مصر.. أكذوبة الشعب المسالم بطبعه

18 اغسطس 2015
عنف الشرطة يتزايد في مصر(فرانس برس)
+ الخط -

 سؤال من فضلك: إذا صحّت مقولة "المصريون شعب مسالم ووديع بطبعه"، فمن الذين يرتكبون كل جرائم العنف التي نقرأ عنها يوميّاً؟ التعذيب في أقسام الشرطة، الإرهاب باسم الدين، العنف الأسري، التحرش البدني وصولًا للاغتصاب، الاشتباكات بين المتظاهرين والمواطنين أيّاً كانت انتماءات هؤلاء وهؤلاء، السرقات بالإكراه، البلطجة، حوادث العنف من بعض المدرسين تجاه الطلبة والتي يصل بعضها للقتل، المشاجرات المفضية للقتل، إلخ...

هؤلاء جميعًا، هل هم أشخاص يحملون الجنسية المصرية، وينتمون إلى هذا "الشعب المسالم بطبعه"، أم أنهم كائنات شيطانية أرسلتهم علينا فجوة مفتوحة على بُعد آخر تسكنه المسوخ والغيلان، أو بعض من تسللوا لعالمنا من قوم يأجوج ومأجوج؟

الإجابة: يا عزيزي إنهم مصريون

ربما يقول بعضهم إن تصاعد "حالة" العنف بين المصريين إنما هو أمر طارىء وإننا حديثو عهد به، لأسباب يرجعها بعضهم للثورة "التي أفسدت أخلاق الناس"، كما يزعم بعضهم، فيما ينسب آخرون الظاهرة إلى "انهيار منظومة القيم"، بينما يحلو لبعضهم الآخر إعطاء الأمر صبغة دينية، "المصريون ابتعدوا عن ربنا"، والتفسيرات ليست موضوعنا هنا، بل هي تلك المقولة التي لا يُعرَف حقًا متى قيلت ومن قائلها: "المصريون مسالمون بطبعهم".

القاعدة هنا، أن مسألة القول بأن هذا الشعب أو ذاك به هذه الصفة أو تلك "بطبعه" هي أكذوبة وخطأ شائع، ولنتأمل مثالًا بسيطًا: منطقة سكندنافيا، عرفها تاريخ العصور الوسطى بأنها منطقة تعيش فيها قبائل على شيء كبير من الهمجية والوحشية، تتبادل الغزو لمجرد السلب والنهب، وتمارسه ضد بعض الشعوب خارج سكندنافيا، مثل بريطانيا وفرنسا والمدن العربية في الأندلس، وأنهم محاربون بالفطرة، وحشيون بالسليقة يعيشون حياة بدائية في أحوال بالغة السوء. ولكن.. ماذا تتوقعون أن تقول كتب التاريخ عن سكندنافيا القرن الحادي والعشرين؟ إن نظرة واحدة لسياسات السويد، النرويج، فنلندا والدنمارك وأنماط الحياة ومستويات المعيشة والاهتمام بحقوق الإنسان فيها تجعلنا نتسائل: هل الشعب الذي حقق هذه الطفرة هو حقًا الشعب الذي يدرك القارىء لتاريخ العالم أنه آخر شعوب قارات العالم القديم انتقالًا من الهمجية والبدائية للتحضر والتمدُّن؟.

ماذا عن اليابان؟ إن القارىء للتاريخ الياباني في الحرب العالمية الثانية يصاب بارتياع من جرائم الجيش الياباني خلال احتلاله بعض المناطق الصينية، الأمر وصل إلى مرحلة إجراء تجارب وحشية على بشر، والتنافس على سرعة قتل الأسرى. ماذا عن اليابانيين الآن؟ أعتقد أن من تأثر بالرقي الأخلاقي والسلوكي لليابانيين، حتى أطلق على بلادهم لقب "كوكب اليابان"، سيعاني مشكلة حقيقية في تقبُّل فكرة أن هذا الشعب ذاته هو الذي أخرج المجرمين الذين ارتبكوا أعتى انتهاكات حقوق الإنسان في الصين.

