في الوقت الذي لم تعد تفصل فيه إلا 4 أيام عن نهاية مهلة الستين يوماً (7 يوليو/تموز الحالي)، التي منحتها إيران لشركاء الاتفاق النووي لتنفيذ مطالبها المتمثلة في تسهيل بيعها النفط ومعاملاتها المصرفية، من دون أن يتحقق لها ما تريده، باتت طهران تصعّد نبرة تهديداتها بشكل ملحوظ، لا على المستوى الكلامي فحسب، وإنما من خلال خطوات عملية تتجاوز المنصوص عليه في الاتفاق النووي.
يقابل ذلك مواقف أوروبية وأميركية لا تخلو من لغة التحذير والتهديد، بما في ذلك إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس الثلاثاء، أنه سيتخذ خطوات في الأيام المقبلة لضمان وفاء إيران بالتزاماتها واستمرار استفادتها من المزايا الاقتصادية للاتفاق النووي. وقال بيان للإليزيه إن ماكرون "أخذ علماً بقلق" بإعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية الإثنين الماضي، مضيفاً أنه "طلب من إيران العودة من دون تأخير عن هذا التجاوز والامتناع عن أي تدبير إضافي من شأنه أن يمس بالتزاماتها النووية". وذكّر ماكرون، الذي بحث الملف الإيراني مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في اتصال هاتفي الإثنين، "بتمسّكه بالاحترام الكامل لبنود الاتفاق النووي المبرم في العام 2015"، مشيراً إلى أنه "سيواصل في الأيام المقبلة الإجراءات التي اتخذها لكي تتقيّد إيران بشكل كامل بالتزاماتها وتواصل الاستفادة من المنافع الاقتصادية للاتفاق".
كما دخلت موسكو على خط الأزمة، إذ دعت إيران، أمس الثلاثاء، إلى "عدم الانسياق وراء العواطف" واحترام "الأحكام الأساسية" من الاتفاق النووي. وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "ندعو زملاءنا الإيرانيين إلى ضبط النفس، وعدم الانسياق وراء العواطف واحترام الأحكام الرئيسية من الاتفاق" الموقع في فيينا في العام 2015. وحمل لافروف أميركا مسؤولية ما وصلت إليه الأمور، موضحاً أن "تجاوز إيران عتبة احتياطيات اليورانيوم المنخفض التخصيب ناجم عن العقوبات الأميركية التي تحظر شراء اليورانيوم الزائد من طهران". كما أعربت بكين عن أسفها لقرار طهران تجاوز الحد المسموح به لمخزونها من اليورانيوم، لكنها اعتبرت أن "الضغط الأقصى" الذي مارسته الولايات المتحدة هو "السبب الرئيسي" للتوترات. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية غينغ شوانغ، في مؤتمر صحافي، "ندعو جميع الأطراف لرؤية هذا الأمر من منظور طويل الأمد وشامل وممارسة ضبط النفس والتمسك بالاتفاق النووي الإيراني معاً بهدف تجنب المزيد من التصعيد في ظل الوضع المتوتر".
وأعلنت إيران، الإثنين الماضي، أنها تجاوزت بالفعل الحد المتفق عليه في الاتفاق النووي فيما يتعلق بإنتاج اليورانيوم منخفض التخصيب ليتخطى حاجز 300 كيلوغرام، وهو ما أكدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأمر الذي أثار شركاء الاتفاق النووي الأوروبيين، وفي الوقت ذاته واشنطن المنسحبة من الاتفاق في مايو/أيار 2018، لتهدد بريطانيا من جهتها بالانسحاب منه. وأعلن البيت الأبيض أيضاً أنه سيمارس "أقصى الضغوط" على طهران حتى "تغير مسارها"، قبل أن يصف ترامب الخطوة الإيرانية بأنها "لعب بالنار". ورد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، على التهديدات الأميركية، وتحديداً على قول المتحدثة باسم البيت الأبيض ستيفاني غريشام، في بيان، بأنه "ليس ثمة شكوك كثيرة أن إيران تنتهك بنود الاتفاق النووي حتى من قبل وجوده"، قائلاً "حقا؟"، فيما اعتبر رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني، أمس الثلاثاء، أنه ينبغي على ترامب إدراك أن الإيرانيين يصبحون أكثر تكاتفاً عندما يواجهون تنمراً. وقال لاريجاني، في تصريحات نقلها التلفزيون في بث مباشر، "على ترامب إدراك أنه عندما يتحدث أحد بلغة تنم عن التنمر ضد أمة متحضرة فإنها تصبح أكثر تكاتفاً".
