18 نوفمبر 2024
مصر بين يناير وسبتمبر
لم يعد محل شك أن مصر ما بعد 20 سبتمبر/أيلول الحالي تختلف كثيراً عن مصر التي قبله. ولكن يبدو أن الوجه الذي أطلت به مصر على العالم صبيحة تلك الجمعة البيضاء رفع سقف التوقعات إلى حد غير واقعي، كما لو كانت الجرأة بالتظاهر والنزول إلى الشارع، للمرة الأولى منذ سنوات، يكفي وحده لتحقيق مطالب المصريين. وستكون أي تظاهرات جديدة كافية بذاتها لإطاحة الرئيس عبد الفتاح السيسي، كأن ثورة قامت ونضجت واكتملت ونجحت.
قوبلت تظاهرات يوم الجمعة الماضية (27 سبتمبر) بإجراءات وممارسات أمنية مشدّدة وصارمة، نجحت في تفريق المتظاهرين ومنع التقاء المسيرات التي حاولت التجمع من روافد ونقاط انطلاق متعددة، فصار المشهد النهائي أقرب إلى جولات كر وفر بين المتظاهرين والشرطة، وكانت اليد العليا فيها للأخيرة، لأن أعداد المتظاهرين لم تكن ضخمة بما يكفي للصمود أمام أعداد قوات الأمن وتحرّكاتها.
أهم ما في هذا المشهد أنه أزال الغشاوة عن أعين من بالغوا في التفاؤل، وظنوا أنها الجمعة الأخيرة، أو كما أطلقوا عليها "جمعة الخلاص". لو لم تحدث تلك الإفاقة، لظل المصريون غارقين في وهم القدرة على إحداث تغيير فوري أو إسقاط رئيس خلال أيام.
ما حدث أن تظاهرات 20 سبتمبر جدّدت ذكريات يناير، واستدعت في الذهنية المصرية زخم الحشود في الشوارع وسطوة الهتافات المدوية في الميادين. نعم ثورة يناير هي التي أشاعت ذلك الوهم، وهم القدرة على التغيير، فور أن يطلب الشعب ذلك، فبعد يناير/ كانون الثاني 2011، ظن بعض المصريين أن الاعتصام في الميادين والتظاهرات والهتافات الجريئة هي وحدها التي أسقطت حسني مبارك. وترسّخ ذلك الظن في يونيو/حزيران 2013، وصار التخلص من الرئيس مقروناً بالتظاهر واحتلال الميادين. وبلغ الرعب ببعض دوائر الحكم ومؤيديه حد اعتبار أي محاولة للتظاهر مؤامرة تستهدف نظام الحكم، وخطرا مباشرا قد يؤدي إلى إسقاطه. ما يتطلب منع أي تجمع أو مسيرة، مهما تضاءل عدد المشاركين فيها.
ساعد في تبلور هذا الوهم الكبير الدعم متعدّد الأشكال الذي لقيته تظاهرات 30 يونيو 2013، من أجهزة الأمن ورجال الأعمال ووسائل الإعلام، فاستسهل المصريون الأمر. وظنوا أن تظاهرةً كبيرةً، أو مسيراتٍ مفاجئة في أماكن مختلفة، ستسقط أي نظام وتطيح أي رئيس. ولعل هذا يفسر محدودية الأعداد التي خرجت يوم الجمعة الماضي، على غير ما كان متوقعاً.
وثمّة وهم آخر أوجدته وخلّفته ثورة يناير، ليس أقل خطورة من وهم الاستسهال، وهو توهّم إمكانية نجاح ثورة بلا رأس... كل الثورات وحركات التغيير التي شهدها العالم كان لها رؤوس وقيادات، حتى وإن بدأت من دون تخطيط وبلا قيادة مركزية، فالتلقائية في البدايات لا تحقق الاستمرارية، ولا تضمن النجاح في تحقيق الأهداف، ما لم تتلقفها قيادة تستقطب الجماهير وتنتظم حولها الصفوف، بل إن ثورة 25 يناير نفسها لم تكن بلا قيادة، فقد لعبت صفحة "كلنا خالد سعيد" على "فيسبوك"، وغيرها من قنوات التفاعل الشبابية، دور القائد والمحرّك قبل النزول إلى الشارع، ثم تلقف الإخوان المسلمون الثورة من أيامها الأولى، وتولوا زمام القيادة وتحريك الجماهير. ثم ظنوا أن السلطة دانت لهم، فوقعوا في فخ الاستدراج من الثورة إلى قبضة مؤسسة الدولة. واستُلبت الثورة مبكراً من أصحابها بأيدي مُنتفعيها، وخسروا جميعاً. لأن ثورة يناير كانت بلا قيادة تؤمن بها وتكملها، فلا تجهضها عمداً أو غباء.