ولنعُد إلى المصريين، وعبر التاريخ المصري، فإننا سننفي تلك المقولة عبر وقائع وأحداث، تثبت خطأها.
ولنبدأ من التاريخ القبطي، من قرأوا رواية دكتور يوسف زيدان "عزازيل"، أو شاهدوا الفيلم الإسباني “Agora”،  يعرفون قصة "هيباتيا" الفيلسوفة والعالمة السكندرية التي قتلها بعض المتعصبين من المسيحيين بسبب ما اعتبروه من تصرفاتها، خرقا للقانون الإلهي والاعتداء على المقدسات الدينية. لو تأملنا هذه الواقعة لرأينا الآتي: تعصب ديني، تحريض على العنف، تعذيب، ترويع وإرهاب، قتل، تمثيل بالجثث، هذه جريمة ارتكبها مصريون ضد مصريين، بغضّ النظر عن انتماء وهوية الجاني والمجني عليه، لكنّ الفاعل، أيّاً كان انتماؤه وقضيته، مصري.

اقرأ أيضاً: الانتحار في مصر.. المدنيون يفضلونه شنقاً والشرطيون بالسلاح

ولو قفزنا بخطوة واسعة عبر التاريخ لرأينا ما هو أكثر بشاعة.

-القاهرة – 457هـ / 1065م

نحن الآن في العصر الفاطمي، تحديدًا عهد الخليفة المستنصر بالله، ولأكون أكثر دقة نحن الآن نسير في شوارع القاهرة المنكوبة بالأزمة المسماة "الشدة المستنصرية".

من فضلك، إلزم جانبي، حاول ألا تفارق نظري ولو لثوانٍ فالأوضاع خطرة، حاول أن تسد أنفك عن رائحة الجثث المتحللة لأولئك الذين ماتوا جوعًا ولم يجدوا من يغسّلهم ويدفنهم، فاللحّادون والحانوتية ماتوا جوعًا هم أيضًا. تجنب الاقتراب من البنايات ذات الشبابيك، خاصة لو كانت مفتوحة، فبعض الناس من فرط جوعهم يلقون عبر شبابيكهم حبالًا بخطاطيف يختطفون بها من يوقعه سوء حظه في المرور تحت بيوتهم، ماذا يفعلون به؟ يأكلونه طبعًا، المفروض أن تستنتج هذا وحدك، وهذه مرحلة سبقتها مراحل أكل الدواب ثم الكلاب والقطط والفئران.

أنت لا تصدقني؟ تعال معي، حاول أن تتماسك وأنت تنظر إلى ما أشير إليه. هل ترى هذين الهيكلين العظميين المعلقين على المشنقة؟ حسنًا، إنهما لِلِصَّيْنِ سرقا حمار أحد القضاة ليأكلاه، وعندما قبضوا عليهما وشنقوهما، هل تدري ماذا حدث؟، حسنًا.. يكفي أن ألفت نظرك إلى أن عظام جثتيهما المعلقتين لم تتجرد من اللحم بحكم التحلل.. أعتقد أنك تستطيع فهم هذا وحدك دون أية تفسيرات تقلب المعدة!.

قلت لك إبقَ ملازمًا لي، لا تلتفت لتلك الجلبة، فأسهل شيء هو اختطاف شاب في الزحام لإعداد عشاء جيد. وعلى أية حال لا شيء جديداً لتشاهده، مجرد شخص آخر سيعدمونه حرقًا عقابًا له على اختطافه رضيعًا وقيامه بطهوه وأكله.

أجل يا عزيزي، المصريون في هذه المرحلة تجاوزوا نقطة مجرد القتل والتمثيل بالجثث، ووصلوا لمستوى أكل لحوم البشر!.

لو تجاوزنا العصرين الفاطمي والأيوبي، ودخلنا مباشرة إلى العصر المملوكي من خلال مؤرخين، أمثال المقريزي وابن تغري بردي وابن إياس لوجدنا موقفًا يتكرر أكثر من مرة: السلطان "يتعكر خاطره" على فلان من الأمراء، أو فلان من القادة ينقلب على السلطان، ويأمر السلطان العامة أن ينهبوا دار المهزوم وأتباعه ويحرقوها، فيلبي العامة النداء، وفورًا تصبح دار المذكور خرابة ينعق فيها البوم!.