وبعد مرور عام على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وجدت إيران نفسها أمام "لعبة صفرية"، أو اتفاق من جانب واحد، هي أصبحت الجهة الخاسرة فيه، تنفذ كل ما عليها من دون أي مقابل. فمع اشتداد الضغوط الاقتصادية الأميركية وصعوبة التأقلم مع تداعياتها، خصوصاً بعد فرض واشنطن حظرا تاما غير مسبوق في تاريخ طهران على صادراتها النفطية اعتباراً من الثاني من مايو/أيار الماضي، قررت إيران، مع الذكرى السنوية الأولى للانسحاب الأميركي من الاتفاق، أن تنقلب على "صبرها الاستراتيجي"، الذي تقول جهات إيرانية محافظة إنه جلب المزيد من الضغوط لأنه فهم ضعفاً، ليعلن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، في الثامن من مايو الماضي، عن قرارات لتقليص تعهدات نووية على مرحلتين، رداً على "مماطلات" بقية شركاء الاتفاق النووي ولاسيما أوروبا في تنفيذ تعهداتهم. وبدأت المرحلة الأولى منذ الشهر الماضي، وهي شملت رفع القيود عن إنتاج اليورانيوم منخفض التخصيب وإنتاج المياه الثقيلة، وكانت من ضمنها الخطوة الأخيرة المتمثلة في تجاوز السقف المتفق عليه في الاتفاق النووي في إنتاج اليورانيوم أكثر من 300 كيلوغرام. إلا أن المرحلة الثانية هي الأهم في تقليص تعهدات طهران النووية. وتهدد طهران بأنها ستنفذها بعد انتهاء مهلة الستين يوماً في السابع من الشهر الحالي على ضوء عدم تنفيذ أوروبا مطالبها. وتمس هذه المرحلة صلب الاتفاق النووي، أي موضوع مستوى تخصيب اليورانيوم، الذي حدد الاتفاق النووي نسبته المسموح بها 3.67 في المائة، لكن إيران تهدد أنها بصدد زيادة هذه النسبة إلى أكثر من هذا السقف المتفق عليه في المرحلة الثانية التي تشمل أيضاً تفعيل مفاعل "أراك" النووي.
إلا أن اللافت أنه بينما تتخذ طهران خطوات تتخطى المنصوص عليه في الاتفاق النووي، مهددة بالمزيد، فإنها تقول إن ذلك يأتي في إطار الاتفاق النووي، أو لا يمثل نقضاً له، معزية إياها إلى البندين 26 و36، اللذين ينصان على حق إيران في التخلي جزئياً أو كلياً عن تعهداتها في حال عدم التزام أي طرف من أطراف الاتفاق بتعهداته. لكن أن تؤكد هذه البنود على حق إيران في تقليص تعهداتها، أو إنهاءها كرد فعل، فإن ممارسة هذا الحق لا يعني أن الاتفاق سيبقى قائماً كما كان قبلها. وبالتالي في حال نفذت طهران تهديداتها كافة، وذهبت بعيدا خلال تنفيذ المرحلة الثانية من تقليص تعهداتها النووية، خصوصاً ما يتعلق برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المائة أو أكثر من ذلك، فإن ذلك يعني انسحاباً غير معلن من الاتفاق النووي، ولو أكدت أنها لا تزال في الاتفاق. لكن من الناحية الفنية، لا تمثل الخطوات التي اتخذتها طهران حتى الآن انسحاباً من الاتفاق النووي، إلا أنها تعرّض الركن المتبقي للاتفاق إلى الانهيار في حال استمرت، بعدما انهار الركن الآخر بفعل عودة العقوبات الأميركية.
