في هذا السياق، استند المركز في دعواه إلى دراسة أعدها على مدار عام كامل، كشف عنها رسمياً أمس الثلاثاء، بعنوان "نحو الإفراج عن مصر"، عاد فيها إلى الأرشيف البريطاني الوطني ودار الكتب المصرية ومكتبة الجامعة الأميركية بالقاهرة، وحصل فيها على مستندات ووثائق تكشف للمرة الأولى أن "قانون التجمهر الذي صدر تحت الاحتلال البريطاني الفعلي لمصر في بداية الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، كان غير دستوري لعدم صدوره من السلطة المختصة، وهي الخديوي عباس حلمي الثاني، وعدم عرضه على الجمعية التشريعية القائمة آنذاك. كما أُلغي قانونياً عام 1928 بموافقة جميع أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، إلا أن حاكم مصر آنذاك الملك فؤاد الأول امتنع عن نشر قانون الإلغاء في الجريدة الرسمية، بالمخالفة لدستور 1923".
وأظهرت دراسة المركز لمحاضر مجلس النواب أنه في 15 يناير/كانون الثاني 1926، اقترح عضو مجلس النواب عن كفر الدوار محمد يوسف بك، مشروع قانون بإلغاء قانون التجمهر على أساس أنه صدر في وقت استثنائي، وهو بداية الحرب العالمية الأولى. ووصفه بأنه "من الأحكام العرفية، استخدمه رجال السلطة التنفيذية مصادرة لحرية الأفراد وتنكيلاً بهم، وأنه قانون استثنائي يفتش في النوايا، تم القضاء عليه بموجب الدستور (عام 1923) الذي أقرّ حرية الاجتماع"، وتم قبول الاقتراح.
ثم قرر مجلس النواب في 27 فبراير/شباط 1927 مشروع إلغاء قانون التجمهر إلى لجنة الداخلية لتقييم القانون، وفي 13 ديسمبر/كانون الأول 1927، عقدت اللجنة اجتماعاً لبحث مشروع القانون، حضره وكيل وزارة الداخلية علي باشا جمال الدين، الذي أبلغ اللجنة بأن "لا مانع للحكومة من إلغاء قانون التجمهر"، معلنة موافقتها على مشروع القانون المقدم بإلغائه. وفي 20 ديسمبر 1927 وافقت لجنة الداخلية بإجماع الآراء على مشروع قانون بإلغاء قانون التجمهر.
وبعد موافقة مجلس النواب على مشروع قانون إلغاء قانون التجمهر، أُحيل إلى مجلس الشيوخ، الذي بدوره أحال القانون للجنة الأمور الداخلية. ووافقت اللجنة بإجماع الآراء على مشروع القانون بإلغاء قانون التجمهر، وأحالته لجلسة عامة بمجلس الشيوخ، ووافق عليه بإجماع الآراء في 30 يناير/كانون الثاني 1928.
وأُحيل القانون إلى الملك فؤاد لإصداره بناء على المادتين 34 و35 من الدستور القائم آنذاك. وكان أمام الملك خياران: الأول أن يعترض على القانون ويعيده مرة أخرى للمناقشة، فيكون مطلوباً موافقة ثلثي أعضاء مجلسي النواب والشيوخ لإقراره. أما الخيار الثاني فهو أن يمرّ شهر كامل على تاريخ إرساله للملك، من دون أن يعترض عليه، بالتالي يكون القانون مصدقاً وصادراً بقوة الدستور.
وأكدت الدراسة أن الأمر الثاني هو ما حدث فعلاً، إذ لم يعترض الملك فؤاد على القانون ولم يعده إلى البرلمان، بل أرسل رئيس ديوانه إلى المندوب السامي البريطاني اللورد جورج لويد في 6 مايو/أيار 1928، طالباً منه المساعدة في التصدي لرغبة البرلمان في إلغاء قانون التجمهر، وأبلغه بأن القانون ورد إلى الملك قبل 27 يوماً، وأنه سيصبح قانوناً مفعلاً بحلول يوم 9 مايو بقوة الدستور.