بل وبلغ الأمر أن السلطان المملوكي "بيبرس الجاشنكير" الذي كان قائدًا للناصر محمد بن قلاوون واستولى منه على الحكم، حين ثار عليه الشعب والأمراء وقرروا خلعه وإعادة الناصر، حاول الهرب من القلعة فما كان من العامة إلا أن طاردوه بالحجارة ورجموه في الشارع وأفحشوا له ولرجاله. حاول إلقاء بعض المال لهم لينشغلوا به عنه، فتجاهلوا المال واستمروا في مطاردته حتى هرب للصعيد ثم اعتقل وقُتِل.

وكذلك كان من المألوف في كتب تاريخ تلك المرحلة أن يُذكَر أن عوام الناس غضبوا على فلان القاضي، أو فلان المحتسب، فاعترضوا طريق موكبه وضربوه و"قصدوا الإخراق به"، أو حتى هاجموا داره ورجموه ونهبوا ممتلكاته.

بل إن ثمة واقعة مريعة شهدها نفس العصر، ففي عهد الناصر محمد بن قلاوون، وفي خضم المؤامرات المتبادلة بين الأمراء المماليك، قُتِلَ أمير يُدعَى "الشجاعي"، وكان مكروهًا من العامة بسبب مظالمه ومصادراته، وقرر القادة أن يطوفوا برأسه في شوارع القاهرة، فانظر ماذا كتب المؤرخ ابن إياس الحنفي عن ذلك: "وكان أكثر الناس يكرهون الشجاعي من ظلمه، فصاروا يعطوا المشاعلية (الجلادين) شيئًا من الفضة، ويأخذون منهم رأس الشجاعي، ويدخلون بها عندهم في الدار، ولا يزالون يصفعونها بالنعال والقباقيب حتى يشتفوا منه، فدخلوا بها حتى حارة زويلة، وصار اليهود يدخلون بها عندهم ويصفعونها بالنعال، وربما قيل كانوا يبولون عليها، فأقاموا يطوفون بها ثلاثة أيام متوالية، حتى قيل إن المشاعلية كانت معهم برنية خضراء، يحصّلون فيها ما يدخل عليهم من الناس، من فضة وفلوس، فقيل إنهم ملأوا تلك البرنية فضةً ثلاث مرات".

هل يدرك القارىء ما الذي يصفه المؤرخ؟ هل يدرك فكرة أن يقرر إنسان أن يدفع مبلغًا من المال لجندي، ليعيره رأس قتيل يصفعه ويبول عليه فقط ليشفي غليله؟

ولندع العصور القديمة جانبًا ولنعد إلى عصرنا الحديث.. ففيه ما يكفي من إثباتات لخطأ فكرة "الشعب المسالم بطبعه".

من منا لم يلاحظ، ارتفاع معدلات العنف في السنوات العشر الأخيرة مثلًا؟ بل وارتفاع معدل الوحشية في الجرائم، فما كان قديمًا قتلًا بالصدفة على هامش جريمة سرقة بالإكراه صار قتلًا بالعمد لضمان نجاح الجريمة، وما كان اغتصابًا صار اغتصابًا ثم قتلًا ثم تمثيلًا بالجثة، وما كان استعراضًا للقوة وبلطجةً صار تمزيقًا بالسنج والسيوف والمطاوي، وما كان يجري من جرائم العنف بين الأغراب صار يجري تحت سقف البيت بين أفراد أسرة واحدة، أب وابنه، ابن وأمه، أم ورضيعها.

اقرأ أيضاً: مصر: الاغتصاب سلاح الاستبداد لتعذيب المعتقلات

لنأخذ عينة عشوائية من أشهر جرائم العنف في السنوات الأخيرة:

-عنف ديني:
جرائم حرق كنائس في الصعيد، جريمة قتل رجل دين بحجة دعوته للمذهب الشيعي الإمامي في الجيزة، خطاب تحريضي من بعض الشيوخ ضد معارضي التيار الديني في الفضائيات والفيديوهات الخاصة، جرائم تنظيم ولاية سيناء بحق رجال الجيش والشرطة.