عموماً، فإن إصرار إيران على الحفاظ على الاتفاق النووي وأهميته، بالرغم من اتباعها سياسة تقليص التعهدات المنصوص عليها في الاتفاق، يطرح إشكالية وسؤالاً ملحاً عن أهدافها ودوافعها في ذلك. وفي الإجابة، يمكن الإشارة إلى ثلاثة دوافع، الأول أن طهران لا تريد إغلاق خط الرجعة، لأن الاتفاق وإن صفرت منافعه الاقتصادية لها، إلا أن بقاءه لا يزال مصلحة إيرانية، إذ إنه حال دون نجاح واشنطن في تشكيل إجماع عالمي ضدها حتى اللحظة، وإن انهياره يجعل هذا الإجماع تحصيل حاصل. والدافع الثاني أن طهران أيضاً تريد ممارسة نفس اللعبة التي يمارسها الأوروبيون، أي التأكيد، إعلامياً وسياسياً، على أهمية الاتفاق النووي وضرورة الحفاظ عليه، والتخلي بالتدرج عن التعهدات عملياً. أما الهدف أو الدافع الثالث فهو يتمثل في أن إيران لا تريد أن تُصدر باسمها شهادة وفاة الاتفاق النووي، الذي تعتبره الأوساط الغربية، أهم ثمار الدبلوماسية الدولية خلال العقود الأخيرة، في ظل فشلها في تحقيق اختراقات في بقية الملفات العالمية.
على الأغلب الدوافع الثلاثة مجتمعة حاضرة في الحسابات الإيرانية، لكن يبقى دافع الرهان على إنقاذ الاتفاق النووي أقوى لدى طهران، وذلك ليس من خلال "الصبر الاستراتيجي"، وإنما من بوابة تقليص التعهدات، عسى أن تتجاوب أوروبا مع مطالبها في المجالين النفطي والمصرفي تحت ضغط هذه السياسة. ويبرز هذا في الطابع المرحلي للقرارات القاضية بتقليص التعهدات وكذلك سلوك طهران خلال الأسابيع الأخيرة في التذكير أو التهديد المتكرر باعتزامها مواصلة هذه السياسة. طهران التي ترفض التفاوض مع الإدارة الأميركية، لأنها ترى أن إمكانية الوصول إلى حلول مُرضية مع هذه الإدارة معدومة على ضوء المعطيات الراهنة، تسعى إلى تحصيل ما يمكن تحصيله من منافعها الاقتصادية "المصفرة" في الاتفاق النووي، لتوفير مقومات الصمود في مواجهة الضغوط الأميركية "القصوى"، التي أحدثت صعوبات كبيرة للاقتصاد الإيراني، واستمرارها من شأنه أن يؤثر سلباً على تلك المقومات. وفي السياق، فإن إيران المطمئنة إلى حد كبير إلى أن "حرباً لن تحدث"، حاولت استغلال ثغرات في صناعة القرار الأميركي والأوروبي، لتدعم موقفها من الاتفاق النووي خلال مهلة الستين يوماً برسائل عسكرية مباشرة أو غير مباشرة، آخرها إسقاط طائرة أميركية مسيرة، في 13 الشهر الماضي، بغية الضغط على الطرفين وإجبارهما على تقديم تنازلات فيما يتعلق بالعقوبات. وبالتالي فإن هذه الرسائل العسكرية لم تكن موجهة للولايات المتحدة الأميركية فحسب، وإنما كانت أيضاً موجهة لأوروبا القلقة من أي فوضى جديدة في المنطقة لمخاطرها على أمنها ومصالحها.
لكن إعلان طهران، الإثنين الماضي، تجاوزها عتبة الحد المنصوص عليه في الاتفاق النووي في إنتاج اليورانيوم منخفض التخصيب، وتهديدها بالانتقال إلى المرحلة الثانية من تقليص تعهداتها النووية، يؤشر إلى أن الرسائل الإيرانية الضاغطة على أوروبا لم تؤت أكلها بعد، وليس واضحاً إن كانت ستُحدث اختراقات ما في الموقف الأوروبي خلال الأيام الأربعة المقبلة، قبل انتهاء مهلة الستين يوماً الأحد المقبل أو حتى بعده. أوروبا لم تبد حتى اللحظة جدية في تلبية مطالب إيران، سواء كان ذلك نابعاً من عجزها أو عدم رغبتها أو الإثنين معاً، كما بات يردد ذلك أخيراً أكثر من مسؤول إيراني. وما قدمته خلال مباحثات اللجنة المشتركة في الاتفاق النووي، التي عقدت الجمعة الماضي عبر تدشين آلية "إنستكس" المالية لمواصلة التجارة معها، اعتبرتها طهران غير كافية، رغم ترحيبها "الخجول" بالخطوة، لكونها لا تشمل السلع المحظورة، وأنه لا توجد لها بالأساس مصادر مالية، لكي تعمل على ضوء رفض أوروبا شراء النفط من إيران بسبب العقوبات الأميركية.
