يندرج كتاب "القُدسي والدُنيوي في السرد العربي: دراسة في خطاب المتخيل" (دار أبي رقراق) في سياق الدراسات التي ترصد آليات الخطاب المستخدم لكتابة أدب الرحلات في التراث العربي، سواء أتعلق الأمر برحلة متخيّلة أم حقيقية.
وقد آثر الباحث المغربي مصطفى النحّال أن يقف، في كتابه الصادر أخيراً، عند شكلين من أشكال هذا الخطاب من خلال استعادة تجربتين يعتبرهما فريدتين؛ تتمثل التجربة الأولى في نص "كتاب التوهُّم" للمتصوف الحارث بن أسد المحاسبي من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وهو نص نثري يتأمل في رحلة متخيّلة عمودية نحو الفضاء القدُسي أي في اتجاه الجنة.
أما التجربة الثانية، فهي للرّحالة والجغرافي أبو حامد الغرناطي الأندلسي من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، والتي كتبها في رسالته "تحفة الألباب ونخبة الإعجاب". وتروي هذه الرسالة تفاصيل أسفاره وتصف عدداً من البلدان في ذلك الزمان.
لتحقيق هذه الدراسة، يستخدم النحّال العناصر المختلفة التي تصوغ نصاً ينتمي إلى أدب الرحلات. وبناء على ذلك، يمسك الخيط الذي يربط أشكال رحلية ووصفية وسردية متباعدة ظاهرياً، غير أن التحليل المتأني والمقارن الذي أجراه الباحث بينها، يكشف عن بنية سردية ووصفية متماثلة ومتشابهة.
يبني الكِتاب افتراضاته على أن المتخيَّل الأُخروي والدنيوي يخلقان جغرافيا كاملة من خلال طاقة المخيلة. وعلى هذا الأساس، فإن هذه الجغرافيا الأُخروية والدنيوية تستقي مادتها من الفردي والجماعي، ومن الوعي واللاوعي، من الواقعي واللاواقعي، من المرئي والمحلوم به، ومن خلال هذا التفاعل تتولد الخطابات والمسارات التي تؤسس لغرائبية السرد.
ويكون المتخيَّل، بناء على ذلك، فسحة وهامشاً عريضاً يعكس الجانب الجماعي واللاواعي من دون أن تكون لهذا الأخير علاقات متوترة وصراعية مع العقل ومع خطاب الفقهاء.
وفي هذا السياق، يُبرز الباحث كيف أن المتخيَّل بشقّيه القدسي والدنيوي، قد عرف مواجهات تأويلية دارت، في مجملها، حول تأكيد حقيقة هذا العالم الأُخروي- الدنيوي كما يحلم بها الإنسان العادي أو كما يفكر فيها الفقهاء والعلماء. وقد أخذت هذه المواجهات، وفقاً للكاتب، شكل تأويل وتفسير للآيات القرآنية المرتبطة بالحياة الآخرة.
في بابه الأول، يتناول النحّال "كتاب التوهُّم" بالتحليل والتأويل، باعتباره نصاً أصيلاً من حيث ارتباطه الحميمي بكاتبه، سواء على مستوى اللغة الشفافة وحتى على مستوى الوظيفة التعبيرية لهذه اللغة، إذ يعتبرها تعكس كينونة روحية تكشف عن خصوصية المحاسبي، وتعبر عن منطق الرغبة والحاجة لديه.
بمعنى أن المحاسبي ينطق باسم رغبة إنسانية عميقة، من هنا يقوم الخطاب في "كتاب التوهُّم" على الرؤيا الصوفية الناحتة لمستوى آخر من التراكيب اللغوية والمواضعات الدلالية لبنية الكلمة وطرائق الوصف.
ينتقل النحّال أيضاً إلى "المتخيل الدنيوي" المتعلّق بالرحلة التي قام بها أبو حامد الغرناطي الأندلسي، والتي تستند إلى التاريخ والجغرافيا وعلم الأطوال والعروض، كما أنها، من ناحية أخرى، قد تحمل بعضاً من السرد عبر مروياته الحكائية أو السيرية أو الخطابات الشعرية والنثرية.
يخلص الباحث إلى نسبية التعارض بين مفهومي القُدسي والدنيوي، على اعتبار أنهما يخلقان الامتداد بينهما، بناء على منطق الحوار الذي تستند إليه أجناس الخطاب وأنواعه. كما أن المتخيَّل، باعتباره فضاء تفاعلياً علائقياً؛ أي شبكة من الرموز والصور والمشاهد التي تولّدها المخيلة بوصفها ملكة إنتاجية، لا يقيم بالضرورة علاقات صراعية مع العقل ومتعلقاته بقدر ما يعمل وفق الصيغ الخاصة به، ولا يشكل خرقاً فاضحاً لما هو عقلاني.