-عنف سياسي: الاشتباكات التي نسمع عنها بشكل شبه يوميٍّ بين المؤيدين لهذا والمؤيدين لذاك، بغضّ النظر عن انتماء هذا وذاك ومَنْ مع كُلٍّ منهما، وما يسقط في خضم كل ذلك من مصابين وقتلى، أيّاً كانت مبررات وذرائع كل طرف لاستخدام العنف ضد الطرف الآخر.

-عنف أسري: أم تقتل رضيعها لتهرب مع عشيقها، أب يقتل ابنه في مشاجرة بينهما، زوج يصيب زوجته بكسور بحجة تأديبها، زوجة تقتل زوجها بسبب سوء معاملته لها.

-عنف كروي: تكفي متابعة الحرب بين كُلٍّ من أولتراس الأهلي وأولتراس المصري البورسعيدي، لتدرك إلى أية مرحلة من العنف وصل المصريون.

-عنف شرطي: يكفي الاطلاع على القائمة الطويلة لمن ماتوا تعذيبًا في الأقسام، أو خلال الفض الوحشي للمظاهرات أيّاً كانت انتماءاتها.

السؤال: ما هو العامل المشترك بين كل هؤلاء الذين مارسوا ويمارسون هذه المستويات المرعبة من العنف؟

هل يمارس الشرطي التعذيب فقط لأنه شرطي؟ هل الإخواني الذي أطلق النار على معارضيه في القائد إبراهيم، (بحضوري بالمناسبة)، فعلها فقط لأنه إخواني؟ هل تورط أولتراس المصري في مذبحة بورسعيد سببه كونهم من أهل المدينة؟ هل جريمة القتل البشعة بحق الشيخ الشيعي سببها أن من قاموا بها كانوا سُنّة؟

الإجابة: العامل المشترك بين كل هؤلاء هو أنهم جميعًا مصريون، فقط اختلفت أقدار كل منهم فوضعته في مكان مختلف مهنيًا أو سياسيًا أو دينيًا عن الآخر، ولكن بذرة العنف واحدة.

ولا يخطىء القارىء الفهم فيحسب أنني أقول إن المصري "عنيف متوحش بطبعه"، فلا أنا أقول هذا، ولا أنا أقول إنه مسالم بطبعه، بل الغرض من كل تلك الأمثلة أن أقول ببساطة إن "المصري إنسان"، معرض لمختلف العوامل الزمانية والمكانية وتغيراتها التي تجعل طبيعته تختلف عبر الزمن، من الشخص المسالم الطيب الوادع، إلى الشخص العنيف القابل لارتكاب أبشع الجرائم من مجرد الضرب وحتى القتل والتعذيب والتمثيل بالجثث وأكل لحوم البشر!.

وحتى علميّاً، فإن العلوم المختصة بتفسير الجريمة وتحليل شخصية المجرم، وكشف مسببات وقوع الجريمة وانتشارها لا تقر فكرة أن انتماء شخص إلى شعب بعينه يعني أن يكون بالضرورة قابلًا للوقوع في هذا الجرم أو ذاك، أو غير قابل له، فهي في فحصها وتأملها المسببات والعوامل المحيطة إنما تلتزم ظروف الزمان والمكان.

خلاصة القول إذن: فكرة أن الشعب الفلاني به الصفة الفلانية بطبعه وبفطرته ليست بالدقة، التي تجعلها قاعدة يُعتَمَد عليها في تفسير السلوكيات الجماعية أو الظواهر المجتمعية،  فهي فكرة رخوة هشة، لا تصلح سوى للانضمام للقائمة الطويلة من الأكاذيب والأساطير التي ينتجها التعصب، وهي إن كان ظاهرها الاعتزاز بالانتماء فإن باطنها للأسف هو زرع البارانويا في نفوس المؤمنين بها فيكون مبدأهم هو "نحن بخير وباقي العالم ليس كذلك".

اقرأ أيضاً: "غرداية" الجزائر... غياب الدولة يهدد 11 قرناً من التعايش

-المراجع:


-بدائع الزهور في وقائع الدهور: ابن إياس
-علم الإجرام والعقاب: د.رمسيس بهنام
-تاريخ الفاطميين: د.محمد سهيل طقوش
-السلوك لمعرفة دول الملوك: المقريزي
-النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة:ابن تغري بردي