واليوم تتجه الأنظار لما يمكن أن يتمخض عن الاجتماع المرتقب للجنة المشتركة للاتفاق النووي على مستوى وزراء الخارجية، أو زيارة محتملة لماكرون إلى طهران، كشف عنها ترامب خلال قمة مجموعة العشرين في أوساكا اليابانية أخيراً. ولم تحدد بعد مواعيد الاجتماع أو الزيارة، لكنها ستكون على الأغلب بعد انتهاء مهلة الستين يوماً الإيرانية، وسط حديث أوساط غربية عن أن اجتماع اللجنة المشتركة قد يكون في نهاية الشهر الحالي. وإلى حين انعقاد هذا الاجتماع أو زيارة محتملة لماكرون، أو أخرى قد يقوم بها وزراء خارجية الترويكا الأوروبية لطهران، فإن إيران ستعلن، على الأغلب، تنفيذ المرحلة الثانية من تقليص تعهداتها الأحد المقبل، إن لم تحصل انفراجة ما خلال الأيام الأربعة المقبلة. لكن على الأرجح ستتفادى طهران التصعيد في تنفيذها، أي أن تقليص التعهدات في هذه المرحلة سيأتي على مراحل وليس دفعة واحدة، انتظاراً لنتائج هذه التحركات. فعلى سبيل المثال، في ما يتعلق بمستوى تخصيب اليورانيوم، الذي هددت إيران بأنها سترفعه خلال المرحلة الثانية إلى أكثر من الحد المتفق عليه في الاتفاق النووي، وهو 3.67 في المائة، فإنه يستبعد أن تصل إلى نسبة 20 في المائة، التي كانت قبل التوقيع على الاتفاق النووي، وبالتالي فإنه من المرجح أن تزيد نسبتها قليلاً، في حدود 5 في المائة أو أكثر قليلاً.
وفي حال تعاملت إيران بهذه الطريقة في تنفيذ تعليق تعهداتها في المرحلة الثانية، تكون قد أبقت على خط الرجعة لإنقاذ الاتفاق النووي من جهة، وتتفادى بشكل أو آخر تصعيداً أوروبياً كبيراً من جهة أخرى، وهو تصعيد يستبعد أن تنتهجه أوروبا بدورها أيضاً، على أمل أن تعيد طهران للالتزام بتعهداتها بالكامل خلال المباحثات المقبلة، قبل أن تتجاوز الأخطر، خصوصاً ما يتعلق بمستوى تخصيب اليورانيوم. لذلك، فإن مصير الاتفاق النووي يتوقف على شكل تنفيذ طهران المرحلة الثانية من تقليص تعهداتها النووية، وأنه إلى أي مدى يمكن أن تذهب بعيداً في ذلك، وكذلك نتائج المباحثات بين إيران وأوروبا خلال الفترة القليلة المقبلة. ففي ظل عدم استعداد أوروبا وكذلك أميركا المنشغلة بالاستحقاق الانتخابي الرئاسي، للتعامل مع تداعيات الانسحاب الإيراني من الاتفاق النووي من جهة، والمخاوف من أن يخرج البرنامج النووي من "رقابة أممية صارمة" في ظل انعدام البدائل حالياً للتعامل مع هذا الموقف من جهة أخرى، فقد تسعى أوروبا، وبتنسيق من خلف الكواليس مع الإدارة الأميركية، إلى القيام ببعض الشيء لإقناع طهران بالعودة عن قراراتها الأخيرة. لكن يستبعد محللون إيرانيون وغربيون أن تقدم أوروبا على خطوات تبطل بشكل كبير مفاعيل العقوبات الأميركية.