وعلى الرغم من حالة الإحباط التي خلّفها انتهاء تظاهرات يوم الجمعة الماضي من دون نتيجة وبلا وضوح للخطوة التالية، إلا أنها أخرجت المصريين من حالة الرعونة الثورية. ووضعتهم أمام مسؤوليتهم التاريخية بضرورة مواجهة الواقع من دون استهانة. وكما انكسر في 20 سبتمبر حاجز الخوف، ففي 27 سبتمبر تبدّد وهم الثورة السهلة.
أهم ما في هذا المشهد أنه أزال الغشاوة عن أعين من بالغوا في التفاؤل، وظنوا أنها الجمعة الأخيرة، أو كما أطلقوا عليها "جمعة الخلاص". لو لم تحدث تلك الإفاقة، لظل المصريون غارقين في وهم القدرة على إحداث تغيير فوري أو إسقاط رئيس خلال أيام.
ما حدث أن تظاهرات 20 سبتمبر جدّدت ذكريات يناير، واستدعت في الذهنية المصرية زخم الحشود في الشوارع وسطوة الهتافات المدوية في الميادين. نعم ثورة يناير هي التي أشاعت ذلك الوهم، وهم القدرة على التغيير، فور أن يطلب الشعب ذلك، فبعد يناير/ كانون الثاني 2011، ظن بعض المصريين أن الاعتصام في الميادين والتظاهرات والهتافات الجريئة هي وحدها التي أسقطت حسني مبارك. وترسّخ ذلك الظن في يونيو/حزيران 2013، وصار التخلص من الرئيس مقروناً بالتظاهر واحتلال الميادين. وبلغ الرعب ببعض دوائر الحكم ومؤيديه حد اعتبار أي محاولة للتظاهر مؤامرة تستهدف نظام الحكم، وخطرا مباشرا قد يؤدي إلى إسقاطه. ما يتطلب منع أي تجمع أو مسيرة، مهما تضاءل عدد المشاركين فيها.
ساعد في تبلور هذا الوهم الكبير الدعم متعدّد الأشكال الذي لقيته تظاهرات 30 يونيو 2013، من أجهزة الأمن ورجال الأعمال ووسائل الإعلام، فاستسهل المصريون الأمر. وظنوا أن تظاهرةً كبيرةً، أو مسيراتٍ مفاجئة في أماكن مختلفة، ستسقط أي نظام وتطيح أي رئيس. ولعل هذا يفسر محدودية الأعداد التي خرجت يوم الجمعة الماضي، على غير ما كان متوقعاً.
وثمّة وهم آخر أوجدته وخلّفته ثورة يناير، ليس أقل خطورة من وهم الاستسهال، وهو توهّم إمكانية نجاح ثورة بلا رأس... كل الثورات وحركات التغيير التي شهدها العالم كان لها رؤوس وقيادات، حتى وإن بدأت من دون تخطيط وبلا قيادة مركزية، فالتلقائية في البدايات لا تحقق الاستمرارية، ولا تضمن النجاح في تحقيق الأهداف، ما لم تتلقفها قيادة تستقطب الجماهير وتنتظم حولها الصفوف، بل إن ثورة 25 يناير نفسها لم تكن بلا قيادة، فقد لعبت صفحة "كلنا خالد سعيد" على "فيسبوك"، وغيرها من قنوات التفاعل الشبابية، دور القائد والمحرّك قبل النزول إلى الشارع، ثم تلقف الإخوان المسلمون الثورة من أيامها الأولى، وتولوا زمام القيادة وتحريك الجماهير. ثم ظنوا أن السلطة دانت لهم، فوقعوا في فخ الاستدراج من الثورة إلى قبضة مؤسسة الدولة. واستُلبت الثورة مبكراً من أصحابها بأيدي مُنتفعيها، وخسروا جميعاً. لأن ثورة يناير كانت بلا قيادة تؤمن بها وتكملها، فلا تجهضها عمداً أو غباء.
وعلى الرغم من حالة الإحباط التي خلّفها انتهاء تظاهرات يوم الجمعة الماضي من دون نتيجة وبلا وضوح للخطوة التالية، إلا أنها أخرجت المصريين من حالة الرعونة الثورية. ووضعتهم أمام مسؤوليتهم التاريخية بضرورة مواجهة الواقع من دون استهانة. وكما انكسر في 20 سبتمبر حاجز الخوف، ففي 27 سبتمبر تبدّد وهم الثورة السهلة.