مصر وروسيا والعلاقة الملتبسة

20 مايو 2016

بوتين والسيسي في موسكو (26 أغسطس/ 2015/Getty)

+ الخط -
جاء الاهتمام الروسي بقارة أفريقيا، خصوصاً شمالها، منذ القرن الثامن عشر، بالتوجه نحو سواحل البحر الأبيض المتوسط، ضمن سياسةٍ توسعيةٍ اعتمدت على اعتبارات عسكريةٍ وسياسية وتجارية. في تلك الفترة، انتهج قيصر روسيا الخامس، الإمبراطور بيوتر ألكسييفيتش رومانوف، سياسة تحديثٍ استطاعت تحويل روسيا القيصرية إلى الإمبراطورية الروسية، وأصبحت بذلك إحدى أهم القوى، بالإضافة إلى الإمبراطورية العثمانية. ولكنها لم تصل إلى حد تحقيق أطماعٍ استعمارية في شمال أفريقيا، لأنّ الإمبراطورية العثمانية على الحدود الجنوبية لروسيا حالت دون تحقيق ذلك. وتطورت علاقات روسيا بأفريقيا إلى علاقاتٍ ديبلوماسيةٍ وتجاريةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ، بلغت ذروتها في ستينيات القرن الماضي.
تجاذبت أفريقيا القطبية الشرقية والغربية، وشكّلت تكوينها السياسي والثقافي والاقتصادي. الآن، وبعد أن مرت من تحت جسر العلاقات مياه كثيرة، وبعد أن تغيّرت ملامح المنطقة، ورسمت خريطة جديدة، تختلف عن التي عهدتها روسيا (الاتحاد السوفييتي سابقاً) أوان عقد تحالفاتها أيام الحرب الباردة، عادت روسيا من جديد بعد انسحاب القطبية الأحادية الأميركية. وفي هذه العودة، جاءت روسيا إلى المنطقة بوهج المنافسة الإقليمية، بعد غياب طويل، قد يجعل منها لاعباً رئيساً وحيداً إلى أن تعيد أميركا ترتيب أوراقها. ورمت روسيا بثقلها للعب دورٍ تستعيد فيه وجودها في شمال أفريقيا بتعميق (وتوسيع) التعاون الاقتصادي والاستثماري والعلاقات المشتركة التي تعود إلى ستينيات القرن الماضي، حيث ساهمت روسيا في إنشاء مشروعات عملاقة عديدة، من أهمها السد العالي.
اختارت روسيا عدة نقاط، تمثل محاور اهتمامها ونشاطها في شمال أفريقيا. ولكن، جاء تركيزها الأكبر على مصر، وذلك بعد توتر العلاقات المصرية الأميركية، فوقعت روسيا ومصر اتفاقيات عديدة، منها اتفاقية منح مصر أنظمة دفاع جوي حديثة. وتعد هذه الخطوة الواسعة بمثابة تنبيه روسي للولايات المتحدة الأميركية، من أنّها في طريقها إلى ضم إحدى أهم الدول التي كانت حليفتها في المنطقة، والتي كانت تتمتع معها بعلاقة استراتيجية وعسكرية، تقوم على تبادل المصالح بمنح السفن الأميركية الأولوية في عبور قناة السويس، واستخدام مجالها الجوي، مقابل منحة أميركية هي مساعدات عسكرية سنوية بما يساوي 1.3 مليار دولار، جمدتها أميركا احتجاجاً على عزل أول نظام ديمقراطي في مصر، بعد ثورة 25 يناير والانقلاب على الشرعية. ثم ما تبع ذلك من تمييع للمواقف السابقة، بأن توانت الولايات المتحدة عن الصمود مع الثورة إلى التحالف بالقبول الصامت لنظام الانقلاب.
يتضح أنّ أميركا اتخذت قرار تغيير سياستها نحو شمال أفريقيا لعدة أسباب، ليس منها المزاحمة الروسية في إيجاد موطئ قدم، إلّا بمقدار ملء الفراغ الناتج عن هذه الإرادة. وتتمثل تلك الأسباب في اقتناعها بعدم جدوى الاعتماد على النُظم السياسية القائمة في إيجاد توازن في المنطقة، خصوصاً مع فتح مساراتٍ جديدةٍ للتفاهم الأميركي الإيراني. هناك أيضاً أسباب اقتصادية واستراتيجية، وهي ما جعلت أميركا تتجه شرقاً نحو النمور الآسيوية لإحداث تحالفاتٍ جديدةٍ خاضعة لمبدأ المصالح أيضاً.
لا يقتصر جديد العودة الروسية إلى المنطقة اليوم على علاقات اقتصادية، بل هناك صفقات
تسليح وتعاون أمني في مكافحة الإرهاب وتكثيف المبادلات التجارية، فغير مصر هناك محطات واعدة، بدأت بالزيارات الدبلوماسية مثل الجزائر والمغرب. أما أهم ما يميّز عودة روسيا إلى شمال أفريقيا في هذه الفترة فهو خلو الاتفاقيات ومواثيق التعاون من أي برامج أيديولوجية، فعندما موّل الرئيس السوفييتي، نيكيتا خروتشوف، بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي، بنحو مليار دولار، ودعم الجيش المصري أيضاً، في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، بعتاد وأسلحة روسية، فما كاد يفعل ذلك باليمين إلّا وأخذ بالشمال ولاءً، كما رسّخ أيضاً لنفوذه الكبير لدى عبد الناصر، تمثل في سيادة أفكاره ومحاولات تطبيقها على الحياة المصرية.
وضعت روسيا قدمها في مصر، ويحقق لها هذا الوجود المبدئي عدة أهداف، أولها أنّ مصر تعتبر البوابة الاستراتيجية والمدخل الأنسب لقارة أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء، حيث الثروات البكر من اليورانيوم والذهب والكوبالت والنفط. وقد تكون هذه المخازن الطبيعية مصدر صراع مستقبلي بين روسيا وأميركا، خصوصاً بعد انسحاب أميركا من شمال أفريقيا. ولكن، بعد أن عزّزت وجودها في أفريقيا جنوب الصحراء، وضمنت الممرات المائية التي تؤمن لها عبور نفط الخليج من مضيق باب المندب. فأفريقيا بالنسبة للقوتين الروسية والأميركية مجال استثمار مستقبلي، يتطلب اتفاقهما معاً، خصوصاً مع وجود قوى أخرى، هي التنين الصيني، واختراقه أفريقيا من وسطها. فقد دخلت الصين في عملية اسكتشاف نفط السودان وتصنيعه، قبيل انفصال دولة الجنوب عام 2011، واليوم تنشر الصين نشاطها، بعد أن آلت معظم آبار النفط لدولة الجنوب. وبالإضافة إلى الدولة الوليدة، فلها سوق أخرى في وسط أفريقيا وشرقها، واكتفت من السودان بالتعاون في مجالات اقتصادية وتجارية، وإنشاءات البنية التحتية.
اختارت سياسة روسيا تجاه أفريقيا مصر نسبة لموقعها الرابط بين ثلاث قارات. وبهذا، ستستعرض مقدرتها على تطوير المصالح الاقتصادية، خصوصاً مع الشركاء الأفارقة، فهل تخلو أرض أفريقيا لروسيا وحدها، أم هي مكائد السياسة وتقلباتها.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.