أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمس الثلاثاء، قانون "التعاقدات الحكومية" الجديد، الذي سيلغي قانون "المزايدات والمناقصات" الذي كان الشريعة العامة لبيوع الأجهزة الحكومية جميعاً منذ صدوره في العام 1998، واستمر قائماً رغم المشاكل العديدة التي أثيرت حول تطبيقه، خصوصاً نهاية العقد الماضي، عندما أصدرت المحاكم الإدارية العليا والقضاء الإداري سلسلة من الأحكام التي تعلي شأن تطبيق ذلك القانون، ببطلان عقود بيع أراضي مشاريع "مدينتي" و"بالم هيلز"، ما تسبب بين عامي 2010 و2012 في أزمة بين الحكومة ورجال الأعمال الناشطين في مجال الاستثمار العقاري.
وترجع خطورة القانون، الذي سيدخل حيز التنفيذ في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، إلى أنه يسمح للمرة الأولى بتعاقد جميع الهيئات والإدارات الحكومية بعضها مع بعض، بالأمر المباشر، دون اتباع المناقصات أو المزايدات أو حتى الممارسات المحدودة. وسيتيح هذا الأمر، وفقاً لمصادر حكومية مطلعة، أفضلية استثنائية لأجهزة الجيش والاستخبارات التي تمارس أنشطة هندسية وتجارية، للسيطرة على المشاريع الحكومية المختلفة، دون منافسة من رجال الأعمال والشركات المحلية والأجنبية. وأبرز تلك الجهات: الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، والشركة الوطنية للطرق، وهيئة الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، والشركة الوطنية لبيع وتوزيع المنتجات البترولية.
ورغم أن القانون ينص على ضرورة "اتباع الإجراءات بشفافية ووفق قاعدة تكافؤ الفرص" إلا أنه يتضمن قيوداً على العروض التي يتقدم بها المستثمرون، في الوقت الذي يحرر الأجهزة الحكومية الممارسة لنشاط الاستثمار من أي قيود، ويتيح للجهات الحكومية التعاقد معها بالاتفاق المباشر، الأمر الذي سيوفر على الجهة الحكومية إجراءات طويلة، قد يراها الوزراء والمحافظون معطلة لإنجاز المشاريع، في ظل ضغط السيسي الدائم عليهم لإنجاز المشاريع سريعاً. ويزخر القانون بالحالات والثغرات التي تسمح لجميع الجهات الحكومية بالتعاقد بالأمر المباشر، أو يعود تقديرها للسلطة التقديرية للحكومة أو الجهاز الذي سينفذ التعاقد. ومنها على سبيل المثال "إذا كانت الحالة تستهدف تعزيز السياسات الاجتماعية أو الاقتصادية التي تتبناها الدولة"، و"الحالات الطارئة التي لا تتحمل اتباع إجراءات المناقصة أو الممارسة"، و"عندما لا يكون هناك إلاّ مصدر واحد بقدرة فنية مطلوبة"، و"عندما لا يكون هناك إلاّ مصدر واحد له الحق الحصري أو الاحتكاري لموضوع التعاقد". ومن صياغة الحالات السابقة يتبين اتساع السلطة التقديرية التي يمكن بها إدراج أي صفقات تحت أي من البنود المذكورة، خصوصاً ما ينص على "تعزيز السياسات الاجتماعية والاقتصادية"، وهي عبارة ليس لها ضابط أو رابط. كما أن الحديث عن وجود مصدر واحد بقدرة فنية أو بحق احتكاري وحصري ينطبق بالدرجة الأولى على شركات الجيش وبعض شركات الاتصالات وجميع شركات البترول المتعاقدة مع الدولة، الأمر الذي سينعكس زيادة ضخمة في عدد الصفقات المعقودة بالأمر المباشر، ودون عقد الرقابة على تلك السلطة التقديرية لأي جهة حكومية أو رقابية.
