مصر.. دولة تديرها عقلية العصابة

03 يوليو 2015
+ الخط -
من استمع إلى التصريحات التي أطلقها كل من الرئيس المصري، الذي جاء عبر انقلاب عسكري، عبد الفتاح السيسي، ووزير عدله، أحمد الزند، و"قاضي الإعدامات"، ناجي شحاتة، تعليقاً على عملية اغتيال النائب العام المصري، هشام بركات، قبل أيام، لا بد وأن يصل إلى استنتاج مفاده بأن مصر تُدار بعقلية العصابة، لا بمنطق الدولة، وبأن من "يسوس" شؤونها اليوم أصغر من أن يكونوا في دفة قيادة أكبر الدول العربية، وأكثرها محورية ومركزية. ولكن، وبما أن الحال كذلك، فإن هذا ينبئك ببعض خيبتنا الكبيرة في "المحروسة" و"أم الدنيا".
السيسي الذي كان يتكلم، كفاقد العقل والاتزان في جنازة بركات، خاطب قضاة ووكلاء نيابة متحلقين حوله، زاعماً أن نظامه ترك أمر المحاكمات لهم.."للعدالة"، ولم يتدخل فيها. ولا يحتاج الأمر، هنا، إلى كثير تدليل أن القضاء المصري ما هو إلا أحد أذرع النظام السياسي والأمني، وهو، بالتالي، لا يملك أي صفة مزعومة بالاستقلالية والنزاهة. بل إن "مؤسسة القضاء" في مصر غارقة في فساد مدقع كشفت بعض جوانبه ثورة كانون الثاني/يناير 2011، والذي يبدأ من معايير اختيار القاضي. وعلى الرغم من الحقيقة السابقة، إلا أن السيسي لم يتردد في انتقاد "بطء المحاكم" المصرية، بزعم أن يدها "مغلولة بالقوانين"، مع أن تقارير المنظمات الحقوقية العالمية تطفح بالحديث عن تجاوزات المحاكم المصرية، وافتقارها إلى أدنى المعايير المهنية، دعْ عنك العدالة، ومن ذلك أن هذه المحاكم تصدر أحكاماً بالإعدام بالجملة في جلسة واحدة، من دون توفر أي ضمانات لمفهوم التقاضي العادل. ولا يكتفي السيسي بذلك، حيث أعلن عن نيته تعديل القوانين التي "تجعلنا ننفذ العدالة بأسرع وقت ممكن"، مشدداً على أنه "لا المحاكم بهذه الطريقة وهذه الظروف ستنفع، ولا القوانين في هذه الظروف ستنفع.. هذا الكلام ينفع مع الناس العاديين"، متوعداً بتنفيذ أي حكم يصدر سواء كان بالإعدام أم المؤبد.

وعلى منوال سيده، صاغ الزند منطقاً أقرب إلى منطق العصابات، فطالب القضاة أن "يثأروا" لمقتل بركات، قائلاً "الكرة الآن في ملعب القضاة. اثأروا للشهيد الصائم بالقانون". في حين اتهم شحاتة، المشهور بـ"قاضي الإعدامات" في مصر، الإخوان المسلمين بالوقوف وراء مقتل بركات.. هكذا من دون أي دليل، وقبل إطلاق تحقيق جنائي، ومن دون شهود وجلسات استماع قضائية! ولم يكتف شحاتة بذلك، بل تجاهل صفته "القضائية" التي الأصل فيها أنها مستقلة ومحايدة ونزيهة، فطالب بتغيير القوانين وتسريع عملية تطبيق أحكام الإعدام الصادرة عنه. بالمناسبة، شحاتة هذا هو نفسه من أصدر أحكاماً بالإعدام على فلسطينيين، بتهمة اقتحام السجون المصرية عام 2011، على الرغم من أن بعضهم استشهد قبل ذلك بسنين، وآخرون في سجون إسرائيل منذ قرابة عقدين! المفارقة الأكثر مرارة وسخرية أن الرجل عندما ذُكِّرَ بذلك، طالب حركة حماس بإثبات ذلك بالوثائق والأدلة!
