نفسه محاطاً بمجموعة من الزبائن. كان كلّ واحد منهم يغريه بأن يبدأ به، ويسرد معاناته مع تسرّب الغاز في بيته وإمكانية أن يتعرّض إلى حريق، وهو يطلب منهم أن ينتظروا حتى "يقعّد رأسه" بسيجارة. تسأله "العربي الجديد" عن تفسيره لـ"تكبّر" المهنيين، فيقول إنّه تاجر بالدرجة الأولى ومن حقّه أن يختار الزبون الأقرب والأقدر على الدفع أكثر. ويلفت إلى حقيقة اجتماعية "لماذا لا يفرض الجزائري على ولده أن يلتحق بمراكز التكوين المهني (المدارس المهنية) التي تعلّم هذه التخصّصات النّادرة عوض الإنفاق عليه وتشجيعه على النوم والبطالة؟".
تنقل "العربي الجديد" هذا الهاجس إلى قويدر مصطفاوي، مدير التكوين والتعليم المهنيين، في محافظة سيدي بلعباس (500 كيلومتر إلى الغرب من الجزائر العاصمة)، فيقول إنّ الحكومات الجزائرية المتعاقبة لم تخلُ يوماً من وزارة متخصّصة في التكوين المهني مجاناً، وهي تسعى دوماً إلى إدراج تخصّصات جديدة تنسجم مع حاجات المجتمع.
يستقبل قطاع التكوين المهني على مستوى محافظة سيدي بلعباس، بحسب مصطفاوي، 5400 متكوّن في 18 شعبة، منها خمس شعب جديدة في التشغيل الآلي للمنازل وتشغيل الآلات الميكانيكية للدباغة والتجليد الصناعي وتصليح أنظمة الضغط الهوائي. يضيف: "لكنّ الجزائريين في حاجة إلى تغيير نظرتهم السلبية إلى الحرف والحرفيين".
ينسب الباحث في علم الاجتماع عمّار بن طوبال هذه النظرة إلى طبيعة سياسة النظام الحاكم، التي تقوم، بحسب حديثه إلى "العربي الجديد"، على ثقافة الدولة المانحة، بجعل المواطنين مرتبطين بها من خلال الرواتب والوظائف والامتيازات والهبات والدعم الحكومي. يقول: "كان الجزائريون يسمّون صاحب الحرفة بالمعلّم اعترافاً بمكانته التي تفرضها خدمته لمحيطه، غير أنّ تلك النظرة بدأت تنكسر مع بداية اعتماد الخيار الاشتراكي المغلّف بسوء التسيير". يشرح بن طوبال فكرته: "لم ينظر النظام الحاكم يوماً إلى الدولة إلّا بوصفها مؤسسة ريعية توزّع العطايا على مواطنيها. وهو ما كسر تدريجياً مكانة الحرفة وقذف بالمعاليم إلى ذيل التراتبية الاجتماعية، عكس ما حصل في أوروبا، حيث أعيد الاعتبار للخبّاز والإسكافي والميكانيكي والفلّاح، فبات موضوع اهتمام ودراسة للدور الذي يقوم به".