وكانت مصادر حكومية قد كشفت، لـ"العربي الجديد"، أن وزارات الإسكان والسياحة والزراعة والنقل تعاقدت، خلال الشهرين الماضيين، بالأمر المباشر مع عدد من الشركات المملوكة للجيش والاستخبارات العامة والهيئة العربية للتصنيع ومع صناديق استثمارية مملوكة للجيش والاستخبارات وشركات تابعة لها، للمشاركة في تنفيذ مشاريع سكنية وإدارية، وللحصول على خدمات استشارية مختلفة، بعضها مرتبط بالدعاية والإعلان وإدارة الطرق، وذلك كله دون اتباع قانون "المزايدات والمناقصات". ولتلافي إقامة دعاوى قضائية من شركات المقاولات والدعاية المتضررة من إرساء العقود على الجيش بالأمر المباشر، أنشأت الحكومة، بموجب القانون الجديد، إدارة لتلقي الشكاوى في وزارة المالية، سيكون من صلاحيتها تلقي التظلمات وفحصها. ومن المرجح، وفقاً للمصادر، أن تلعب هذه الإدارة دوراً في المواءمة بين أهمية الشكاوى ورغبة الجهة الحكومية في إنجاز مشاريعها، بمحاولة إقناع الشاكين بعدم تحريك أي دعاوى مع وعد بإعطائهم أفضلية في بعض المشاريع مستقبلاً في التعاقدات التي ستتم بالاتفاق المباشر. ويجيز القانون لكل من وزارات الدفاع والإنتاج الحربي والداخلية وأجهزتها جميعاً في "حالات الضرورة التي يقتضيها الأمن القومي" التعاقد بطريق المناقصة المحدودة، أو المناقصة على مرحلتين، أو الممارسة المحدودة أو الاتفاق المباشر. ويعتبر هذا النص تكريساً وتقنيناً لوضع غير دستوري قائم على التمييز الإيجابي لتلك الوزارات وأجهزتها على باقي الوزارات والشركات، خصوصاً أن تعبير "الأمن القومي" يبلغ من الاتساع ما يمكّن كل وزارة من تفسيره كما تشاء، ويضمن لها أن تدرج تحته كل تعاقداتها. علماً بأن المشروع يضمن "سرية استثنائية" لخطط البيع والشراء المندرجة تحت اعتبار "الأمن القومي"، وعدم نشر أي معلومات عنها على بوابة الخدمات الحكومية الإلكترونية.
ويلغي القانون الجديد الحدود القصوى لقيمة البيوع والمشتريات، استجابة لفكرة تعود في الأساس لدولة الإمارات، حيث هدد المستثمرون الإماراتيون، المنخرطون في استثمارات مشتركة مع الحكومة المصرية في العام 2013، بترك المشاريع، إذا لم تعمل الحكومة على اختصار الإجراءات المعمول بها، وذلك لأن إجراء المناقصات والمزايدات العلنية، والسماح بدخول منافسين محليين وأجانب، يثقل كاهل المستثمرين المقربين من الحكومة بدفع تعويضات عرفية للمنافسين بغية الاستحواذ على الصفقات، بل ويكلفهم الصفقات بالكامل في بعض الحالات، الأمر الذي اقتضى تدخل حكومة السيسي لوضع تصور تشريعي جديد يسمح في العديد من الحالات بالتعاقد بالأمر المباشر، ودون اتباع الإجراءات القانونية المعقدة. وكانت العديد من الدول والجهات الأجنبية، أبرزها نواب في الكونغرس الأميركي، أبدت قلقها إزاء تفضيل الحكومة المصرية التعاقد مع الأجهزة العسكرية المحلية بدلاً من رجال الأعمال المصريين والأجانب في العديد من المشاريع المهمة، لكن الحكومة ووزارة الإنتاج الحربي نفت ذلك، مؤكدة أن الأجهزة العسكرية تحظى بنسبة ضئيلة من التعاقدات الحكومية، رغم أنها تتولى وحدها تقريباً إدارة مشاريع ضخمة بحجم العاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة الجلالة، فضلاً عن تحديث الشبكة القومية للطرق، وتستعين في عملها بشركات مقاولة من الباطن.