وكشفت مراسلات بين لويد ووزير الخارجية البريطاني السير أوستن شمبرلن، خلال تلك الفترة، أن الأخير أصدر تعليماته إلى لويد بعدم الاستجابة لطلب الملك، وأن المسؤولين البريطانيين تباحثا سلفاً في شأن إلغاء القانون بعدما أقر البرلمان المصري ذلك. وكان الرأي البريطاني السائد هو أن "قانون التجمهر قمعي ومستبد ولا يمكن تسويق دفاع بريطانيا عنه أمام الجماهير البريطانية الديمقراطية"، في حين دافعت بريطانيا عن بقاء واستمرار قانون التظاهر رقم 14 لسنة 1923 الذي ظل قائماً حتى صدور قانون التظاهر الحالي رقم 107 لسنة 2013.
في هذا الإطار، اعتبر مدير مركز القاهرة، بهي الدين حسن أنه "آن الأوان أن يبادر رئيس الجمهورية فوراً بإزالة هذا العار التاريخي والقانوني، وتفعيل إلغاء قانون الاحتلال البريطاني، الذي كان هدفه قمع حق المصريين في الاحتجاج ضد الاحتلال. كما يتعين الإفراج الفوري عن كل المُصادرة حريتهم بمقتضى هذا القانون الجائر والميت، والاعتذار لهم وتعويض أسرهم".
وأضاف أن "الحكومات المتعاقبة على درب الاحتلال حتى بعد بلوغ الاستقلال، ووصولاً لعصرنا الحالي، استعاضت عن قوات الاحتلال، بالشرطة الوطنية المصرية لإخراس وقمع أصوات مواطنيهم. وتمسك المشرع المصري بالفلسفة القمعية ذاتها، معتمداً على الجمل الفضفاضة والمصطلحات المطاطة التي تطلق سلطة قوات الأمن من دون قيود، بل تبيح استخدام الأسلحة النارية القاتلة ضد المتظاهرين السلميين".
بدوره، علّق مدير برنامج مصر في مركز القاهرة محمد زارع على الدراسة قائلاً "رحل الاستعمار لكن الحكومات الوطنية المتعاقبة وجدت في قانون التجمهر سلاحاً قمعياً فعالاً. واعتبرته هدية من العهد الذي وصفه الحكام الوطنيون بالبائد، بل كان مدهشاً كيف ذهبت تلك الحكومات الوطنية لما هو أقسى من بطش الاستعمار، فأضافت للقانون مواد جديدة تشدد من أحكامه. واستندت له كمرجع لتشريعات قمعية مكملة، قننت للمرة الأولى استخدام الأسلحة النارية القاتلة ضد المتظاهرين السلميين".
وأشار إلى أن "السلطات الوطنية المتعاقبة وضعت تشريعات لاستخدام القوة المميتة لقمع المتظاهرين، مثل قانون الشرطة رقم 109 لسنة 1971 وقرار وزير الداخلية رقم 156 لسنة 1964، الذي أجاز استخدام حتى الرصاص، لتفريق أي تجمهر مكون من خمس أشخاص".
ولفت زارع إلى أنه "في عام 2013 لم يخجل واضعو قانون التظاهر من الإشارة لقانون التجمهر، باعتبار أن القانونين متكاملان"، مستطرداً بأن "البريطانيين لم يستطيعوا تبرير استمرار سريان هذا القانون أمام شعبهم بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، بينما فرضه الحكام المصريون بعد الاستقلال على مواطنيهم بكل خفة، وما زالوا يتمسكون به رغم مرور 103 أعوام على صدوره و89 عاماً على إلغائه".
وذكر مركز القاهرة في بيان، أنه "كان من المفترض نشر هذه الدراسة العام الماضي، لكنها تأخرت بسبب الملاحقات الأمنية المتواصلة للمركز، التي ترتدي ثوباً قضائياً، والتي شملت تهديد مديره بالقتل ومنع أعضاء آخرين من السفر وملاحقتهم أمنياً، ثم اعتماد محكمة على طلب أمني بالتحفظ على أموال المركز ومديره، من دون أدنى مسوغ قانوني أو مراعاة للشكليات الإجرائية القضائية. وذلك في إطار ما يسمى بقضية التمويل الأجنبي لمنظمات حقوق الإنسان".