ليست عقلية العصابة التي يحكم بها نظام الانقلاب جديدة على مصر، فنظام المخلوع، حسني مبارك، رسخ دعائمها من قبل، وكلنا يذكر ما فضحته الوثائق التي كشف عنها خلال الثورة على حكمه البغيض، ومن ذلك صفقة تصدير الغاز إلى إسرائيل بأقل من ثمن التكلفة، وبيع أراضي الدولة بأثمان بخسة، لمستثمرين مرتبطين بعائلة مبارك ونظامه. وفي الحالتين، كانت الأموال تذهب إلى حسابات خاصة، لا إلى حسابات الدولة. دع عنك هنا تلك الصناديق "السوداء" المجهولة، والتي لا يعرف أحد من يتحكم بها، وأين تصرف أموالها، وإن كنا نعلم اليوم، بعد فضائح تسريبات مكتب السيسي، حين كان وزيراً للدفاع، وبعد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، أن المؤسسة العسكرية ليست بعيدة عن التلاعب بها، عبر تحويل جزء كبير من "الرز"، أو الأموال الخليجية التي قدمت لدعم الانقلاب، إليها، بدلاً من إيداعها في البنك المركزي.
للأسف، أوصلت عقود من الحكم بعقلية العصابة ومنطق "العزبة" مصر إلى حيث هي اليوم. فمصر الكبيرة، مصر الدولة الرائدة والقائدة عربياً، تحولت من قاطرة إلى مقطورة. نعم، تحولت مصر "زعيمة" العالم العربي، سابقاً، إلى ملحق تديره بعض وزارات الخارجية الأجنبية والعربية. ونتيجة حكم "صغار" مصر، عقوداً طويلة، تهشمت وضعية الإنسان المصري، لا فقراً وعالة وقمعاً وظلماً فحسب، بل وحتى احتراماً في الدول العربية. الجامعات المصرية التي كانت يوماً نبراساً وفخراً عربياً تحولت شهاداتها، اليوم، إلى عبء لا إلى ميزة، بل إن شهاداتها في بعض التخصصات العلمية تتطلب معادلة في بعض الدول الخليجية! أما ثالثة الأثافي، وهي من أسف كثيرة، فإن مصر، الثقل العربي ومركز الرحى سلماً وحرباً، تحولت، منذ أدخلها الرئيس الراحل، أنور السادات، نفق "كامب ديفيد"، إلى مخلب إسرائيلي، نهشت به الجسد العربي وأوهنته، حتى أدخلت جُلَّهُ في دهاليز "كامب ديفيد"، ومنذ سنوات وعصابة الحكم في مصر تنهش جسد قطاع غزة المحاصر والمنكوب إسرائيلياً ومصرياً.
مصر تحت حكم عصابة اليوم تعيش مقدمات فوضى حقيقية، فالظلم والقمع والإجرام قد بلغ مُدْيَاتِه. صحيح أنها قد لا تنزلق إلى السيناريو السوري المدمر، ففي حالة مصر لا توجد إرادة إقليمية ودولية بحدوث ذلك، كما في سورية، غير أن ذلك لا يعني البتة أن مصر قد لا تعيش أياماً سوداء، تتمثل بردود فعل على الجنون الذي يمارسه الانقلاب في مصر. إن أحداً لن يستطيع أن يتحكم بردود فعل من يغتصبون في السجون، رجالاً ونساء، أو من يقتل ذووهم في الشوارع أو حتى في منازلهم، أو من يختطفون ويختفون من دون أثر، أو من تدمر بيوتهم وتصادر ممتلكاتهم.. إلخ. نظام العصابة الحاكم في مصر اليوم خطر على مصر، وخطر على الإقليم، وخطر على الأمن والسلام العالمي بأسره، وما لم يأخذ أحد على يد هذه العصابة، فإن احتمالية انفجار مصر وتمدد ذلك الانفجار خارج حدودها، وارد، ووارد جداً.